د.مصطفى عطية جمعة
شعرية الإدهاش تعني القدرة على تقديم رؤية جديدة بمنظور جديد في عالمه الشعري، وهي التي بنى عليها الشاعر” شريف الشافعي ” مشروعه، وكما هو واضح في العنوان المشترك للجزءين ” الأعمال الكاملة لإنسان آلي “، فهو بصدد الكتابة الإبداعية عن إنسان آلي، أي يتخذ الآلية ديدنا له، ويصدق هذا على الإنسان الآلي المصنوع ( الروبوت )، أو الإنسان الحقيقي الذي بات ضحية الآلات والشاشات والبرامج الحاسوبية، والقنوات الفضائية الموجهة، فعاش أو كاد يعيش في حياة مرسومة خطواتها، معلومة تحركاتها مسبقا.
لقد نبعت فكرة الجزء الأول من بحث الذات الشاعرة عن كائن ما وهو نيرمانا، هذا الكائن الذي وجده قابعا في المقعد الخلفي في سيارته وهو يؤدي اختبار فاشل لقيادة السيارات، ومن ثم قرر أن يبحث عن ماهية هذا الكائن في محرك البحث (Yahoo ) فتخرج له عشرات الأسماء المتقاربة لفظا، والمختلفة معنى.
(مثلما تحضرينَ بسهولةٍ في ضميري
(الذي لا محلَّ له من الإعرابِ)
على ظهر أحدِ الأفيال الْمُسَالِمَةِ،
تتسرَّبين أيضًا بسهولةٍ في مسامِّ جِلْدِي المتشقِّقِ
تتشَّرَبُكِ ذرّاتي المترابطةُ
المتعطّشةُ إلى التحلُّلِ في الجيرِ الحيّ ) ([1])
البداية مع إنكار الذات لضميرها الذي لا محل له من الإعراب، فهي ترى أنها لا قيمة لها في الكون، ويخاطب في هذا ” نيرمانا “، هذا الكائن الإلكتروني، الذي بحث عنه في زوايا الشبكة العنبكوتية، وربما يكون قد تخلق في وجدانه وفكره أولا، لأن البحث عن الاسم، كان مصاحبا ومتخيلا للشكل والرسم، وقد استغرقت نفسه بل تكاد تكون قد تلبسته، فخلاياه تشربته، وتريد أن تتحلل في ” الجير الحي ” كي تتخلص من بشريتها الجسدية، وتهيم في الفضاء التقني، أما الأفيال المسالمة التي ستأتي عليها نيرمانا، فهي إشارة واضحة إلى امتزاج المخلوقات في عينيه في عالم واحد، فالفضاء التقني يتسع في ثناياه لكل الكائنات ذكر ” الذرات، الخلايا ” توكيد واضح على طبيعة العلاقة مع الكائن الإلكتروني، فهي ليست تحاورا وإنما ذوبان، فتعبر الذات الشاعرة عن نيرمانا، وتعبر نيرمانا عن الذات الشاعرة.
( تمشطينَ شَعْرَكِ اﻟﻤﺠعّدَ بعصبيّةٍ أمامي
في حين أضغطُ بهدوءٍ على لوحة مفاتيح الكمبيوتر
أكتب حروفَ اسمكِ في مُحَرِّكِ (Yahoo)
Nirmana نيرمانا
Nirma نيرما
Nirmitta نيرميتا
Nitta نيتا
Mitta ميتا
Titta تيتا
Nirmala نيرمالا….
Nermina نيرمينا
Noon نون
Nona نونا ) ([2])
الامتزاج بين الذات ونيرمانا ليس تاما، وإنما هناك لحظات انفصال، سنجدها دائما في المواقف التي سطرها شعريا في الديوان، وهي مواقف تشمل كافة العالم من حوله، الخاص والعام، النوم واليقظة، ذاته حاضرة، ونيرمانا في فضائه الإلكتروني حاضرة أيضا. وفي المشهد السابق، يرى نيرمانا أمامه ويبحث عنها في محرك ياهو، فعل متناقض، ولكنه يؤكد أن كليهما مندمجان منفصلان.
فهو ينطلق من رؤية فريدة، أساسها إعادة قراءة الذات في أبعادها العولمية، متوحدا مع تقنيات العولمة الجديدة، المتمثلة في الشبكة العنكبوتية، أي أنه يقرأ ذاته وسط هذا الخضم الهائل الذي قدمته لنا الشبكة العنكوتية، التي تجعل الإنسان مجرد أرقام، ويتواصل مع كونه بأزرار، ويتعايش مع كائنات مصنوعة غير مخلوقة، إنه تائه وسط هذه الصوتيات والمرئيات التي تبثها كاميرات الديجيتال، وتطلقها الأقمار الصناعية. فقد حاول البحث عن ذات تشعر مرات بالفخر، ومرات بالحيرة، ومرات بالضياع، أراد أن ينطلق إلى هذا العالم الفسيح، محاولا الخروج من الشرنقة البشرية.
أما الجزء الثاني ” غازات ضاحكة ” فإنه يواصل هذا المزيج من التعايش مع الأشياء والمواقف والأحداث والبشر، ما بين الواقعين الحقيقي الإلكتروني، وتلاشت في الوقت نفسه الكائنات الإلكترونية المتخيلة والمصاحبة والمراقبة، وأضحت الذات في مواجهة الواقعين، بشكل تلقائي مباشر، وتفاعل حي. إنه يدمج في رؤيته الموجودات في الواقع مع الفضاء الإلكتروني، ويعيد صهرها في ذاته، فتمحى الحدود ما بين الذات والواقع والفضاء الإلكتروني، وقد يصبح هو ذاتا إلكترونية.
( من رحمِ الغرفةِ الكونيّةِ المجهَّزة
أتمنى أن أقفزَ عارياً
كي أفرح بولادتي الطبيعيّة
بعد سيرةٍ ذاتيّةٍ
عبثتْ بها مشارطُ الأطبَّاء
وذابت قصاصاتها الأخيرةُ
في الملابسِ والأحذيةِ الداكنة ) (([3]
إنه يجاهر بكينونة ذاته الجديدة، التي خرجت من أعلى الكون، يعلنها صريحة أن ذاته كونية إلكترونية، تسبح في الفضاء الكوني التقني، ويشتاق إلى تكوينه الطبيعي، حين يولد في غرفة العمليات، ويشاهد الأطباء يعبثون بها.
( المرأةُ الشجرةُ
التي اشتهيتُ هَزّها وتسلُّقَها
تمكّنتُ أخيراً من اصطيادها
بالشبكةِ العنكبوتيّةِ
المرأة الشجرةُ
مغروسةٌ الآن في ذاكرتي الصلبةِ
محفورةٌ كالوشم
على سطح أسطوانةٍ مدمجةٍ
بحجمِ قبضتي الحجريّةِ المتشقِّقةِ
المرأةُ الشجرةُ
طوع يميني
أستدعيها وقتما أشاءُ ) ([4])
صارت المرأة : شجرة يتسلقها الشاعر، اصطادها من الشبكة العنبكوتية، ثم باتت الذات كذاكرة حاسوبية صلبة، حُفِرت فيها المرأة، والذات هي أيضا ذات تاريخية تعود إلى الإنسان الأول في علاقته الأزلية مع المرأة، بدلالة القبضة الحجرية المتشققة، فالمرأة كانت رغبة وشهوة وصراعا منذ القدم. المشهد الشعري السابق مزيج من : الواقع الافتراضي، والحياتي، التاريخ، والآثار، الرغبة الأزلية في المرأة، ودلت الشجرة ,اليد الحجرية، والوشم، على أن الذات الإنسانية وإن تحوسبت فلا تزال عاشقة للمرأة جسدا ورغبة وندا.
وهذا ما أكدته الفلسفة الظاهراتية لهوسرل، التي تتعامل مع الأشياء بوصفها حقائق، وتبحث في العلاقة بين الإنسان وما حوله من أشياء، فبدلا من أن يصف الإنسان الشيء، يبحث في وجود هذا الشيء ومدى تأثيره على ذاته، وأهمية وجوده في حياته. وكما لخص هوسرل مبدأه الفلسفي ( إلى الأشياء نفسها )، فنقطة الابتداء هي الأشياء، وهذا ليس معناه أن نعبر عن الأشياء في تعبيرنا العادي، بقدر ما نتعايش مع الأشياء ويكون القصد متجها للأشياء ذاتها، فالأشياء موجودة قبل وبعد تفكيرنا، وما علينا إلا أن نتوجه للأشياء بتفكيرنا وعمليات نقدية تضعها في نسق خاص، وبذلك تحولت الفلسفة من قضايا التجريد إلى المحسوسات، ومن الطبيعي أن تسبق النظرة الظاهرية للشيء هي الأساس في إقامة العلاقة معه والتفكير فيه، لأنها تعني وجود الشيء في دائرة الوعي والحس والظاهر، فالظاهرة هي النقطة الأولى في الوعي ([5]).
فلا عجب أن نجد هذه العلاقة التي أقامتها الذات الشاعرة مع الأشياء من حولها، ولكنها بدلا من الغرق في الأشياء البسيطة، سعت الذات الشاعرة إلى رؤية الوجود والكون وأيضا العالم الإلكتروني بكل مفرداته وغرائبيته.
……………
[1] ) البحث عن نيرمانا بأصابع ذكية، ص7
[2] ) البحث عن نيرمانا بأصابع ذكية، ص7.
[3] ) غازات ضاحكة، ص40.
[4] ) غازات ضاحكة، ص23.
[5] ) الاتجاهات المعاصرة في الفلسفة، د. عبد الفتاح الديدي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1985م، ص15-17