إلى أبي الحبيب بشير السباعي

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 49
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

هدى حسين

استيقظت قبل الجميع برغم اليوم الأجازة، لأكتب ساعتي. ينبغي أن أكتبها مبكرا اليوم وأتأكد من أنني كتبتها ونشرتها لأننا سنخرج طول اليوم. سنذهب في الصباح إلى المركز الفرنسي حيث نأخذ فطورنا في مكان يشبهنا إلى حد كبير، كما أن الأطفال يحبون أن يصطحبهم إلى المكتبة “عم جلال” الذي يعمل هناك، ويشغل لهم “فيلم كرتون مدبلج” بالفرنسية. ربما أتمكن من تجديد كارنيه الاستعارة الخاص بي. وربما أجد ديوانا لطيفا يحفزني على ترجمته. وعندما ننتهي من المركز الفرنسي سنذهب لزيارة صديق عمري الذي لازم بوجوده المادي والمعنوي رحلتي الأدبية والمهنية. أبي الصغير بشير السباعي.

عندما رأيت بشير للمرة الأولى منذ سنين طويلة كنا في بيت عبد المنعم رمضان. أظن كان هناك أيضا أمجد ريان، وكذلك بعض من أصدقائي الذين أطلقوا مع أحمد طه مجلة “الجراد”، كياسر عبد اللطيف وأحمد يماني. أظنه أيضا كان يوم جمعة أو ربما أربعاء. كنت أجهل بشير تماما، وكنت أضحك مع عبد المنعم رمضان الذي لم أكن أعرفه جيدا، وقد كان يتحدث إلينا باللغة العربية، وأظن أنني كنت أقوم بمحاكاة ساخرة له، دون عداوة، فقط أتذكر أفلام الكرتون التي رأيتها صغيرة، فهي المقابل الوحيد الذي أملكه في تلك الساعة لهذا التمكن المدهش الذي تفاجأت به من شخص يعيش وسطنا ولا يكلمنا بالعامية، ونعم في جزء من هذه المحاكاة كنت فعلا “ساخرة”.

وكان بشير يضحك ويقول: “انتي عفريته”، فأضحك أنا أيضا. كانت كل الأرواح طيبة في هذه الجلسة، ولم يكن أحدا يتضايق من أحد. عندما أخذ بشير يتحدث عن السيريالية أدركت في أعماقي أنني وجدت الروح التي يمكننى أن أتعلق بها. الروح التي تفهمني تماما بينما لا أجيد التعبير عن نفسي إلا بممارستها، ولا أعرف كيفية شرحها على الإطلاق. كنا كثيرا ما نتحدث عن قصيدة النثر ونشأتها في أوروبا، وبودلير طبعا الخ الخ.. لكن الحديث عن السيريالية كان هو أكثر ما يشبهني. وكان هذا الحديث يخرج من هذا الرجل. وكنت في هذه السن الصغيرة، ربما 19 سنة، أعرف عن السيريالية ما يكفي لأدرك نزاهة هذا الرجل وإخلاصه في التعبير، وأنه يشبهني كثيرا في إخلاصه الدءوب لما يحب. وقد كان الوحيد في هذه الجلسة، باستثنائي، الذي يعرف الفرنسية أيضا. تعلقت ببشير تعلق من كان في الصحراء عطشا ووجد الماء. الماء الذي يشبهه. صحيح لست غزيرة المعرفة مثل بشير، لكنني أمتلك الإخلاص ذاته لما أحب. بغض النظر عن النتائج.

عندما عدت إلى البيت اتصلت به. قلت له: “أنا عارفة اني ماعرفكش لوقت طويل. بس هو كده. إنت صبارة كبيرة وانا صبارة صغيرة. وحاسة اننا في قصرية واحدة. عاوزة اتعلم منك. قبل ما اكبر واضطر اكون في قصرية لوحدي”.

ضحك بشير في التليفون وقال: كسفتيتي يا هدهد، ماشي. بس اشمعنى صبار؟

قلت مش عارفة، بس هو كده. تحبه تين شوكي؟

ضحك بشير أكثر. وقال لي إنه من سنين لم يضحك بهذه الدرجة من النقاء وأردف: إنتي بريئة أوي يا هدهد.. فأجبت: وحضرتك إنسان نبيل.

استمرت علاقتي ببشير منذ تلك اللحظة، علاقة تلميذة بأستاذها. ليس فقط أتعلم منه كيف أتعامل بجدية ومثابرة مع الترجمة واستشفاف روح النص دون الإخلال بتعابيره وصياغته في لغته الأم، لكن أيضا تعلمت منه تواضع المترجم ونبل شخصه واحترامه للجميل وإن لم يكن يخرج عنه هو شخصيا. كان بشير أول من سمعته يقول إن المترجم كالممثل المسرحي الذي يمثل دور هاملت. لو قال لك المشاهدون كنت ممثلا رائعا تعرف أنك أخفقت في الترجمة. لأن القراء شعروا بوجودك في النص. لكن إن قالوا لك: أحببت هاملت جدا، تعرف أنك نجحت. لأنهم نسوك. ولم يتذكروا سوى الكاتب الذي ترجمت عنه. لذا فإن المترجم بحق هو الذي لا يضيره أن يموت بل ويسعى لأن يستشهد في سبيل أن يحيا النص المترجم حياته هو لا رأي وانطباعات المترجم عنه. المترجم الحق ذو البصمة في هذا المجال، هو الذي يتخلى عن ذاتيته ويختفي في الخلفية ليقدم العمل المترجم في مقدمة الخشبة أمام الجمهور.

صراحة لولا بشير لما أحببت الترجمة. ولا شخصية المترجم. ولولاه لما كانت بالتالي هذه الصبارة الصغيرة نمت هكذا بمنتهى النقاء.

نعم يا بشير نحن صبارات عصاميات لا نطلب الكثير من السقاية، لكن نعرف جيدا كيف نعلي من شأن وقيمة كل قطرة، كيف نقدر هذا الماء، نحن هذه الصبارات التي لا توقفها صحراء وبداوة وقيظ عن الاستمرار في النماء. نحن صبارات نعتد بوقوفنا وسط هذا الجدب، خضر، بدأب لا تعرفه إلا الغريزة الإنسانية الصرفة للبقاء على النزاهة والنبل والجمال. لا نبالي بمظهرنا الشائك كثيرا بينما نقوم بذلك. نحن الصبارات، الدليل الوحيد للصحراء أن هناك أملا في سابلة عابري طريق قد يستحقون من أجلهم أن نحافظ تحت لحائنا على كل هذا الماء. بينما نستمر في الوقوف وحيدون تماما في مناخ لا يلائم النماء بالمرة، نبذل ذواتنا في حمل هذا الإيمان والأمل.

 

مقالات من نفس القسم