القناع

موقع الكتابة الثقافي art 68
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد مصطفى الخياط

(شاي أخضر.. شاي أخضر)، رنُ صوته المعدني شارخًا جلال صمت المُعزيات ومُقَاطِعًا صوت المُقرئ في النصف الآخر من القاعة، يخطو مُتحاملاً على عَرجَته فيرتفع البراد الضخم في يمناه وتميل الصينية اللامعة في يسراه، ما إن اقترب حتى توقعت سقوطها بما عليها فوق ملابسي، ريثما يمر الصقت ظهري بالكرسي وثنيت ساقاي أسفله ومِلتُ بجذعي للخلف فيما تابعته عيناي حتى تجاوزني بسلام ودلف عبر كوه إلى سرادق الرجال مُخَلفًا صريرًا يلازم خطواته، اقتصر دوره على توزيع الشاي الأخضر وتكفل زميله بالقهوة والشاي الأحمر، تناوبا المرور علينا بالتبادل مع سرادق الرجال، حين يمر بقربي تمتد يد قوية تعصر بطني فأوشك أن أتقيأ.

يُطبق على صدري هم ثقيل زاده جو العزاء كآبة، هاتفتني يُمن مساء أمس، (البقية في حياتك، والدة سارة اتوفت اليوم)، بعد ما تبادلنا كلمات المواساة أخبرتني أنها وحسنية ذاهبتان للعزاء، (خدوني معاكم، مش ها أعرف أروح لوحدي)، قلت لها.

قادت يُمن السيارة وسط زحام اختلطت فيه السيارات بالبشر، أشعلت سيجارة رفيعة وطويلة، ألقت بالولاعة على التابلوه فى ضيق ورفعت خصلة شعرها الكستنائي فى ضجر ثم زفرت. استغفرت حسنية ومسحت حبات عرق تناثرت على صفحة وجهها الرائق بمنديل ورقى. فى حركة آلية مددت يدى في الحقيبة وازدردت حبة مهدئ مع جرعة ماء، أغمضت عيناي وأرجعت رأسي للخلف، من غير سابق إنذار تغتالني نوبات توتر تُحيل حياتي جحيمًا.

(أخيرًا..)، قالت يُمن فى ضيق بعد ما لمحت خيط لمبات يتدلى مترهلاً بأضوائه الصفراء على واجهة أحد المبان، (دار المناسبات قدام البيت.. زى ما قالت سارة)، عقبت حسنية وهى تُحكم طرحتها، رمت يُمن سيجارتها ونفثت دخانها، ألقيت نظرة سريعة على وجهى فى المرآة، لم تفلح المساحيق فى إخفاء هالات داكنة تركها الأرق حول عيناي، رغم أننا كنا مساءً، ارتديت النظارة الشمسية.

(اتفضلوا.. اتفضلوا..)، قال أحد الواقفين أمام دار المناسبات مفسحًا الطريق للسيارة، ضغطت يُمن مفتاح (السنتر لوك) فدست أصابع أمان الأبواب أعناقها فى جحورها، ورمشت الفوانيس رمشتين متعاقبتين ثم أغمضت جفونها وسكنت ككلب مطيع، تلقتنا سارة بالأحضان والدموع، قُسمت قاعة العزاء إلى قسمين، كبير يخص الرجال، وآخر صغير، أقرب إلى طرقة، للنساء، هل هناك علاقة بين هاتين المساحتين وحظوظ كل منهما فى الحياة، ربما.

جلسنا على مقاعد متقاربة وسط بحر من سواد، الجو خانق، والمروحة تجاهد دفع الهواء العَطِن بأقصى ما لديها من قوة لكن الرطوبة والزحام والحر كانوا أكبر من قدراتها، نزعت بعض النساء أجربة هواتفهن ورحن يحركن الهواء الساكن أمام وجوههن، وفَكت بعضهن طُرَحَهُنَ وأسدلنها على الجانبين، خلف كل وجه ألف ألف حكاية، تُرى ما الذى يشغل بال كل منهن، لا أدرى، لكنى أدرى ما ينتظرني، الصمت والوحدة والقهر والاكتئاب.

(شاي أخضر.. شاي أخضر)، رن صوته المعدني واقترب صرير خطواته، بدا فى هيئته أقرب إلى (بارمان) فى فيلم أبيض وأسود، لم ينقص المشهد سوى ظهور استيفان روستي يطلب منه كأس براندي بدون ثلج، لزوم العفرتة، كان يرتدي جاكيت أبيض نظيف وببيونة سوداء بلون البنطلون، وحذاء كلاسيكي لامع، مع وجه مشدود وذقن حليق، وحاجبان مقوسان، وشعر مصبوغ أكسبه الزيت والمُثَبِت اللزج لمعة جذابة، شتان بينه وبين زميله، رغم أنه الأكبر سنًا، بدا أكثر بهاءً.

سرحت قليلاً، هل يعرف هذا الرجل جلسات الطبيب النفسي والمهدئات، هل يعرف الهموم، وإن كان، فلا بد أنها مضحكة لفرط تفاهتها، ربما كان الحضور قبل توافد المعزين بوقت كاف أقصي مشاغله، أو سرعة إعداد الطلبات، أو فراغ البن والعزاء على أشُده، تحسرت على حالي وانكساراتي.

أشرت له، فوقف على مسافة ذراع ورفع يده بالبراد عاليًا مصوبًا فوهته إلى أحد الأكواب، انساب شلال فُستقي اللون تزاحمت على سطحه الفقاعات، مع ابتسامة ثقة مد يده بالكوب، فتناولته شاكرة، أرشف فى هدوء وامسح شفتاي بطرف لساني من فرط حلاوته، حملتني رائحته الذكية بعيدًا عن جو العزاء الخانق والكآبة، طويت ورقة بخمسين جنيه ودسستها في يده وأنا أناوله الكوب الفارغ، (مِرسي يا هانم)، قال رافعًا حاجبي نادل محترف، ثم أردف (كوباية كمان؟)، (يا ريت)، ثم تمتمت في سري (يا بالك الرايق!!).

انفض العزاء، ووقفنا مع سارة نواسيها ونودعها، خفتت الأضواء، وراح العمال يرفعون الكراسي، (على مهلك يا عم سيد، خد وقتك)، قال أحدهم، (مِرسي، كلك ذوق)، تناهي إلى أذني صوته المعدني فالتفت نحوه، كان يجلس على كرسي ممددًا ساقه اليسرى وزميله يحدثه وهو منحنٍ عليها، (بِدها تتغير يا عم سيد، ضاقت وصوتها عِلا)، (إن شاء الله.. ربك ها يفرجها)، (عنك يا عم سيد..)، (مِرسي) قال وهو يثبت حقيبة جلدية طويلة كالحة على كتفه الأيمن ويثبت العكازين الخشبيين تحت إبطيه، ثم اتجها لباب الخروج، يسبق عكازيه ساقه اليمني تارة، وتسبقهما هي تارة أخري حتى وقفا على الرصيف، اتكأ بظهره على جدار دار المناسبات ووضع الحقيبة الجلدية إلى جواره، ثم رفع رأسه للسماء يكسوه حزن عميق، بدا أكبر سنًا وهمًا عن ذي قبل وكأن قناعه، الذى كان يتجول به بيننا منذ قليل، سقط منه، وبينما راح زميله يترقب وصول الأتوبيس، ألصقت الريح ساق بنطلونه اليسرى المعلقة فى الفراغ بساقه الاصطناعية الواقفة إلى جواره فى حقيبتها الجلدية، وكأنها تستجديها وتحثها على السير.

مقالات من نفس القسم