سيد محمود
أول ما لفت نظري يوم وفاة الكاتب الكبير اسامة أنور عكاشة، نصوص المرثيات التي كتبها عشاقه بموقع “الفيس بوك ” والتي سعت بايجازها البليغ الى تأطير حضوره في الذاكرة العربية المعاصرة التي تلعب فيها الصورة التلفزيونية الدور الأكبر. تركزت عبارات الرثاء على دوره التأسيسي في الارتقاء بالدراما التلفزيونية والصعود بها الى مستوى الادب الرفيع، حتى ان ناقدا كبيرا مثل الراحل د. عبد القادر القط “صك” وهو يكتب عن أعمال عكاشة تعبير “الأدب التلفزيوني” ليفرق بين الدراما التي ولدت بين يدي عكاشة والدراما التي سبقت احترافه لها، والى جانب الايجاز الذي وصل الى حد الاختزال في توصيف دور عكاشة انتبهت الى ان معظم المرثيات كتبت بأقلام ينتمي أصحابها الى شريحة عمرية تقع بين 25 عاما و60 عاما. أنا ممن عاشوا “زمن أسامة أنور عكاشة” الذي بدأ من نهاية السبعينيات وحتى رحيله.
لزمن عكاشة ملامحه التي ينبغي تأملها قبل ان نرصد ما أنجزه في حياتنا المعاصرة، فعندما بدأ عمله ككاتب دراما تلفزيونية بالمعنى الاحترافي كان التلفزيون قد أصبح له دوراساسي في البيت المصري، وليس كسلعة تكميلية كما بدأ في الستينيات. ساعدت ظروف عديدة على ذلك، أهمها هجرة المصريين الى الخليج وكان التلفزيون في مقدمة السلع التي أتت بها قوافل العائدين منه، ودخول السينما المصرية في نهاية السبعينيات منعطفا حادا انتهى الى انتاج افلام يصنف معظمها في دائرة “الافلام التجارية”، بينمات كان الانتاج التلفزيوني يعيش طفرة معاكسة ساعدت على ازدهار الدراما التلفزيونية التي توافرت لها أموال من شركات كبيرة أدركت ان التلفزيون هو بالفعل “مصنع جديد لانتاج الاحلام”. بدأ مع تلك الشركات التحول من عالم السهرات التلفزيونية والسباعية الى المسلسل الدرامي الطويل، فحتى ذلك الحين لم تكن ذاكرة الناس قد ارتبطت بالمسلسل التلفزيوني باستثناء عمل مثل (القاهرة والناس) لمحمد فاضل الذي احتكر الدراما الرمضانية محققا نجاحات كبيرة في (أبنائي الاعزاء شكرا) الذي عرف بـ(بابا عبده) ومن بعده (صيام صيام).
في ذلك الزمن الذي اسماه غالي شكري بزمن “الثورة المضادة” والانقلاب الكبير على المكاسب الاجتماعية للناصرية، كانت مصر قد بدأت تعرف معاناة الانفتاح الاقتصدي الذي اسماه الراحل احمد بهاء الدين “انفتاح السداح مداح”، وتتحسر النخبة على انقلاب سلم القيم الاجتماعية. كان اسامة انور عكاشة يهيأ نفسه للرحيل من أرض الادب الى الدراما التلفزيونية وقادته المصادفة وحدها الى اللحظة التي غيرت من مصيره، فقد حدث كاتبا كبيرا هو سليمان فياض صاحب الرواية الفاتنة “أصوات”، قرأ احدى قصص عكاشة بمجموعته الاولى وتحمس لكتابتها في سهرة تلفزيونية اخرجتها علوية زكي، ثم اختار السيناريست كرم النجار قصة أخرى له (الإنسان والجبل) وأخرجها فخر الدين صلاح. شجع فياض عكاشة على كتابة السيناريو، لانه وجد في كتاباته العناصر التي تؤهله لكتابة “الصورة” أو السناريو.
مخاوف كثيرة راودت عكاشة قبل ان يحسم خياره بالاتجاه الى الدراما التلفزيونية والابتعاد ولو بشكل مؤقت عن “الادب” بوصفه الفن الارقي الذي قدم فيه اعمالا منها مجموعته الأولى (خارج الدنيا) التي قدمها أمين يوسف غراب صاحب (شباب امرأة) عام 1967، وبطبيعة الحال ظلت نظرة عكاشة لما كان يقدمه من اعمال تلفزيونية ناجحة مؤرقة بالحنين الى “الأدب” الخالص الذي تنتجه النخبة المغلقة على عالمها… نخبة تمنى لو كان جزءا منها، ففي مقدمته روايته الاخيرة (سوناتا لتشرين) التي اصدرها عن دار العين عام 2009 كتب على الغلاف: “لم أستطع أبدًا نسيان الحب الأول وظللت متشبثًا بالأرض التى شهدت فجر موهبتى… وحرصت على بقاء انتمائى الأول لأصولى الروائية والقصصية… حيث يمارس الكاتب فيها حريته الكاملة ويتسع أمام فضاءها غير المحدود متسائلًا: هل يغفر لى قرائي غياباتي وندرة إنتاجى؟ أم تراهم يلتمسون لي شيئًا من العذر؟ أم سيؤجلون الحكم على ما بعد تذوق الثمرة؟”
محفوظ الملهم
في بداياته مر عكاشة في الطريق نفسه الذي مر منه مجايليه من كتاب الستينيات، انشغل معهم بالاحلام ذاتها وتعطش الى كتابة نصوص تقوم على مراجعة التجربة الناصرية ومساءلتها بعد انهيار حلم عبد الناصر الكبير، فهو لم يكن بعيدا عن الأثر الذي أحدثته الطليعة الادبية لجيله ممثلة في مجلة “جاليري 68″، لكنه آثر ان يمضي في طريق أخر بسبب رغبته في الانفتاح على مساحة اوسع من الناس لذا وجد في الدراما التلفزيونية الكثير من عناصر التعويض عن صورة الاديب التي تمناها لنفسه… صورة فيها الكثير من عناصر الاغراء، فالناس كانت لا تزال في ذلك الزمان تنظر بوقار الى طه حسين ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وتتابع “شغب” يوسف ادريس في مقالاته بالاهرام، وتعتقد في الكثير من المقولات التي يدفعها لويس عوض الى حقل الحياة اليومية مثل كاهن لا يكف عن صناعة الاساطير.
نموذج محفوظ كان يؤرق عكاشة أكثر من كل تلك النماذج الراسخة، فأسامة كان مثل جمال الغيطاني ويوسف القعيد وابراهيم اصلان وغالبية كتاب الستينيات المسحورين بصاحب (زقاق المدق) وبقدرته على التحاور مع نصوصهم والاستفادة منها وتطوير كتاباته لتسبقهم جميعا في قدرتها على مراجعة ما جرى من تحولات. في تلك السنوات كان محفوظ انتهى من كتابة روائعه الفلسفية التي بدأت بـ(أولاد حارتنا) وتواصلت مع (ثرثرة فوق النيل) و(الشحاذ) و(الطريق) و(السراب)، وكان الأسبق فيها لمناقشة تناقضات التجربة الانسانية وتساؤلاتها الكبرى، كما كان بخلاف الستينيين غير مغرم بما أنجزته التجربة الناصرية وقادر على ادراك تناقضاتها، كما عبر عن ذلك في (ميرامار)، وفي نفس الوقت لا يزال مشدودا بالحنين الى “زمنه الوفدي” ومنسجم اكثر مع ما أنجزته “ليبراليته المنقوصة” التي انحاز لها في (السمان والخريف) كاشفا عن نقطة للمفارقة بينه وبين مريديه من الكتاب الجدد، لكنه في المقابل كان لا يمل من كسب أنصار جدد في السينما التي كان جمهورها قد منح لمحفوظ سلطة “الكاتب الجماهيري”.
هذه السلطة السحرية كانت أكثر ما أغرى عكاشة في مهنته الجديدة ووجد بفضل نموذج “محفوظ” الكثير من العزاء، ربما قال لنفسه ذات يوم: “ها أنا أمضي في نفس الطريق الذي بدأه الاستاذ”، لكنه لم يكن يعلم ان موهبته ستقوده الى ابتكار زمنه الخاص. في محاولاته الاولى بدا متعثرا وغير قادر على صياغة “الشفرة” التي صاغت بعد ذلك علاقته بالجمهور العام، فمن يتذكر مسلسلاته الاولى مثل “المشربية” و”أبواب المدينة ” سيتذكر على الفور كيف كانت مشغولة بنفس مسرحي أكثر منه تلفزيوني، تعلي من الحوار على حساب الصورة، التي كانت فقيرة بحكم امكانيات ذلك الزمان وتتردد فيها أصداء لمقولا ت كبيرة عن “عزلة المثقف وأزمته الوجودية”. سمات الحوار المسرحي تخلص منه مع عمله الأول الكبير “الشهد والدموع” في بداية الثمانينيات، ومن يعرف أدب نجيب محفوظ جيدا سيدرك على الفور العلاقة بين هذا العنوان ورواية “ميرامار”، فعامر وجدى أحد أبطال الرواية يقول: “الإسكندرية قطر الندى، نفثة السحابة البيضاء، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء، وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع”.
من هذه الجملة أخذ عكاشة اسم مسلسله التليفزيوني الذي دشن شهرته العريضة، وأعلن مولده ككاتب استثنائي صاحب صنعة. وحسب رؤية الناقد طارق الشناوي فقد ولدت على يد عكاشة مع هذا المسلسل “مكانة” كاتب السيناريو. وأصبح للمرة الأولى في تاريخ الدراما اسم السينارست ضمانة لجودة المسلسل، والتترات تبدأ باسمه قبل أسماء المخرج والنجوم. وهي نقطة تحول مهمة، ربما عوضت عكاشة قليلا عن احتياجه المفهوم للقب “الكاتب” الذي يحيل الى كاتب الادب وليس الى “الدراماتورج” او كاتب الدراما، وزاد من حجم التعويض ان مسلسلاته أصبحت منصة لا تخيب لاطلاق نجوم يصعدون الى سماء النجومية بسرعة الصاروخ، ومن ينسى في هذا المسلسل أداء محمود الجندي وخالد زكي ونسرين وعفاف شعيب التي خرجت بدورها في (الشهد والدموع) من فضاء المرأة البضة الباهتة التي ظهرت في بعض الافلام وهي تضطرب في اداءها الانثوي المفتقد الى عنصر الاغراء، وارتقت الى دور فيه “أمومة حارقة” لا تخلو من أسى تصنع صلتها بالناس من بكاء كان لا ينقطع، لكنه كفيلا بصنع أواصر انتماء كانت بحاجة اليه قبل ان تصل الى دورها الثاني المؤثر في (رأفت الهجان).
مساحات الاداء التي وفرها عكاشة لنجوم اعماله، تميزت بحوارات دافئة لم تأت خالية من تساؤلات عميقة عن معنى الوجود وعن حدة الصراع الطبقي ومرارة الافتقار الى الحد الادنى من معنى العدالة الاجتماعية. كان يحفر مجرى نهره الخالد مع الناس وساعده على ذلك اللجوء مع مخرج العمل الى تقنية لم تكن شائعة… وهي “اغنيات التيتر” التي كانت كما يقول النقاد البنييون في عالم الادب “العتبة الاولى للولوج الى النص”. كانت أغنيات مسلسلاته هي خطوتنا الاولى لارتياد عالمه والتعرف على تفاصيله، ولا تزال غالبية الاغنيات التي قدمت لمسلسلات قائمة بحد ذاتها علامة على عالمه، بداية من “وقال البحر” و”عصفورالنار” وصولا الى “الشهد والدموع” ثم أغنيات “ليالي الحلمية” و”وزيزينيا” وأذكر ان المطرب الكبيرعلى الحجار قال لي مرة “غنائي لمقدمات مسلسلات عكاشة كان ضمانة لصيانة صوتي من مرارة الغياب وتقليلات السوق”. والى جانب تقنية “التيتر” كعتبة للنص، راهن عكاشة ايضا على صيغة من العمل تقوم على الشراكة مع مخرجين متميزين من أمثال اسماعيل عبد الحافظ ووأنعام محمد علي ومحمد فاضل وجمال عبد الحميد وأحمد صقر.
لكن الجانب الاكبر من تحقق أسطورة الكاتب التلفزيوني ممثلة فى عكاشة يرجع الى ادراكه المبكر لسطوة “التلفزيون”، التي جاءت الفضائيات لتؤكدها وتغير بها الكثير من المعادلات الثابتة في طرق صياغة وعي الناس، فبعد ان كانت النخبة تصنع هذا الوعي، جاءت مع التلفزيون، برامج أودراما، قيم وفئات جديدة تراهن على “الشعبي” أكثر، حتى ان الناقد السعودي البارز عبد الله الغذامي تحدث في كتابه (الثقافة التلفزيونية) عن “سقوط النخبة وبروز الشعبي، مؤكدا ان الصورة التلفزيونية جاءت لتكسر الحاجز الثقافي والتمييز الطبقي بين الفئات فوسعت من دوائر الاستقبال… وهنا دخلت فئات لم تكن محسوبة على قوائم الاستقبال الثقافي وزعزعت مفهوم النخبة… هذا لا يعني ان النخبة اختفت ولم تعد قائمة وإنما فقدت دورها في القيادة والوصاية وتلاشت تبعاً لذلك رمزيتها التقليدية…”. وفقا لهذا المعنى درس باحثون، أبرزهم والتر رامبرست، أعمال عكاشة باعتبارها أحد أدوات “الثقافة الجماهيرية” في مصر، كما درستها أيضا ليلى أبو لغد في أعمالها عن الدراما والثقافة الجماهيرية في مصر، راصدة كيف تلقت “الناس العادية” الكثير من قيمها الثقافية والفكرية من خلال اعماله، فكانت مسلسلاته تحظى بحجم اقبال غير عادي.
الكثير من أبناء جيلي تلون وعيهم بأفكار مسلسلاته… التي اعتبرها “خبز أيامنا”، لتصبح محورا لنقاشات تعقب كل حلقة من “الشهد والدموع”، في مرحلة جعلت من سنوات التسعينيات العصر الذهبي لزمن عكاشة. فمنذ نهاية الثمانينيات كان قد بدأ تألقه مع “ابو العلا البشري” ثم “الراية البيضا”، وفي العملين نلمح في البطل… ملامح “دون كيشوت”، الساعي الى تغيير حياة من حوله حتى لو قاده ذلك الى محاربة طواحين الهواء، فما يعنيه انه صاحب رسالة في التغيير. التقط الناس دائما هذه الرسالة التي حملها اليهم نجوم بوزن محمود مرسي وجميل راتب وسناء جميل، وفي العملين بالتحديد كان عكاشة قد بدا الاعلان عن هويته السياسية وانتماءه الى “الناصرية”، ليس بمعنى المشاركة في تنظيم سياسي وانما بالمعنى القائم على ترتيب أولويات على رأسها العدالة الاجتماعية وفضح قيم عصر الانفتاح والدفاع عن مكاسب الفقراء في زمن عبد الناصر، ففي التحليل الاخير لا فرق بين ممارسات فضة المعداوي والمقاول الجشع في “أبو العلا البشري” كما انه لا فارق بين وعي ابو العلا وطموحاته ورهانات السفير مفيد أبو الغار غير ان الثاني كان أكثر قدرة على بناء تحالفات تقوده للمواجهة التي لا زالت مفتوحة، ورغم النجاح الجماهيري الشديد الذي تحقق للعملين الا انه النجاح الذي تراجع ليفسح المجال لنجاح أكبر تحقق مع “ليالي الحلمية” التي يمكن اعتبارها “ايقونة” عكاشة التي مكنته من صياغة وجدان الشارع المصري واحتلاله طوال عشر شنوات صدارة الاعمال التلفزيونية.
مع (الليالي)دخل الاختبار الاكبر… “الحوار” مع ثلاثية استاذه نجيب محفوظ، فبينما اشتغل الاستاذ على فترة زمنية تبدأ قبيل ثورة 1919 وتنتهي بعد قيام ثورة 1952، اختار عكاشة ان يبدأ من النقطة نفسها لكنه توسع ليشمل عمله زمن اكبر يمتد حتى عصر مبارك، وهي نقط ضعف رئيسية في المسلسل، الا ان عكاشة، على الاقل في الثلاثة اجزاء الأول، نجح في تحقيق جملة مكاسب… أهمها اجراء مصالحة مع تاريخ كان مطمورا بسبب ممارسات بعض رجال ثورة 1952 وهو دور حزب الوفد في تاريخ مصر المعاصر، كما أعاد رسم صورة “الرأسمالية الوطنية المصرية ورجالها سواء في الجناح الصناعي لها ممثلا في سليم البدري او جناحها الزراعي ممثلا في العمدة سليمان غانم، وهي صورة غابت عن ثلاثية محفوظ التي ركز فيها على الطبقة الوسطى. في “الثلاثية” لا نكاد نعرف شيء عن الطبقة الرأسمالية الا المشاهد التي كانت تجمع كمال عبد الجواد بـ(عايدة). وإذا كان النقاد رأوا في (كمال) صدى لصورة الاستاذ محفوظ فأن (علي االبدري ) في الحلمية هو، بطريقة ما، صدى لعكاشة… الشاب الذي كسرته الهزيمة ودفعته لمراجعة الكثير من مقولات الناصرية. في الحلمية أيضا وضع عكاشة كل خبرته ككاتب في مهمة صعبة تقوم على مراجعة التاريخ المصري المعاصر ودفع بسطاء الناس للتصالح معه واكتشافه والنظر اليه كحلقات متصلة وليس منفصلة. اثار المسلسل الكثير من ردود الافعال، البعض لم يتقبل الصورة التي قدمها عكاشة لعلاقة بسطاء الناس بالزعيم جمال عبد الناصر… وهي صورة صحيحة، وتحفظ أخرون على موقفه من عصر السادات، وبات اتهام عكاشة بالانحياز لناصر تهمة لم ينكرها، خاصة وان أفلامه، التي لم تجد نفس النجاح، كـ(الهجامة) و(كتيبة الاعدام) و(تحت الصفر)… انشغلت بمساءلة قيم عصر السادات، فالفيلم الاول يقدم رؤية مغايرة للرواية الساداتية عن انتفاضة 18 و19 يناير 1977، وفي الثاني صورة لفساد الانفتاحيين واغنياء الحرب الذين صعدوا على أنقاض المحاربين ورجال حرب الاستنزاف التي كانت الاشارة اليها واحدة من الامور التي رممت علاقة الزعيم عبد الناصر بما تحقق من نصر في حرب أكتوبر، لكنها على أية حال وضعت عكاشة واعماله في الفضاء الذي أسماه المؤرخ الراحل عبد العظيم رمضان “الكهف الناصري”، وهو الكهف الذي حرم عكاشة فيما بعد من كتابة فيلم عن حرب أكتوبر بعد حملة شرسة قادتها ضده صحيفة “أخبار اليوم”، بزعم قدرته على “تزييف التاريخ” والتلاعب بوعي الناس، وهي تهمة سقطت عنه بالتقادم لان الناس كانت تعلن انحيازه له مع كل عمل، ربما لانه ادرك ان تناقضات الواقع المصري والتي تزيد من الهوة بين الفقراء والاغنياء تشبه ذات الهوة التي سبقت ثورة يوليو، كما فك شفرة حنين البسطاء الى مكتسبات التجربة الناصرية، فحتى وهو يكتب عمله الملحمي الاخير “المصراوية” كان منجذبا الى رؤية القرية المصرية من الجذر الاول الذي أوجد الصراع وخلّف كل التناقضات القائمة الان.
درس (الحلمية)، فيما يبدو، دفعه لخوض مغامرة أخرى لا يُعيد فيها تساؤلات محفوظ عما جرى لأجيال الحياة المصرية، بل وضع أمامه نموذج أخر وسعى الى تمثله، هو طه حسين. فأذا كان عميد الادب العربي صاغ سؤال الهوية المصرية وأجاب عنه في كتابه الشهير (مستقبل الثقافة في مصر) منحازا الى هوية متوسطية، بدا عكاشة في (زيزينيا) و(أرابيسك) غير قادر على الحسم بسبب الجذر العروبي في تكوينه. في (ارابيسك) ينهي الأسطى حسن المسلسل بطرح السؤال “احنا ايه؟”. بينما تنحاز (زيزينيا) لـ”تعايش” الاسكندرية… مدينه عكاشة الاثيرة وهي في زمنها “الكوزموبوليتاني”. يطرح سؤال الهوية مع بطله (بشر عامر عبد الظاهر)، الابن الهجين من زوجة ايطالية ارستقراطية وأب مصري تاجر من الميسوريين، الذي يقع في غرام (عايدة)… التي تشبه مع (جوستين) بطلة (رباعية الاسكندرية) لورانس داريل. لكن عكاشة طرح نموذجا مغايرا لداريل، الذي لم يعرف الا صورة “استشراقية” ترى المدينة العظيمة في “الكارت بوستال” ولا تصل لقاعها. اسكندرية داريل خلت من مواطنيها وبقت “ايقونة” استعمارية خالصة، عكاشة قدم نموذجه لاسكندرية التنوع الثقافي القادرة على صهر الهويات.
عكاشة في هذا العمل قفز فوق تناقض اخر في هويته الناصرية، فبينما ارتاحت نخب ناصرية لخروج اليهود المصريين والأجانب بعد حرب السويس 1956، لم يتسامح عكاشة مع هذا الخطأ. وهو موقف انسجم، فيما بعد، مع مراجعة ثوابت القومية العربية ورفض الوحدة الاندماجية القسرية، والتحمس لالغاء جامعة الدول العربية.
استمرارا على نهج طه حسين استفز عكاشة في مقالات صحفية – لم تكن بوهج مسلسلاته – القوى الاصولية، ليدخل معها في معارك بسبب موقفه من عمرو بن العاص… الذي وصفه برجل الأكاذيب، وبسبب سخريته من الفنانات المعتزلات اللواتي روجن لمقولات عن تحريم الفن، وهو موقف ليس على الإسلام بحد ذاته وانما على طريقة في تفسيره تتنصر لـ”ذهنية التحريم”، تماماً كما كان موقفه من الدعاة الجدد موقفاً وطنياً، لانه نظر اليهم كمبشرين بالوهابية وكضلع اساسي في شبكة مصالح تتصارع على وراثة دور مصر.
المؤكد ان عكاشة الذي خاض معركة الدفاع عن مصر وعن عروبتها حتى النهاية عاش ومات مخلصا لصورة الكاتب المرادف لمعنى “الضمير”، وهي صورة تمناها وعاش مخلصا لها، وأظنها ستبقى طويلا