حكاية بلون الحزن

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد الرحمن أقريش

ربما بسبب يتم مبكر، وحرمان عاطفي رهيب، وربما أيضا بسبب طفولة عنيفة وقاسية، تولد لديه هذا الميل والانجذاب للأنثى، انجذاب يكاد يكون حالة مرضية.

كنا في مرحلة الثانوي، كان محبوبا، أنا أيضا كنت أحبه، كان يكبرني بسنوات، ولكني كنت الأقدر على فهمه، ربما بسبب تشابه مصائرنا، وربما بسبب تواطؤ فكري نسجناه معا…

اكتشفت مبكرا، ومنذ البداية، انجذابه لعوالم الأنثى، الألوان، العطور، الأسرار، النظرات، سحر الصمت، الفراسة والقدرة على قراءة الأفكار…حتى الكتب التي أعجبته وقرأها تبين لي –فيما بعد– أنها تحتمل هذا التأويل، فهي إما أشعار رومانسية، أو قصص غرامية، أو مذكرات حميمية، حبلى بالأسرار والبوح…وحتى عندما أصبح كاتبا ناجحا، لم يتخلص أبدا من رواسب طفولته الأولى، كانت كتاباته مجرد حديقة خلفية للاسترجاع والحنين وإعادة البوح.

وسيم، وجه أسمر جميل، مرسوم مثل بورتري فني، شارب طفولي، شعر أشقر مجعد، متناغم مع سمرته ولون عينيه المشعتين ذكاء وحيوية، أنيق حد الهوس، ربما للتمويه على أصوله الاجتماعية المتواضعة، ورغم ذلك، أو ربما بسبب ذلك، عاش خللا في تقدير الذات، فقد كون صورة صنمية عن ذاته، تعبر عن نرجسية مفرطة، صورة تلامس حدود الجنون والهذيان…

في مرات كثيرة، سافر إلى مدن وأماكن بعيدة وغير منتظرة، لمجرد استكمال رحلة رفقة أنثى جميلة!!

مرات كثيرة، تقمص أدوارا غريبة تدغدغ شعوره وترضي غروره ورغبته في التميز والنجاح الاجتماعي، فهو مرة أستاذ جامعي، ومرة مناضل في قوى اليسار، ومرة طبيب نفسي، ومرة خبير معتمد في اليونسكو…

أتذكر إعجابه المفرط برواية الهزيمة (وليمة لأعشاب البحر)، وكيف خرج يوما من زقاق مشبوه، وجلس على عتبة بيت مهجور يبكي، ويقرأ بصوت حزين ومجروح قصيدة السياب (المومس العمياء)!!

بمقاييس الزمن، كانت هي سيدة مكتملة النضج، أما هو فكان ما يزال مراهقا عندما التقيا صدفة في الحافلة، كان يتفرس في الوجوه، ويقيس ردود الفعل والمشاعر المتناقضة التي يولدها الازدحام والاحتكاك بين الأجساد…

كان لقاء بسيطا وخاطفا، مجرد نظرات، وقفا وجها لوجه، تمسك هو بالقابض بقوة، في حين كان جسدها يهتز ويتمايل، في تناغم مع حركة الحافلة.

انتبه أولا لملايتها ونقابها الأسودين.

أيامها لم يكن النقاب يحمل خلفية دينية، كانت له وظائف أخرى، النقاب يعبر عن رغبة قوية في الإخفاء، والغفلية، والانفلات من الرقابة الاجتماعية،  يخفي النقاب وجهها بالكامل، ولكنه يكشف عن عينين غمازتين، باسمتين، ونظرة جريئة مليئة بالكحل والتحريض…

لم تقل شيئا، اكتفت بالإيماءات، أحس فجأة أنه محاصر، فاكتفى هو أيضا بالنظر في عينيها ولم يقل شيئا.

في الخارج أرخى الظلام سدوله على المدينة، وكان المطر يضرب بقوة، توقفت الحافلة، نزلت بخفة، دارت من الجهة الأخرى، نقرت على النافذة، مسح الزجاج بيده ليزيل سحابة الأنفاس، رآها واقفة هناك تشير بيدها في حركة وداع، ابتسم لها، تحركت الحافلة، واختفت هي في الظلام.

مرت أيام، والتقيا في نفس الظروف، كانت أكثر جرأة وإلحاحا، أما فهو فكان يقاوم تردده وخجله بصعوبة.

سألته على سبيل التشجيع.

– ما اسمك؟

– عبدو!!

– عبدو، هكذا حافية!؟

– لا، عبد الأمين، أصدقائي يسمونني عبدو، و…

قاطعته.

– انت زين واسميتك زوينة!!…أنا سميتني أحلام!!

أخبرته أنها تريده أن يزورها في بيتها، قالت.

– لن تجد صعوبة في التعرف عليه، سأضع علامة على الباب…أعيش مع أمي وهي لن تمانع!!

في البداية، تعمد أن يختفي لأيام، ولكنه لم يستطع المقاومة أكثر، فراح يزورها في بيتها كما اتفقا، كانت البيوت متشابهة، أحدها فقط بدا مختلفا، عتبة من الرخام، وبوابة أنيقة، عليها راية صغيرة بيضاء مثلثة، تردد قليلا، ضغط على الجرس، انفتح الباب.

رحبت به ودخل.

جلسا في الصالون، انبهر هو بتفاصيل المكان، زرابي، أرائك، ستائر من الساتان، ديكورات من الفضة، ولوحات فنية ضخمة…

انتبه إليها وكأنه يراها لأول مرة، كانت ترتدي روب من الحرير الأحمر، يكشف عن جسد يفيض عذوبة ونضجا، دخلت فتاة جميلة تحمل صينية شاي وحلويات.

– إنها صديقتي ليلى!!

جلسا يتحدثان لساعات، وعندما هم بالمغادرة، استمهلته بإشارة من يدها.

– ماما، أجي تشوفي الشاب لي حكيت لك عليه!!

دخلت الأم، سيدة جميلة، هادئة وأنيقة، في حدود الخمسين، عمياء، عرف ذلك فيما بعد، كان وجهها مشرقا باستمرار، وعيناها تنضحان بالحياة، أحيانا كثيرة، تساءل إن كان عماها حقيقيا أم هو مجرد خدعة أو وهم؟ جسد ممتلئ، تضع حلي ذهبية، وتلبس قفطانا مطرزا، اقتربت منه، رفعت يديها، تحسست شعره ووجنتيه، كانت أناملها ترتعش، ابتسمت وقالت.

– أنت جميل يابني، وابنتي أحبتك منذ اليوم الأول!!

رد على مجاملاتها بكلام مهموس وغير مفهوم، ثم غادر، مشى في المدينة على غير هدى، استرجع شريط حياته في صور متلاحقة، بدلة النيلون الخضراء، صندلة فرنسا، الخبز المحشو بالشعرية في مطعم المدرسة، الكز الذي يجمد الأطراف في صباحات المدينة القديمة، مدرسة اليهود، الملاح، الحي البرتغالي، قسوة المعلمين، وتربية العنف وسنوات الكبت الرهيب…

انتبه، عاد إلى نفسه، استوقفته جوقة من الفضوليين تتحلق حول امرأة، وهي تصرخ بغضب.

– واك واك أعباد الله…أجيو تشوفو امي سرقت ليا راجلي!!

نظر إليها، كانت حركاتها هائجة، متشنجة واستعراضية.

اجتاحته مشاعر متناقضة، مشاعر حزينة، وأفكار غريبة.

– ماذا لو كانت…

طرد هواجسه بسرعة، وواصل سيره.

فيما بعد، تعقدت حياته بشكل غريب، احتضنته الأم، أحبته أحلام، وأحبته ليلى سرا في أحلامها، وأحب هو ليلى وأحلام معا.

كانتا متواطئتين في حبه، تستقبلانه بالأحضان والقبلات، تهيآن له مائدة باذخة من الحلوى والشكولاتة، ويأكل المربى من أيديهن بالملاعق.

كانت الحياة بطعم السكر.

ثم بعد سنوات، فقدت الحياة طعم الحلاوة، وبهتت ألوانها، أصبحت الأيام متاهة قاسية من الحزن والكآبة، فقد أولا صحته، بسبب جرثومة مجهولة، ثم فقد توازنه الداخلي الهش، ثم انهار عقله أخيرا، ليبدأ رحلة تيه كانت تطل عليه في الأفق.

تفرقت بنا السبل لسنوات طويلة، طويلة جدا، التقينا في ضريح (بويا عمر)، كان لقاء غريبا، تعرفت عليه بصعوبة، كان قد فقد الكثير من بهائه، بدا كمن خرج توا من معتقل رهيب، وقفت لبرهة أتأمله، وأفكر، أستجمع خيوط حياته الشديدة الغرابة، استرجعت صورته أيام الجامعة، أيام الشباب والمجد والكتب والأحلام والتمرد…

أحيانا تبدو صدف الحياة عابرة، فوضوية وبدون معنى، وأحيانا أخرى تلبس وجه القدر فتبدو مصيرية وحاسمة، أيامها كان طالبا ألمعيا، هيأ بحثا رائعا ومتميزا حول (ظاهرة الحمق في المغرب: جمالية الجنون وقسوة العلاج في بويا عمر)!!

…………..

* (بويا عمر) ضريح في نواحي (مراكش) كان المغاربة يقصدونه لعقود من الزمن، لعلاج الأمراض النفسية والعقلية.

مقالات من نفس القسم