كحل وحبهان .. خلطة الذكريات والطعام الشهيّة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 9
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حنين طارق

في روايته الأولى “كُحل وحبهان” الصادرة مؤخرًا عن دار الكرمة  يستغل “عمر طاهر” أسرارك للمرة المائة  ليعيد سردها عليك مرة أخرى وكأنها لشخص غيرك، يستمر في سرقة مخيلتك وذكرياتك يصنع منها قصص أنت بطلها دون علمك وتستمر أنت في الانبهار بهذه القصص وتصديقها كأنك لم تستمع للأغاني يوما أو تركب مواصلات أوتتعامل مع صنايعية وتتبرك بآثار النبي، لم يتعمد عمر في أي مرة أن يحفر شيء داخلك بل يلون فقط ما حفره الزمان بالفعل، يزيل الغبار عن رفوف ذكرياتك ويعيدك إلى حيث كنت أنت بلا أي إضافات وإن كانت لعبة النوستالجيا تلك ليست سهلة بالمرة والغلطة فيها بفورة كما يقولون، فذكريات الماضي تتحول مع الزمن لشخص عزيز بينك وبينه عشرة طويلة ولن تسمح لأحد بمهاجمته أبدًا حفاظا على ما كان بينكما، ومع أنه أثبت مرارا حرفنته بهذا المجال، ولكن إن كان يعمل دائما على الأرث القديم ماذا ترى سيترك هو؟

لا يختار “عمر” أسهل الطرق بل أجملها وأكثرها طبيعية، ومن هنا يأتى تميزه فبعد فترة من الزمن يصعب على الإنسان رؤية البديهيات، وهكذا اختار أن يسلك أقرب طريق لقلب القارئ ألا وهو الطعام، ليس منصفا قولنا أن “عمرطاهر” هو أول من كتب عن الطعام فقد سبقته الكاتبة المصرية “أمنية طلعت” بمجموعتها القصصية “طبيخ الوحدة”، أما في الأدب العالمي فقد سبقه الصيني “لو وين فو” برواية “الذواقة” وكذلك الكاتب السويسري “مارتن زوتر” برواية “الطباخ” والكاتبة الميكسيكية “لاورا إسكيبيل” برواية “كالماء للشيكولاته” بل وبات معروفا هذ النوع الأدبي ب “أدب روايات الطهي”.

لكن ربما كان عمر هو الوحيد الذي حاول الأجابة على الأشكالية الكبرى التى طرحها جورج سيدهم في مسرحية “المتزوجون” حين قال:”الناس بتاكل عشان تعيش مش بتعيش عشان تاكل يا نفيسة” ، كيف يمكن أن يصبح الطعام مجرد وسيلة لمتابعة الحياة مثله مثل الوقود والسولار للآلات والسيارات، فتناولك الطعام فقط لكونك جائعا يجعل كل ما يقدم إليك جميل ويحولك لجسد بلا روح وحينها لن تفرق بين إن كان ما يقدم لك طعام بيتي من يدي الجاجة أو سحالي مشوية على الفحم!!

 “جوع السفر يحلي لحومًا  ذات المذاق الشمعي (طعام الطائرة). جوع البحر يجعل قطع الفريسكا اليابسة مبهرا. الحرمان الذي يقود المريض إلى الجوع يجعله واقعا في غرام (أكل العيانيين)، فيتعامل مع قطع الخضار السوتيه تعامله مع قطع الفاهيتا. شهية الفواعلية أبناء الشقاء يخلق جوعا تجعلهم يدللون أقراص الطعمية داخل لقمة العيش بإضافة قطعة جبن أبيض براميلي. أكل بوفيهات الأفراح البارد، المصنع بالجملة، البايت، عديم الشخصية، تتحول محاولات الحصول عليه إلى معارك جانبية بعد جوع الرقص واللف على المعازييم للترحيب بهم والجري خلف الأطفال.”

يتنقل عمر في كتابه بين زمنيين هما الثمانينات وأوائل الألفية الثانية لينقل لنا قصة حياة “عبدالله (ساسكو)” هذا الشخص الذي عيبه الوحيد أن جوعه مقرفا، ينقل لنا كل هفواته وأخطاءه من مراقبة مطابخ الجيران وسرقة سجائر والده إلى غباءه في التعامل مع مشاعر الحب، ووسط كل الأحداث العادية يربط لنا “عمر” بين الحياة والطعام فحين تغير الزمن تغير مذاق الأشياء،”طعم الأشياء لم يعد على الحال نفسه الذي عرفته الجدة عندما طهت هذه الأطباق في شبابها”، ومع سرد سيرة “ساسكو” يسرد لنا سيرة ذاتية للطعام ومتعة صناعته قبل تذوقه، يمكننا قول أنه يحاول محاولة بسيطة أن يضع فلسفة طعامية وإعطاء الفن حقه في كونه فن لا يقل في جماله وإبداعه عن أي نوع آخر من الفنون.

 “يقولون أن الطبخ فن سرق من كل فن شيئا: سرق من الموسيقى التناغم الذي يصهر عناصر مختلفة في نغمة واحدة بطولة الجمال فيها جماعية، ومن الرسم بهجة الألوان، ومن السينما اقتسام خيالك مع الأخرين، ومن الكتابة الواقعية السحرية، ومن كرة القدم الأثارة، ومن الشعر التكثيف، ومن الديكور مائدة تشعرك أناقتها بألفة تحرر المشاعر، ومن النحت الصبر، ومن العطور مهارة التسلل إلى الوجدان، ومن المسرح طريقة استدراك الجمهور للتصفيق”.

ليس لدينا أي دليل حقيقي بأن قصة حياة “ساسكو” ليست قصة “عمر” نفسه فقد يكون هو الشخص اللي جوعه مقرف، ويداري نفسه في الطعام وأصنافه لينقل لنا تفاصيل حياته الشخصية وما يحب ومايكره، حتى إن كان هذا صحيحا لن نستطيع أبدا أن نثبته فكل شيء قد يكون حقيقة وقد يكون خيالا المهم هو ماذا ستصدق أنت.

لغة الكتابة في غاية البساطة ساخرة دون تكلف تتذكر وأنت تقرأ أحينا أسلوب الساخر الأعظم على  “محمود السعدني” أو تشعر كأنك مع صديق مقرب على إحدى مقاهي القاهرة يحكي لك عن همومه اليومية بينما تشربون حجرين سلوم، تلك السلاسة صنعت ألفة حميمية تجعلك تشعر كأنك تقلب في ألبوم العائلة القديم.

بجانب كون “كحل وحبهان” رواية مكتملة الأركان لا غبار عليها هي أيضا كتاب قد تستفاد منه لمعرفة آداب المائدة والأهم من هذا أنها كتاب طبخ ممتاز يطلعك على الأسرار الصغيرة لتصبح طباخًا ماهرًا :

 “الإخلاص في طهي البامية يقوم على حسن اختيار الثمار، وجودة تقليمها بإزالة الرأس والذيل والحروف الغامقة فتصبح زاهية براقة، مع أهمية فرم الثوم والبصل إلى أقصى درجة نعومة ممكنة، حتى تتشرب الحبات الخضراء الصلصة فتحافظ على عصارتها بدون لزوجة، نصف معلقة سكر أثناء طهي التسبيكة تجلب السحر، وقرن فلفل حامي ومعلقة كمون ونصف ليمونة قبل تمام النضج تحول الأمر كله إلى فتنة لن ينجو منها أحد“.

كل شيء في الرواية يفتح النفس بداية من غلافه حيث تطل عليك الست “مديحة كامل” بابتسامتها الساحرة ووجها الصبوح الذي بستطاعته تحسين مزاج أي شخص حتى لو كان ذلك العسكري ثقيل الظل، إلى الأغنية الدعائية التى أطلقت بمزامنه اطلاق الكتاب من كلمات “عمر طاهر” وغناء “وائل الفشني” ، إلى الذكريات المشتركة ومزيج النكهات التى تملأ الكتاب، تفتح نفسك على القراءة إن كنت تعاني ملل القراءة، على الطعام على الحب على الحياة ككل.

فقط شيئين يمكن أن انتقدهما في “كحل وحبهان” أولهما الأسم لا مشكلة لدي مع الكحل ولكن لا أرى أن الحبهان هو الخيار الأمثل، ربما لأنني لدي مشاكل شخصية مع الحبهان، وجوده يذكرني بالسهو والنسيان والعقاب الذي ستستحقه بعد ذلك بسبب هذا السهو حين تنسى التقاط حبات الحبهان من الشوربة قبل أن تسقي بها الرز أو الرقاق فتنكسر بين أضراسك وتذيقك مرارة تنسيك حلاوة الطعام وبهجة الطبخة، وهذه ليست رؤيتي وحدي بل هو اتفاق شعبي حتى حين يكلمك أحدهم بطريقة لا تعجبك تسأله باستغراب: “مالك بتكلمني كأن في حبهان تحت ضرسك كده ليه”، فكيف يكلمنا عمر هكذا وفي حبهان على غلاف كتابه؟!

ثاني شيء هو نسيانه أو تناسيه فكرة قيام المطبخ المصري بالخلطات، فنحن مغرمين بخلط الأشياء بعضها ببعض، نأتي بعنصريين مختلفين تماما ونقرر أن وجودهما معا يصنع منهما طبقا أفضل، ويمكن خلط العنصر الواحد بمئات العناصر الأخرى ليصنع كل واحد منهم عنصرا مختلفا، فول بالأوطة، بالبيض، بالذبدة، بالزيت الحار، أرز بالأوطة أرز بالتقلية، أرز بالبيض، أرز بالخلطة، أرز بالكبد والقوانص إلخ، طعمية بالبيض قهوة بالحبهان أي فاكهة خلقها الله بالحليب تتجلى فكرة الخلطة ووضع مكونات مختلفة على بعضها البعض في “الكشري” الطبق الذي يمثل الهوية المصرية بوضوح عدة طبقات مختلفة تعطيك طعما ساحرا يقع في غرامه أي أحد، حتى الطبخات التى تعد كل عنصر بشكل منفرد كالأرز وأنواع الطبيخ التى في النهاية تخلط قبل  أن تأكلها.

الأطباق العظيمة بسيطة، كذلك الأفكار و الكتب، الطعام عالم كبير لن ينتهي الكلام عنه أو التجديد فيه لا يمكن أن نأكل لنعيش لأن الطعام هو الحياة نفسها هو غاية عظيمة إذا ما أعطيت اهتمام وعدت بحب، وإن كان وسيلة فهو وسيلة للسعادة فقط. قدم لنا “عمر طاهر” وجبة شهيّة فعلاً وكذلك رواية شيقة ومتماسكة تستدعي الحنين من جهة وتسيل اللعاب للطعام من جهة أخرى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كاتبة مصرية

مقالات من نفس القسم