علقمة بونار
رياح الغربي المنعشة تقبل الوجوه؛ مراكب تتنقل بحماس النمل بصفحة المتوسط؛ روائح عبثية تتسل من الجوار؛ رائحة الشاي المنعنع؛ الشقوفة؛ والسمك المشوي؛ البيصار؛ ورائحة القهوة المعطرة.
موسيقى مختلطة تكسر صمت المكان، تحاكي صراعا خفيا بين الأجيال؛ عقيل؛ لمشاهب؛ إليسا؛ جيستن بيبر؛ ميتر جيمس.
شيخ يبيع المكسرات؛ طفل يبيع الكلينكس؛ امرأة تتسول؛ شابة تقف إلى جانب الحائط تلقي نظرات مثيرة؛ عَلَّ واحدا من المحرومين يستعير منها نشوة عابرة.
تذكُّر يبعث على الحسرة واللامبالاة.
دفء السيجارة؛ وحلاوة القهوة؛ ولسعة البرد؛ تغري باسترجاع ماض ما؛ وأيام ما:
براين جونس؛ تينسي ويليامز؛ بول بولز؛ جان جنيه؛ شكري؛ كتاب ينقبون بين المكتبات والحانات عن إلهام يكسر عبثا أزليا يثبط النفوس.
متسكعون ينقبون عن دفء بين أفخاد نساء هزمهن القدر.
مهزومون يرفضون الاستسلام؛ ويأبون التخلي رغم انقطاع الحبل الذي كان يربطهم بهاته القطعة من الطبيعة.
عمي يعقوب؛ أو مولاي يعقوب؛ -كما كانت تناديه رحيمو اليدرية بائعة البيض والحليب البلدي- بائع اللوحات والكتب القديمة؛ عاد بعد رحيل ليتشبث بأرض يسميها نهد البسيطة.
عاد بعدما لفظته هاته ورفضته تلك؛ عاد متجاهلا كل شيء كافرا بالانتماء والذكريات والعلاقات؛ عاد إلى لوحاته وكتبه التي ظلت وفية بالعهد رغم اغتراره بالرحيل إلى أرض الإله.
ثوريا؛ الفتاة ذات الشغف الكبير؛ الجسورة التي لم تثنيها عن تمردها قوة؛ ظلت تجاهد لتعيش؛ فرت من مجتمع الأعراف والتقاليد إلى البزخ بين الجنة والنار “إنني أعيش مع الملائكة” جملة كانت تواجه بها كل من يسائلها عن تشبثها بهاته الدروب رغم فقدانها البريق الذي كان لها.
تتراقص ثريا على نغمات ليرة جهجوكة؛ مستسلمة لسلطة العزف وقوة الانجذاب؛ حتى تخر صريعة على الأرض تستيقظ في الصباح؛ خفيفة الروح؛ صافية الوجدان؛ مشرقة الوجه؛ مرددة: “جهجوكة صلاتي” وكأنها تبرر انغماسها في طقوس جهجوكة.
بوجميع الفتى الأسمر ذو الشعر المجعد؛ كان يجيد غناء الغيوان؛ يصدح بمواويل باطما وبوجميع؛ حتى نُسي اسمه وأصبح يدعى بوجميع أحد مؤسسي الغيوان؛ يجلس بعيدا عن الجمع؛ يفتت سيجارة يمزج طعمها بحبيبات من الحشيش؛ يعيد لفها من جديد؛ تستوي بين يديه على شكل جثة غير متقنة التكفين؛ يدفيها بولاعاته؛ ثم يجعلها في فيه ويشرع في ترديد:
“ياجَمَّال ردْ جْمالك علينا
راه حنا ولاد ناس وفالعز تربينا
عيوننا على شوفة لمليح دواوْ
وانت ماشي زينْ لا ترمي الغبار فعينينا
قلوبنا بكلمة المحبة دواو
وانت قلبك حجر .. نوض وخطينا”
“ولدنا لنبكي؛ لنشقى؛ لنضخك على جراح البؤساء؛ لنزيد من عمق آلامنا؛ وآلام المنكوبين من حولنا؛ لم نبعث في هذه الدنيا لنكون مسالمين..”
يردد جبيلو؛ السبْسي كما كان يناديه فرانكو الإسباني المزلوط الذي كان يهوى التسكع رفقة جبيلو ومن شاكله. كان السبسي متشائما لدرجة أنه لم يكن يؤمن بشيء؛ “كل شيء نسبي حسب رأيه؛ كل شيء مبني على المصالح؛ ولا شيء يستحق الاهتمام؛ لو لم يقبلنا هذا الوطن بخبثنا فهناك أوطان تقبلنا؛ لو رفضتنا جماعتنا هناك من يقبلنا؛ هناك المتسكعون مثلنا؛ والملعونون مثلنا؛ هناك المعتوهون الذين يروننا أطواق نجاة بالنسبة لهم. لا شيء يستحق منا هذا الاكتراث؛ ولدنا لنموت فلتكن صدورنا مشروحة لاستقبال الموت في كل اللحظات.”
طنجة ذكريات التصابي واكتشاف الذات؛ الشيخ ذو العمامة واللحية البيضاء المرسلة على الصدر؛ المطرزة بسبحة سوداء؛ تثير انتباه العابرين. لص يعدو في الشارع هربا من جلاد يتربصه. عاهرة تمنح سعادة لمن سَرقت منهم الطبيعة حيونيتهم.
طنجة زقاق يرسل تحية عبر ألوان ولدت من نور.
الكتابة؛ الرسم؛ التشرد؛ والتشظي والانصهار في وسط يرفض الانتماء: العرب؛ الأمازيغ؛ اليهود والموريسك.
اللذة؛ الألم؛ المعاناة؛ الجحيم.
الحلم؛ الابتسامة؛ التفاؤل.
الحنين؛ التذكر البكاء.
طنجة التلاشي. طنجة كل شيء.