محمد سمير ندا
أول ما يطالعنا في هذه الرواية على وجه التحديد، هو أننا أمام مجهود بحثي عظيم لولاه لما تمكن الكاتب من إحكام هذا النص، من المؤكد أن القرملاوي قد فتح بطن التاريخ وعاد عبر المراجع والمخطوطات إلى بدايات القرن الماضي مرورًا بالحرب العالمية الأولى فالثانية، وصولاً إلى انتهاء الملكية وابتداء الحكم/الحلم الناصري. المفردات والمسميات وجغرافية القاهرة التي لا تشبه قاهرة اليوم بأي حال من الأحوال، وبورسعيد وأجواء القرية، أسماء الشوارع ونمو الأحياء وتطور المعمار، أسماء المسارح والسينمات والمطابع والفنانين ومتعهدي الحفلات ومضامير سباق الخيل؛ الإلمام بكل تلك الأمور يستلزم جهدًا بحثيًا شاقًا، وهو ما برع فيه الكاتب، ولولا إتقان التحضير والبحث، لما خرج النص في صورته هذه.
ما هو إرث آل الشيخ؟
الحكاية المنقولة عن جدود الأجداد، ومورث الحكي الشفاهي المتناقل عبر أجيال العائلة، يؤكد وجود كنزًا من الذهب، سبع زلعات مملوءة بالذهب، يحرسها قرد أجرب يعثر عليه سابع “محمد” يأتي من نسل الشيخ/صاحب الرؤيا والراوي الأول للأسطورة. حكاية تتقد جذوتها في عقول الأجيال الأولى، وتظل حاضرة في أدمغة الأجيال التالية فاللاحقة، إلا أن وهجها يخبو، وذبالة حلم العثور على كنوز الجدود، تنطفئ تدريجيًا.
الراوي العليم وما وراء القص
يسرد الراوي تاريخ العائلة فيما يكتبها هو كنص روائي هو الأول له، يتتبع الخيوط حتى تلتم الخبريات فوق أوراقه، يفتح الأظرف ويستدعي المختزن من ذكريات من عقول الأحياء، دون أن يغفل عن نسج ما لم تبلغه تتمته من حكايات الأموات، بمغزل الخيال. مازجًا بذلك بين تقنية الراوي العليم، وأدب الميتافيكشن، أو كتابة رواية داخل رواية. الراوي/الكاتب أحمد، المهندس بالأساس، والكاتب مؤخرًا في أعقاب تداعي السوق العقاري فيما بعد يناير ٢٠١١، (وكأن القرملاوي يستودع بطل روايته قسمًا غير يسير من حكايته)، جنبه أبوه مشقة البحث عن الكنز وقد تفادى تسميته بمحمد كعشرات المحمدات في العائلة، فسابع المحمدات هو العاثر على الكنز لا محالة، وعلى الرغم من كونه غير مكلف أو معني بالبحث، يغوص أحمد في سيرة العائلة، ويتصفح أوراق أجيالها الواحد تلو الآخر، جاعلاً من تلك المرويات متنًا لروايته. كان الكاتب موفقًا في التزامه بالنسق التصاعدي في سرد الشق التاريخي للشخوص والأحداث، لأنه لو جنح إلى خلق قفزات زمنية بين الأحداث، لكان هذا التشظي ليخلق حالة من التشتت والارتباك لدى المتلقي، ولكن نحن ، مرة أخرى، أمام سارد متمكن يجيد استخدام أدواته وتوظيفها بتناغم موسيقي.
رحلة بحث جديدة للقرملاوي
ليست هي المرة الأولى التي تتمحور فيه حكاية القرملاوي حول حبكة “البحث”، في روايته الأخيرة “نداء أخير للركاب، وعبر وصية الأب للابن، أُجبر بطل الرواية على خوض غمار رحلة بحثية يتعرف من خلالها على هويته التي ضببتها فصول من الاغتراب، وفي رحلتنا مع ورثة آل الشيخ، لا ينخرط أحمد (أعني الراوي أو المؤلف) في البحث عن الكنز بمعناه المادي، فلا يتتبع آمال الثراء بقدر ما يستهدف البحث عن الجذور وتتبع المسارات، أجاد القرملاوي نسج “قماشة” الحكاية، وضفْر أفرع العائلة المتعددة عبر فصول قصيرة تنقل القارئ بين مصائر الشخوص، الواحد تلو الآخر. يمسك بأول الفرع، ثم يتحرى حكايته ما بين الاخضرار والذبول حتى يوثق نهايته، يحسب الكاتب إرث الزمن، لا إرث الذهب، يتأمل في رحلته كيف انفرطت حبات عقد العائلة، وتفرقت عبر موجات متتالية من الشتات والاغتراب، قبل أن يتوقف، ليحسب نصيبه من هذه التركة الثقيلة، وحصته من وهم الكنز ولعنة طيفه الذي سكن عقول الأسلاف.
مخزن الحكايات
ما أصعب أن أعرض رواية كهذه مع كامل الحرص على عدم حرق أحداثها، ولكن؛ لدينا شخوص متميزة أحكم القرملاوي خلقها ورسم خيوطها وتطورها، وعلى الأخص جدود البطل وآباء الجدود، وإذا ما أردت أن ألخص بحذر شديد أهم الشخوص فبدأت بالجيل الأول من أبناء الشيخ من زوجاته الثلاث، سأتوقف بداية أمام فاضل أفندي، الذي كان الفرع الأكثر اعوجاجًا في سلوكياته وتمسكه بالمتع الدنيوية، حتى تتبدل مساراته قرب الخواتيم، ثم صدقي بيك، الحكمدار القوي صاحب الهيبة والسلطة والسيارة الفورد التي زينت غلاف الرواية، قبل أن أتوقف أمام حكاية نشأت وقصة حبة شديدة العذوبة (أحببت كثيرًا حكاية نشأت وخطاباته بالمناسبة)، وصولاً إلى نعمات التي امتلكت من الحنان ما يكفي سائر أجيال العائلة، مرورًا بمختار، الفرع الأكثر طمعًا وجشعًا في شجرة آل الشيخ، وانتهاءً بالشيخ كامل الذي ورث المشيخة، والذي آثر القرملاوي أن يمنحه حضورًا هامشيًا غير مؤثر، ربما كرغبة في الحد من تعداد الشخوص، وتلخيصًا للحكايات، ومن ثم الحجم النهائي للنص.
في الجيل الثاني، وهم أجداد الراوي/الكاتب، كانت مسارات وحكايات الشخوص تمثل القسم الأكبر حجمًا والأكثر تماسكًا بين الشخوص في النص، اختزل الكاتب هذا الجيل في ستة شخوص، محمد ابن فاضل أفندي كشخصية أساسية كثيفة الحضور فوق مسرح السرد، وروحية ابنة مختار في دور أقل مساحة، مع منح المساحة الأكبر لأبناء صدقي بيك الحكمدار على وجه الخصوص (زبيدة وحسين وعلي وحسن)، والواقع أن حكايات زبيدة وحسن كانتا شديدتي الروعة، جاء بناء شخصيتي زبيدة وحسن، علاوة على محمد بن فاضل، وتطورها في سياق النص، شديد الإحكام، منتهى الإتقان والتمكن في التحولات والنقلات الدرامية في السرد، فيما كان حسين أقل حضورًا في أغلب الأوقات رغم تأثيره الواضح في مصير حسن، أما علي، فقد كان حضوره باهتًا، حتى أنه سقط من شجرة العائلة الموجودة في صفحة ٢١.
هذا المخزون الكبير من الحكايات، وهذه القدرة على إحكام التداخلات بين الشخوص، على تفاوت حضورها وتأثيرها وبنائها، أذهلني بحق! ليس بيننا من لا يقدر على استخراج أحد أقاربه من هذه العائلة، كلنا لدينا شبيه بهذه أو قرينة لتلك، حكايات القرملاوي غمرتني بالألفة، لأنها حقيقية للغاية، وكأنه جعل من خياله آلة زمن عاد بها إلى القرن الماضي، لينتقي أشخاصًا حقيقيين اكتفى بنقل سيرتهم إلى نصه!
ما وراء النص .. ما بعد ثورة يناير
رغم انخراط الراوي/الكاتب في الإبحار عبر صفحات الزمن المصفرة، وإعادة رسم الحروف الممحوة من كتب الأقدمين، فإن الحاضر لم يغب عن نص القرملاوي، الذي أحسبه الأجرأ في تناول الحاضر، ومرحلة ما بعد الثورة.
إثر تجربة ما، مؤلمة ومريرة، يقرر صديق الراوي وشريكه الهجرة إلى أستراليا، وعلى إيقاعات صوت أحمد موسى وصراخه فيما يطالب بزيادة معاشات الشرطة والجيش، تتسرب -تدريجيًا- رغبة مماثلة بالهجرة إلى عقل الراوي، لم يرتكز في قراره على الآمال الوردية عن حياة المهجر، على النقيض من ذلك كانت رغبته مشوبة بالتردد، وصقيع الغربة يتسلل إلى جسده قبل أن تتحور الرغبة إلى مشروع آخذ في التحقق، كانت الفكرة تراوده لأنه لم يجد الوطن الذي وعدت به آمال الثورة، ولم تكتمل في شرفات خياله صورة حالمة بغد قريب، أفضل!
وفي مشهد بديع آخر، في خضم مناورات الأبوين ومحاولاتهما لإثناء وحيدهما عن التفكير في الهجرة، وفيما الأب يزين الحياة والغد في عيني وحيده مصورًا له ذلك الوطن الآخذ في التطور (وفق منظور غالبية الآباء)، يصطحبه لمعاينة قبر جديد يتأهب لضمته، قبل أن يصف المقابر الجديدة، بأنها مملوكة للجيش، ككل شيء آخر!
فيما يخص لغة الحوار، استخدم القرملاوي الفصحى الدارجة، أي أنه ألبس العامية برداء الفصحى، ولعلني عدتُ لإدراج هذا الملاحظة في قراءتي هذه لما لاحظته من حالة التباس حدثت لدى بعض القراء، فقد حار البعض في كون الحوار قد ورد باللهجة العامية أم بالفصحى، والصحيح أن الكاتب قد أدخل نوعًا من التنويع من حيث استخدام الأسلوب الحواري مقارنة بنصوصه السابقة، حيث استخدم ألفاظًا هي في واقع الأمر فصحى، إلا أنها دارجة وشديدة الشيوع في اللهجة العامية، الأمر الذي سبب الحيرة لبعض القراء، إلا أن ذات الأمر قد لاقى استحسان فئة أخرى، وأن أزعم أنني أنتمي إلى الفئة الأخيرة
محاكمة التاريخ
“جيل ينتج، وجيل يحصد ما أنتجه السلف” (الرواية – ص ٥٥)
كلمات رنانة جميلة، موروث شفاهي حكائي عتيق، أثق أننا سمعناه من الآباء والجدود في مرحلة ما من عمرنا، أليس كذلك؟
ولكن القرملاوي، صاخب اللغة الرصينة والنبرة الهادئة والوتيرة الموسيقية في سرده، يصرخ بين السطور بما يصم الآذان؛ ماذا جنينا من حصاد الآباء والأجداد؟ أي إرث ذلك الذي يفترض بنا أن نجني اليوم ثماره؟ أي وطن تسلمناه عقب سنوات النضال والحرب والتحرر طيلة قرن كامل؟
كلنا ورثة آل الشيخ، وليس أبطال القرملاوي فقط، كلنا نتشارك ذات المخزون من الحكايات، ذات الدراما وذات التفاصيل، وذات الشعاب التي اختلطت فيها المصائر ما بين انتصارات صغرى، وهزائم كبرى.
فهل نحن مطالبون، مرة أخرى، باللهاث خلف حلم زائف بكنز مدفون يحرسه قرد أجرب؟ أمقدور لنا أن ندور في دوائر التاريخ للأبد، وأن نجتر ذات المسارات طواعية وكأن كل ما سواها عدم، وكل ما دونها ضلال؟ أم تُرانا ننسلخ من ذلك الإرث الثقيل فنخلع ثوب الانتماء، ونجنح إلى شطب الصحف وبيع بيت العائلة/التاريخ/الزمن الذي ورثنا حصاده المعيب؟
“نحن الجيل الحاصد يا أبتاه، نحصد كل شئ؛ ليس المال فقط، ولا الأرض، ولا البيوت، بل الهزيمة… وغمامات الأعين، والهتاف الضائع في الفراغات، حتى الجينات نحصدها، والدما المسممة بهوس البحث عن الكنوز، عن الوعود الجسام، عن المذنبات الضائعة في الفضاء”(الرواية – ص ٦٨)
استخلاص
جيل الآباء يستعد للرحيل، وسنصبح نحن جيل الآباء!
بنهاية النص، تتبلور صورة الماضي فيما يصر على تجميد الحاضر وتعطيل المستقبل، القرد الأجرب هو الموروث الشعبي الشفاهي عن تراث شائه وأمجاد غائبة وماضٍ حافل بالزيف، وصحف مصفرة ملآنة بالعطايا والوعود، والكنز المخبوء ليس إلا كأس وهم نتجرعه -طواعية- جيلاً من بعد جيل، ذلك الكأس القديم ما عاد يروي الظمأ، وما عاد الناس بجرعه يثملون.
هل طرحت الرواية سؤالاً بعينه؟ وهل اقترحت أية إجابات؟
كل النصوص تحتمل التأويل، حتى تلك النصوص التي تغلفها القداسة ويحرسها أصحاب العمائم والقفاطين، يختلف الناس على مذاق الحكاية، ويتنوع تأثرهم بها كل وفق منظوره وأيدولوجيته ومخزون حكاياته، قد يرى البعض في النص مجرد مجموعة من الحكايات الممتعة محكمة الترابط، قد يستدعي من خلالها بعض القراء فصولاً من حياة عائلاتهم، وقد يعتبرها البعض كوة سردية تنفتح في جدار الزمن، يطلون من خلالها على مصر التي لم يعرفونها، مصر التي سمعوا عنها من حكايات الآباء والأجداد، قد يشير البعض إلى عباءة نجيب محفوظ، وتأثر الكاتب بتتبع الحكايات عبر تعاقب الأجيال تحت وطأة حضور مكثف للموت، وقد يكتفي القارئ بذلك، كله أو بعضه، طالما تحققت لديه المتعة من خلال القراءة. أما عن نفسي، فقد استمتعت بكل هذا بدوري، ولكنني؛ علاوة على ذلك، أزعم أنني قد عثرت على كنز القرملاوي الأدبي، خلف واجهة الحكاية، وفيما وراء البناء السردي.
وعليه، فإذا أردت أن أستخلص السؤال من طيات الحكاية، لسألتُ:
كيف نريد لقطار الغد أن يمخر الأرض عبر قضبان مغايرة لتلك المسارات التي قطعها الأسلاف، طالما ظل الماضي هو عربة الجر الرئيسية، والجالس خلف المقود؛ قرد أجرب؟
تكليف القارئ بوضع تتمة النص
هل كانت ثمة إجابات؟ ضمنيًا نعم، ولكن أبرع الإجابات المطروحة، كانت تلك التي تركها الكاتب للقارئ معنونة بالفصل رقم ٤٤. صفحة فارغة تركها القرملاوي، فقط، لقوم يتفكرون!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائي وكاتب مصري