د. محمد شداد الحراق
من شرفة غرفته العلوية المنفتحة على السماء الواسعة، ومن خلف عدسة تِلِسْكوبهِ الكبير المنتصب دوما والمتجه نحو الأعلى، يتأمل الدكتور (دافيد غريس) الصمت الرهيب الذي يسكن الفضاء. يغوص في المدى الفسيح الممتد. يطل بشغف كبير وبعشق جنوني على الكون الغامض اللامحدود المترامي الأطراف. يتجول بعينيه الفضوليتين بين أسراب النجوم اللامعات الغامزات. يتنقل بين المسافات اللامتناهية. يتقصّى الامتدادات الفارغة اللامرئية التي تتجاوز الأبعاد المألوفة. يغازل الجمال المكنون في السماء المرصعة بالمصابيح والمتبرجة بزينة الكواكب. يستمد الطاقة الكونية ليشحن بها عقله وفكره وروحه وجسده. ينظر إلى تلك اللوحات البهية البديعة الصنع وهو يثرثر في قرارات نفسه:
“ما هذا الكون العظيم؟ ما هذا الجمال الأخاذ؟ ماذا يخفي عنا هذا الملكوت البهي؟ ما الأسرار المتوارية في كواليس هذه المجرات الكثيفة المتجاورة وفي أغوار هذه البؤر الضوئية العملاقة المبثوثة في هذا المدى الواسع المحيط بنا بكل انتظام؟؟”
وما هي سوى لحظات سريعة حتى يستسلم الدكتور (غريس) لجاذبية الكون القوية، وينغمس بكل قواه العقلية والوجدانية في بحر التساؤل والتأمل والفضول. تتفاعل حساسيته الروحية مع الذبذبات المتلاحقة التي تحملها إليه تلك الأضواء المتراقصة، وينفلت فكره من مغناطيس المكان وفيزيائية الزمان، فينفصل عن محبسه الترابي، ويتحرر من قيود المادة، فتسبح روحه بكل حرية وانسياب في خضم نوراني سماوي لا حواجز فيه ولا حدود، ويلج الفضاء الرحب خفيفا مرفرفا محلقا بين الكواكب والنجوم. وفي هذا المقام العُلوي تنفتح أمامه مغاليق السماء، وتنكشف له الأستار، فيرى ويسمع ويلمس أشياء لا تُرى ولا تُسمع ولا تُلمس.
في الطابق السفلي من البيت، كانت (ماري) جالسة على الأريكة المقعرة المقابلة للتلفاز، تنتظر عودة الوعي إلى كيان زوجها الغارق في مناجاة الكون. تتسلح بالصبر وتمنّي النفس بانقطاع حبل هذا التأمل الطويل المستفز لتظفر بنصيبها من هذا الزوج الزاهد فيها وفي الناس وفي كل شيء. انتظرت طويلا، فلم يُجْد الانتظار نفعا. فراحت تناديه بصوت أنثوي منكسر يحمل كل آيات الغضب:
- دافيد !!..دافيد !! هل عدت لشرودك وعبثك من جديد؟ هل ما زلت تحلم كما العادة دائما؟ متى تعقل وتعود إلى رشدك؟ ألا تكفيك هذه الأرض؟ هل ضاقت عليك حتى تتعلق بالسماء؟ ما هذا الجنون يا دافيد؟.. أخاف أن يصيبك مس من الشيطان، أو أن تفقد صوابك واتزانك إلى الأبد.
انتظرت تجاوبه مع نداءاتها المتكررة، لكنه لم يردّ عليها بكلمة. اقتحمت عليه الغرفة لتمزق حبل شروده، فلم يلتفت إليها.وجدته- كما العادة- ممتطيا مركب الروح في رحلة وجدانية عبر أقطار السماوات والكون، سابحا في عوالم تأملاته، مستغرقا في معراجه الروحي. وقفت بجانب الباب تتساءل في أعماقها عن جدوى هذه الحالة السريالية المتطرفة التي لم تفهم دواعيها. تستغرب من ذلك الانعزال المستمر المتواصل في تلك الغرفة اللعينة. تضمر سخرية عميقة من حماقات زوجها السخيفة ومن شطحاته الوجودية المتكررة. تتأسف لحالته البائسة وقد تحول إلى شبه راهب متنسك في محراب ليلي يلازمه ويتمسك به تمسك الوثني بصنمه. نظرت إليه نظرة عميقة تترجم ما في جوفها من حمم منصهرة تكاد تنفجر غضبا وأسفا وحسرة، وراحت تندب حظها العاثر الذي جعلها ترتبط بكائن فضائي حالم مثير للشفقة. بمخلوق مثالي غريب الأطوار يبحث عن عنوان جديد في العالم العلوي. بفيلسوف غامض يتمرد على الطبيعة المحسوسة، ويعتبر وجوده على الأرض خطأ فادحا يجب تصحيحه.
بعد ليلة خاشعة في محراب السماء يعود الدكتور غريس منتشيا بسباحته العلوية، مليئا باللذة، مفعما بالتساؤل. ينفلت من قبضة الجمال مكرها، ويبدأ سفره النزولي نحو الأرض الصمّاء الجاحدة. يعود إلى التراب البارد. تستقبله الجاذبية. تحتضنه المادة. تعانقه الرتابة. ينظر إلى ما حوله فيشاهد البشاعة في كل مكان. ينقل نظره في كل اتجاه فلا يستقبل إلا القبح المنْدسّ في الزوايا والأركان. تنتابه مرارة الانتقال، ويصيبه دوار الارتحال. يلقي نظرة على الشارع فيرى الناس غارقين في حياة جافة بلا طعم..حياة بائسة بلا عمق.. حياة عابرة سطحية تزيف الوعي والإدراك وتوهم الإنسان بالوجود.
عند كل نزول يحس الدكتورَ غريس بأنه يعيش حالة انتحار وجداني قاس.. يشعر بسقوط مؤلم في بحر من شوك وفي حوض ممتلئ بالجمر. يجلس متحسرا على تلك اللحظات المتعة التي قضاها في أحضان الكون العلوي. يؤلمه الانقطاع عن عالم المتعة الحقيقية، فتتوق نفسه إلى الترقي من جديد في معراج الجمال، تشتاق إلى تذوق نشوة السباحة وارتشاف لذتها. صار يعيش أحوالا شبيهة بأحوال العارفين. يستنشق رحيق الشوق والمناجاة، ويستحم بأنوار الملكوت، ويفنى في الجمال الفاتن المطل من تلك السماوات البديعة المدهشة. في ثرثرته الداخلية كان كثيرا ما يردد:
” حينما أتأمل هذا الجمال الآسر المبثوث في الكون الشاسع اللامحدود أسمو ثم أسمو حتى أصل إلى حدود المنتهى، أصل إلى المحطة الأخيرة التي يسعى إليها أولئك الخاشعون في جوف الليل. في تلك السباحة الروحية أحسُّ بدبيب لطيف يسري في كياني، بشعور غريب يعتريني، بمغناطيس رفيق يأخذني، يطوقني، يحملني نحو المقامات التي يصلها المحبون للجمال العاشقون للكمال الراغبون في الوصال. “
حاول دكتور غريس كثيرا زرع بذرة الشوق والرغبة في قلب ماري، لكنها ظلت معرضة لامبالية. كم مرة دعاها لتذوق هذه المتعة المنعشة ، فترفض وتأبى. يمد إليها يده باستمرار كي ينتشلها من مستنقع الابتذال المادي، فتتمنع وتتمسك بالأرض وتعتصم بحبال الواقع. تعتقل روحها في سجن ترابي بارد، وترفض أن تمنحها الحرية قليلا كي تنطلق نحو الأعلى، لترفرف كفراشة عاشقة تنشد أناشيد الجمال وتتلو تراتيل الخلود. قال لها يوما:
” ماري.. حبيبتي..لو تخلصت من عنادك الأحمق المتواصل وتأملت يوما هذا الكون الفسيح، لتغيرت نظرتك إلى الحياة والموت والإنسان. لو نظرت بعيون التدبر لعرفت أننا جزء صغير صغير صغير في عالم هائل جميل بديع الصنع. ستدركين حتما عظمة هذا الملكوت الذي ننتمي إليه. ستشعرين حينئذ بالرغبة في الانفلات من مغناطيس الحياة اليومية، وترنو نفسك إلى الارتقاء في مدارج السمو.”
لم يتوقع أن يكون ردها قاسيا بتلك الحدة المفرطة. أجابته وهي في حالة انفعال:
“أرجوك يا دافيد..لا تكثر عليّ من هلوساتك المزعجة..لا تعذبني بجنونك الأهوج وهذيانك المرضي المزمن.. اسمع جيدا.. أنا لا أكترث لما يختفي فوق السماء وما يتوارى تحت الأرض وما يسبح في أعماق البحر.أنا يكفيني ما أحظى به من متعة حقيقية أعيشها لحظة بلحظة..أعيشها حقيقة ولا أتوهّمها. أما أنت فلك أن تتوهّم ما تشاء. لك أن تحرث سماءك الغالية طولا وعرضا، وأن تزرع فيها أوهامك وأحلامك وأساطيرك. لن تقنعني أبدا بخرافاتك السّمجة، ولن ترغمني على التحليق في عالمك الموهوم.”
تألم كثيرا لهذا الموقف المتعنت، ثم تركها تكتوي بحممها المنصهرة الحارقة وتردد موال الحسرة، وصعد إلى محرابه من جديد ليمارس طقوس التأمل والتدبر، ويستحم بعطر التزكية والتطهير، ويمتطي صهوة السمو والترقي، ويسلك طريق المعرفة الذوقية الوجدانية بحثا عن الحقيقة الغالية الثاوية في دفتر الوجود.