دعاء جمال البادي
العَجُوزُ يَسْقُطُ مِنَ الشُّرْفَةِ
يا الله، حتمًا هذا الولد طائش، مسكينة أسرته معه فعلًا. ما نتيجة ما يفعله؟ ما جدوى أن يضيع شبابه وحياته كلها فيما يجري؟.. لو أن لي رُبع صحته لن أتركها تضيع في هذا العبث، يعني لو أن لي ربع صحته للعبت كرة القدم ساعاتٍ أكثر من التي لعبتها وأنا صغير وسبحت إلى ما بعد البراميل دون سماع تحذيرات الشاطئ، وأكلت كل شيء بلا تأنيب المعدة والضغط، وجريت في الشارع، ورقصت في الشارع، وضحكت على أشياء تستحق الضحك وأشياء لا تستحق دون خوفٍ من كتمة الرئة وانكشاف ضروسي المخلوعة.
يجري الولد الطائش بخفةٍ مذهلةٍ وكأنه لم يُجرب المشي الهادئ يومًا. يتعثر أنفه وجسده كله بقنبلة غاز مسيل للدموع. يسقط بجانب القنبلة. يتلوى بعنفٍ ثم يقوم بلياقةٍ عجيبةٍ. يُحكم كوفيةً حول رقبته على نصف وجهه بسرعةٍ، على نحوٍ رأيته أيام الانتفاضة الفلسطينية في التلفزيون، ثم يُمسك القنبلة بإيمانٍ مُربكٍ ويُلقيها مرة أخرى على صفوف الشرطة فتصنع قوس قزح من الدخان في سماء الشارع الضيق. أنا لا أفهم كيف لولدٍ صغيرٍ مثله القدرة على صنع قوس قزح من الدخان!!
تُرى هل يلمحني هذا الولدُ الطائش؟ هل يمكن أن يمتد نظره إليَّ؟
أنا العجوز الذي تسقط ملامحه العاجزة؛ اندهاشًا من شرفة شقته.
جاء صوتُ صفية من الصالة:
– يا حاج.. ادخل.. الربو.
وفكرتُ لو أني مت الآن بسبب نوبة ربو، هل سيلمحني الولد الطائش؟ هل سيمتد قوس قزح إلى رئتي؟
– إنت سامعني؟ الربو.
– حاضر.
ودخلت وأغلقت جيدًا باب البلكونة بالشنكل. وجلست بجوار صفية على الكنبة، وهي سألتني عن الذي يجري في الشارع، وقلت لها إنها المظاهرات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يَوْمَ سُرقت التُّفَّاحَة الخَضْرَاء
على حافة الرَّصيف جلس طفلٌ لا يتجاوز العاشرة يتابع أنصاف الأرجل المُتحركة في جميع الاتجاهات، تهتف للحرية.. لم يرفع رأسه ولا مرة ليرى وجوه الناس التي تهتف، ولو حتى من باب الفضول.
كانت عيناه الدقيقتان تزوغان من الأرجل المتحركة أمامه إلى التفاح الأخضر المرصوص بحرصٍ أمام محل عبده الفكهاني الذي كان مشغولًا مع قفص برتقال.
ظل هكذا حوالي ساعة يبحلق بعينيْه الدقيقتيْن ويمصمص أنامله الجائعة، وظللت أراقبه من البلكونة حينًا وأنا أتكئ على سورها وحينا وأنا جالس على الكرسي الخيزران وأراه من بين عِصِيِّ السور الحديدية.
وجاءت صفية تحمل الشاي وشكرتها وعندما استرددت نظري إلى جلسة الطفل، لم يكن في جلسته.. تخطى الطريق إلى محل الفكهاني وباغت صاحبه وأخذ تفاحة وجرى.
جرى عبده الفكهاني وراء الولد، كان يعض طرف جلبابه الرمادي، بينما كان الولد يلتهم التفاحة وهو يجري كانت سخونة الأسفلت تلسع قدميْه العاريتيْن بفعل أمشير المُتقلب. حوَّلت الأرض المُلتهبة ركضه لقفز.
وتوقف القفز فجأة…
نجح عبده في جذب الولد ناحيته.. سحله حتى باب المحل على نحوٍ فكرني بأستاذ محمود المليجي في فيلم الأرض..
صرخ عبده:
– هي فين يا ابن الكلب؟
مُجاجها السائل أسفل شفتيه يؤكد أن الولد التهمها..
– أكلتها يا ابن الكلب؟ طب والله ما أنا سايبك.
وكانت يدا عبده تقرع بغلظةٍ وغيظٍ سلسلة ظهر الولد. وفي النهاية تقيَّأ الولد التفاحة قطعًا مفتتة..
وقالت صفية بقرفٍ كأنها لا تتقيأ أبدًا..
– قرف إيه دا عالصبح يا ربي؟!
ولم يسمع الناس صراخ الولد لأنهم كانوا يهتفون للحرية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نَفْخُ البَالُونَاتِ
صارت حالة صفية تستدعي زيارة الطبيب.. الأمورُ تدهورت خلال يومين فقط.
في يوم، كان أربعاء تقريبًا، قالت إنها ستقوم لتُعد الغداء، وقلتُ لها انتظري حتى عودة الولد لنأكل مع بعض، غير أنها تجاهلت كلامي أو هكذا ظننت وقامت إلى المطبخ لتُعد الغداء.
قمتُ وراءها مرتديًا فردة شبشب واحدة بعدما فشلت في العثور على الثانية والتي وجدتها بعد ذلك تحت ترابيزة السفرة، وفكرتُ ألا أجعل لتصرفها قيمة فتصنعت مجيئي المطبخ لشرب مياه. وبعد أن أعدت زجاجة المياه إلى باب الثلاجة قلتُ مصطنعًا الهدوء:
– بالمناسبة يا صفية كان حقك تقول لي إنك جعانة مش تسبيني وتمشي كدا.
وهي لم تستدر لكلامي وظلت على حالتها تُعطيني ظهرها وتكاد تلتصق بالبوتجاز وتقلب بالملعقة حلة سبانخ وتكشط طبقة صلصة مزيتة تسبح فوق السبانخ..
عصبني تجاهلها لي للمرة الثانية، فعلا صوتي:
– لأ، مش معقول كده أبدًا.
حينها فقط استدارت بدهشةٍ:
– إنت هنا؟ مالك في إيه؟
وأقسمت أنها لم تسمع كلامي وأنا على الكنبة، ولا كلامي وأنا أمام الثلاجة. وتكرر قسمُها كثيرًا.. لم تعد تسمع إلا إذا علا صوتي أنا والولد وقد كلفني هذا بح حنجرتي وتكفلي بفتح الباب والرد على الهاتف لأنها لم تعد تسمع الأجراس ووضع صوت التلفزيون على أعلى درجة.
وما حدث أن صفية شعرت ذات ليلة بالبرد ينخر في عظامها ويرج جمجمتها فقامت وأنا نائم والولد في الميدان، وهداها تفكيرها أن تقتطع دائرة من القطن من الكيس المحفوظ في رف النيش العلوي، وقعدت على الكنبة وصنعت من دائرة القطن دائرتين أقل حجمًا من أمهما وضعت واحدة في أذنها اليمنى والأخرى في أذنها اليسرى وهكذا عادت للسرير مقتنعة أن دوائر القطن ستخفف برد مخها. هذا بافتراض أن صفية بهذا التصرف كان لديها مخ أصلًا.
نامت صفية واستيقظت صباحًا لتبحث وهي تتثاءب عن قطعتي القطن في فتحتيْ أذنيْها ولم تجدهما وبحثت جيدًا على المخدة وتحتها وعلى سطح السرير كله وعلى الأرض من ناحية نومتها ولم تجدهما ونفضت البطانية واللحاف أكثر من مرة بنفس النتيجة.. وكان القطن محشورًا في رأس صفية.
وكنا يوم جمعة وقلت إن الأطباء لا يفتحون عياداتهم يوم الجمعة، وقال أحمد وهو يربط حذاءه استعدادًا للنزول إلى الميدان إنه يعرف طبيبًا يفتح في العطلة.. وقالت صفية- بعدما أعدتُ عليها ما قاله أحمد بصوتٍ عالٍ- علينا الاتصال بعيادته من باب الاحتياط غير أن الولد لم يكن يعرف للعيادة رقمًا فسلمنا للذهاب دون تأكيد.
كانت العيادة قريبةً مسافة خمس دقائق بالتاكسي، جلست جوار السائق وصفية خلفي.. ولم أفهم كيف قدر السائق في خمس دقائق أن يلعن البلد والدنيا ونفسه ويشرح التداعيات الخطيرة لما يحدث ويحكي بحرقةٍ عن المصائب التي حلت وستحل علينا جميعًا بسبب الثورة.. كانت أجرته لا تتجاوز الخمسة جنيهات لكنه طلب عشرة استنادًا لكل ما قاله في الخمس دقائق ودفعت له لأنه احتمال جدا أن يكون مشروع بلطجي سائر في أرض الله بلا حائل.
دلفنا إلى العيادة، كانت شبه خاليةٍ، وقالت صفية بصوتٍ عالٍ إن الناس لا يمرضون أيام الثورات، يموتون فقط. وكان الطبيب شابًّا واستقبلنا بابتسامةٍ رائقةٍ.. أمسك كشاف إضاءة دقيقًا وشبه مشرط رفيع وظل يقلب أذني صفية باهتمامٍ ويُدخل شبه المشرط في أذنها ويخرجه ثم استأذنها في الانتقال للجلوس إلى هناك، مشيرًا إلى جهاز له كرسي صغير ومثبت به عمود معدني يخرج من ناحية شاشة ومن ناحيةٍ أخرى شبه سماعتين طوق بهما رأس صفية.
وبعد الكشف قال إن صفية تعاني من التهابٍ شديدٍ في قناة إستاكيوس بسبب وجود جسمٍ غريبٍ في الجوف الطبلي، وقال إن الأمور بسيطة إن شاء الله وسيلتقط الجسم الغريب من أذنها وستكون بخير..
وقاطعته:
– هو جسم واحد ولا اتنين؟ أصلها كانت حاطة قطن في الناحيتين.
قال إن الجسم الغريب في ناحية واحدة، ولكن الأذن الثانية تأثرت على أي حال لكنها تسمع بها، واحترت في هذه المسألة، أين اختفت دائرة القطن الثانية؟
وانشغلت عن الحيرة بالتلفزيون المُعلق على الحائط المُجاور لباب حجرة الكشف أتابع الميدان، الناس كانوا متلاحمين كأنهم كتلة دائرية كبيرة من الاعتراض.. وانشغل الطبيبُ بتخليص أذن صفية من الجسم الغريب. واستدرتُ لصفية وهي بين يديْ الطبيب وسألتها:
– إنتي متأكدة إنك كنت حاطة قطن في الناحيتين؟
وهي لم ترد، وعدتُ للتلفزيون.. كتب الطبيب روشتة بخط واضحٍ على غير عادة الأطباء ووصى بالالتزام بالأدوية واختتم بتوصيةٍ غريبةٍ، وهي أن تنفخ صفية بالوناتٍ قدر استطاعتها لأن هذا سيُساعد في فتح قناة إستاكيوس المسدودة.
وضحكت، وبينما أنا أضحك التفت الطبيب إلى التلفزيون والتفت معه:
– قرر الرئيس محمد حسني مبارك تخليه عن منصب رئيس الجمهورية…..
قفز الطبيبُ من جلسته خلف مكتبه واحتضنني، ثم أمسك رأس صفية وقبلها، ثم قبَّل الروشتة نفسها، وارتبك، واعتذر، وقال إنه تصرف بعفويةٍ بسبب الفرح الكبير، وإن صفية مثل أمه وفي نفس عمرها تقريبًا، وأنا عذرته وفرحت لفرحته، ثم قال ضاحكًا إنه صار الآن هناك سببٌ وجيهٌ لنفخ البالونات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائية وقاصة مصريَّة .. القصص من متتالية بعنوان “إنهم يثورون في درج الكومدينو” صادرة مؤخرًا عن دار تويا