د. نعيمة عبد الجواد
تتميز الفنون على جميع ألوانها وأشكالها بالرقي والجمال التي تجعل متذوقها في حالة من الانتشاء الدائم؛ حيث إن للفنون القدرة على تغيير الحالة المزاجية للأفراد. فالفنون مهما كان لونها تستقطب القارئ أو المشاهد – ولو حتى للحظات – ليصل إلى حالة من التوحد مع العمل الفني، وبعد هذه اللحظة، لن يصير القارئ أو المشاهد كما كان من ذي قبل على الإطلاق أبداً؛ فالفن ما هو إلا تعويذة سحرية يتم إلقائها لتغيير مسار حياة المتلقي.
وواحدة من أهم أنواع الفنون في العصر الحالي هي الفنون المرئية، سواء السينمائية أو المتلفزة، وإن كان للأفلام السينمائية تأثير واسع النطاق لحظة بثها في دور العرض، أو حتى على شاشات التلفاز؛ بسبب لغتها السهلة البسيطة التي تحاول طوال الوقت الوصول لعقلية المشاهد، وإعطاءه درساً أخلاقياً بأسلوب غير مباشر – في أغلب الأحيان كما في حال الأفلام الراقية الفكر- أو حتى توفير المتعة من خلال الضحك والفكاهة. وهذا النوع من السينما يتم نعتها بالسينما الهادفة، وإن كنت أختلف مع تلك القولبة؛ لأن الفن بشكل عام وبجميع ألوانه هادفا، حتى وإن تبدى غير ذلكً.
وفي إطار المحاولات الدؤوبة لتحديث الفن السينمائي في العالم، انتشرت بداية من ستينات القرن الماضي – وإن كانت توجد محاولات جادة تسبق ذلك التاريخ – ما تسمى بسينما الواقع، أو السينما الواقعية؛ والتي تحاول نقل صورة مطابقة للواقع يتم اقتطاعها من الحياة اليومية؛ لتقدم على شاشات العرض عاكسة لواقع يعيشه جميع أبناء المجتمع، بعيداً عن تزييف دقائق الحياة اليومية.
وفي ضمن ذلك الإطار، ظهر على الساحة العالمية لون جديد من الفن السينمائي الذي أفضل أن أنعته ب “السينما السوداء”، ألا وهي سينما الشوارع الخلفية والمهمشين، أوالسينما التي تعبر عن شرائح المجتمع التي كانت تخجل المجتمعات الراقية تقديمها؛ لمجرد أن ظهور مثل ذلك الواقع يسئ إلى شكل أي دولة ومظهرها الحضاري لما يسودها من عنف وجريمة وانتشار الرذيلة، أضف إلى ذلك، تبوأها مساكن رثة المظهر والمخبر، وتعوذها أدنى أساسيات الحياة المدنية التي تحافظ على آدمية قاطنيها. ومن ثم، ظلت تلك المجتمعات المهمشة حبيسة الواقع إلى أن وجدت متنفساً لها، وخاصة بعد انتشار حركات التحرر بين أطياف طبقات المجتمع، ومحاولات التقريب بين طبقات المجتمع بمحاولة إلغاء الطبقية، وتركيز دائرة الضوء على شرائح مجتمعية عينها دون الالتفات لباقي شرائح المجتمع. وعلى هذا، عبرت الطبقات المهمشة عما يدور بها بكل حرية، وإن ظهر ذلك بشكل صادم للمشاهد العادي؛ الذي لم ولن يتخيل أبداً أن مثل هذا الواقع يتواجد في مجتمعه. فمفهوم الواقعية القذرة Kitchen Sink Realism الذي ظهر في خمسينات وستينات القرن الماضي في المسرح البريطاني، ومنه انتقل إلى ألوان الفنون الأخرى مثل الرواية والدراما التليفزيونية والفنون الأخرى، ثم انتقل وانتشر بعدها إلى العالم أجمع؛ بسبب نجاحه في الثورة على الواقع المرير، لم يتمكن أبداً بمحاولته لنقل واقعية قذرة تصوير ما يدور خلف أستار المجتمع. وبناء على ذلك، من الأفضل نعت سينما المهمشين والعشوائيات والعنف الغير مبرر ب”السينما السوداء” لأنها تصور واقعاً ليس فقط مريراً، بل أيضاً أسود وحالك السواد؛ لما يسوده من ظلم اجتماعي مباشر، وغير مباشر جعل قاطني تلك المجتمعات تيأس من وجود أي بارقة أمل للإصلاح.
ولعل أبرز تعبير عالمي عن ذلك الواقع ظهر في أدب وأفلام المجتمع الأفريقي الأمريكي الذي بات لا يخجل من واقعه الذي يسوده العنف والجريمة، فبدأ يطرحه على الساحة الأدبية والسينمائية بكل ثبات وثقة، ليس تفاخراً بما يحدث فيه ولكن لإدانة غياب العدالة الاجتماعية، ومحاولة من الأدباء والفنانين لحث القائمين على الأمور للالتفات لمجتمعهم المهمش، ومحاولة إيجاد حلول لاصلاحه وتحسين أوضاعه.
ومن الجدير بالذكر، أنه قد يمكن أن ننسب الفضل في ظهور ما أنعته “بالسينما السوداء” و أيضاً “الأدب الأسود” إلى حركة القوة السوداء The Black Power Movement التي ظهرت في ستينات وسبعينات القرن الماضي في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي من أهم الحركات الاجتماعية والسياسية المصيرية على مستوى العالم؛ حيث إنها كانت تدعو إلى عدم الخجل من عرق وهوية الفرد لأنهما ليس من اختياره، وفي نفس الوقت تدعو إلى المساواة، ونيل عدالة اجتماعية وسياسية التي تم حرمانهم منها بسبب بشرتهم السوداء التي تميزهم كتابعين في ظل مجتمع أبيض.
ومن أبرز ما قيل لتصوير ذلك الوضع، كان ما عبر عنه الكاتب الثوري الأفريقي – الأمريكي أميري بركة Amiri Baraka سواء في كتاباته الأدبية المتنوعة من شعر ومسرح، أو كتابات نقدية. ومن مقولاته الشهيرة في ذلك الشأن تبريراً لمشاهد الواقع الصادم من عنف، ورذيلة، وانحلال أخلاقي، وجريمة في الأعمال الأدبية والفنية للمجتمع الأفريقي الأمريكي في هذه الحقبة:
“لو أنك تقطن منزلاً واسعاً، لكنك تحتجزني في إحدى غرفه، ولا تكلف نفسك أبداً بالذهاب لتلك الحجرة، وكذلك لا تعلم أي شئ مطلقاً عما يدور بتلك الحجرة. وإذا حدث وأني خرجت يوماً من تلك الحجرة لتنظيف أشياء أخرى عبر أرجاء المنزل، لسوف أعلم ما بداخل المنزل بأكمله. ولو أنك فجأة صرحت أن ما أتفوه به شائن، وقذر، وفاحش، وخليع، إذا يتوجب عليك معرفة أن المكان الذي أكرهتني أن أمضي حياتي فيه على نفس درجة القذارة والبشاعة التي أتفوه بها”.
وكما يتضح من ذلك الإيجاز لوضع المجتمع الأفريقي الأمريكي في ذلك الوقت، أنه لا يجب مواراة وتناسي شريحة مجتمعية، وتعمد عدم الالتفات إليها لما يسودها من طقوس أخلاقية خاصة بها، بل على النقيض، يجب عرض ما يحدث بداخل ذلك المجتمع لاصلاحة وإلا صار قنبلة موقوتة. وبالتأكيد، فإن مبدأ أميري بركة وجميع كتاب الحركة السوداء هو طلب العون والاستغاثة بشكل غير مباشر لتحسين الأوضاع المعيشية بداخل المجتمع الأفريقي الأمريكي.
ومنذ ذلك الحين، بدأت أطياف المجتمعات المختلفة بعرض مشكلاتها عن طريق هذا اللون من “السينما السوداء” هذه، إلى أن صار ذلك اتجاه عالمي تغلغل في أعماق الصناعة السينمائية في العالم أجمع. ولسوف أعمل في المقالات التالية بتحليل هذا اللون من “السينما السوداء”؛ لإلقاء مزيداً من الضوء عليها وتحليل تلك الظاهرة التي تشعبت اتجاهاتها في سائر المجتمعات على المستوى العالمي.