حسين عبد الرحيم
لم ودعتني بالحرق؟!!، أم هاشم، لما تركتينني وحيدا بعماي، بعينيّ ومقلتيّ ومحجري وحدقتيّ، الأعشى أنا، البصير الذي رآك في العتمة، على سطوع النار في جسدك السنديان، يا نخلة أيامي، يا ظل البازات، يا دلالة فجة للخطيئة، للرحمة، للفجيعة، لم خايلتني أطيافك وأنت تتسللين خلف جدارات حارة سعيد، قبل العصر وبعده، قبل الغروب، لم أسمع صوت خلجاته، أبيك المسافر، رهافة حس الغريب، المتنقل من الديار دوماً، يوما بعد يوم، تنقشع الغيوم وأنا الواقف اتأمل بيت البنهاوي، وقماط سامية البرتقالي الكاشف تحت ضوء الخدر في نسيم الخريف الهابب بلفح الهجير والبخر.
في بدروم حارة سعيد المنزل رقم 13، عذراء الغروب، تدهشني فلجة أسنانها الثلاث، اللولي، (المفلس حزين ياتين، ينادي العم سعد المر. ابن “الكنال” الغارب، موال البراري في البصراط، ثكنتي في الظل، في الهيش، صوب القمر كان بيتنا هناك، في حكر الغرباء، بيوت وراء الاشجار، تخفي عمي القادم من الجنوب، يتخفى في عباءة سوداء، كحل الليل عيوني بالسهاد يا امي، أناديها وهي المسافرة دوما بعيدا قرب جنائن الجوافة: أين جدي ايتها الصديقة التي امتطت كابينة البدفورد، النمل الأبيض يسيير في بطء، وأنا السارح في الهشيم ورائحة القمائن التي تحرق ذاكرتي، أم هاشم؟!
غاب المدد، فصرخت وقت عبورك عتبة دارنا، وأنت الذاهبة لقدرك المحتوم، يا بنت االخامسة عشر من عمري المسروق في البلاد البعيدة راضخاً لأوهامي عن تشابه صورة القمر مع جلال الله، وهذا الملاك الراقد وسط الضوء الباهر، أغشاني ولم يخايلني، فكفرت بالنهار رغم تعدد الصباحات الباردة والسعي صوب الكوبري الحديد، وأنا أرقب جلبابك اللاميه، الأخضر، زرعي، وحصادي، إيشارب الساتان ورائحة إبطيك، تلك التي ذكرتني بالحادثة التي جرت، أيتها الساكنة في الروض العاطر، كم لتر من الماء البارد إبتلعهم جوفك الملتهب بجرم القاتل الضليل وأنت تمارسين البراءة بإحكام الفراغ في غياب الوالدين كل ليلة.
أم هاشم لم يبق إلا سيرة شقيقك الشماع، مصطفى، مبتور الساق، الذي كان يفر بعكازه المثقوب قبل المعصم ليطفئ نار جسدك الفائر، وأنا أتخبط في حيطان الأسى الخشنة، أصرخ ولا املك شيء يذكر، يطفئ لهيب النار في هذا التكوين النوراني الطاهر، وأنت تنادينني بهمس، وصراخك، وعويلي، ونباح الكلاب. من خلف شباك قديم، أخفي وجهي، كل ليلة، فلا يحجب صوتك الليالي، قبل الفجر وبعد الغروب، وقبل الرحيل، ويوم الهجرة، وبعد العودة باربعة عقود وسبعة وعشرون شهرا وأيام لا تمحى.
أم هاشم أيتها الساكنة في روحي ودمي وسنواتي وأيامي وغربتي وترحالي في البلاد: أين أنت الآن؟