عبد الرحمن أقريش
تغرق القرية في صمت ليلي رهيب، في الخلفية بعيدا يسمع هدير البحر، ومع الخيوط الأولى للفجر تستيقظ الحياة، وتنساب الروح تدريجيا في التفاصيل، تصيح الديكة، تستيقظ النساء، يطعمن الدجاجات، يحلبن البقرات، يهيئن وجبة الفطور، ثم ينزلن للحقول…
وبالمقابل، يتقلب الرجال في أغطيتهم الدافئة، ولا يغادرون مضاجعهم إلا عندما تطرد الشمس زمهرير الصباحات الباكرة.
في قريتنا تعلمت مبكرا انسيابية الزمن الكوني، وفكرة التناغم والعود الأبدي، التعاقب المنتظم لليل والنهار، والرجوع المتجدد للفصول السنوية.
في قريتنا، لا وجود لتعدد الأزمنة، الزمن في قريتنا واحد أحد هو الزمن الحاضر، المستقبل هنا حاضر لم يأت بعد، فننتظره، نستشرفه في الأفق، أما الماضي، فهو نفس الزمن وقد ولى وذهب، نستحضره، نحمله بداخلنا، يسكننا، نسكنه، فيتوقف عن كونه ماضيا.
تبدو الدواوير والمداشر في قريتنا أمرا محيرا ومضللا، الناس هنا عائلة كبيرة وممتدة، قبيلة واحدة تحمل نفس الإسم، متاهة بشرية، شبكة غريبة من المصاهرات وتبادل النساء وتقاطع الأنساب…
في السوق، في الجامع، في الأعراس والمواسم، يخاطبنا الكبار.
(مرحبا يا خال…مرحبا أيها الحفيد، أهلا يا ابن العم، ألا تعرفني ؟ أنا خالك… ألا تعرفني ؟ أنت خالي الصغير…)
كانت عقولنا الصغيرة عاجزة عن استيعاب طلاسم لغتهم السحرية !!
ومع ذلك، لم يكن هذا الإمتداد مثاليا، فالانتماء للعائلة تحكمه تراتبية قاسية، غامضة، تكاد تكون سحرية، فزواج خاطئ، ومصاهرة غير محسوبة العواقب، هو أمر يشبه اللعنة، إنه وصمة، خطيئة لا تغتفر، وعادة ما تجلب العار والخضوع والمهانة…
يسجل تاريخ العائلة ثلاث زواجات خاطئة، تزوج (عمي العربي) و (عمي محند) من خارج العائلة، وزوج (عمي العربي) ابنته لشخص غريب من خارج الدائرة الضيقة للعائلة، فكانت النتيجة خطا نسبيا هجينا، ولعنة متوارثة من جيل لآخر، فالغرباء وأبناء الغرباء في قريتنا لا ينسبون لآبائهم وإنما ينسبون لأمهاتهم، كنوع من القتل الرمزي لرجولتهم الناقصة (إويس إيجا، إويس ارقية، إويس نعيشة، إويس إيناس…)
وطبعا كانوا يحرمون من التمجيد والاحترام، فتنطق أسماؤهم حافية من دون ألقاب (دادا، لالة، سيدي، مولاي، أمغار، لامين).
في كل مرة أستحضر الصور، صور الماضي، أبتسم لقسوة المفارقة ومكر اللغة…
فالشخص الوحيد الذي حالفه الحظ وأصبح موظفا ورئيسا للمقاطعة القروية، لم يشفع له منصبه المرموق في حمل لقب مهين ومخز، كان رجال القرية ينادونه (القايد أرقية) !!
كان والدي يقول دائما:
– إكا غار القايد إيناس !! (إنه قايد فقط على يماه رقية)
أما الشريف (مولاي احماد أكرام) فلم يكن محظوظا بالمرة، كنا نناديه.
– مولاي خيخي !!
في إشارة خبيثة إلى الجمع بين الشرف والوضاعة !!
طبعا للأمر علاقة بالثروة والمال، والفقر والغنى، والجاه، والصراع على الأرض…فهمنا ذلك فيما بعد، لكن الكبار كانوا ينظرون للمسألة بعنصرية مقيتة، فالغرباء لوثة أو وباء ينبغي تجنبه بأي ثمن… وللأسف كنا نحن الصغار ضحايا لبذور الشر التي انغرست عميقا في أرواحنا !!
ينبلج الصبح أخيرا، تخرج (للا عيشة) زوجة (عمي العربي) باكرا، كنا ننطق اسمها حافيا، ولكنني الآن أستحضر ذكراها بكثير من الاحترام، رغم كل شيء، لم لا ؟ فللأموات حرمة، ثم أنني، مع مرور الزمن، فقدت قسوتي المجانية، ولم أعد معنيا بصراع الأموات، ومن تزوج من؟…
تذهب توا لكومة السماد (البدوزة) تستخرج منها العصا المشتعلة (أسافو)، تنفخ فيها، تشتعل، تعود إليها الحياة، تقتطع منها جمرة أو جمرتين، ثم تعيدها إلى مكانها…وقتئذ، كانت تلك هي الطريقة الوحيدة للحفاظ على جدوة النار مشتعلة، فلم تكن أعواد الكبريت معروفة في قريتنا.
يبدو الأمر بعيدا الآن، بعيدا جدا.
ولكن الصور ما تزال حاضرة، طرية، تنبض بالحياة، فالزمن في قريتنا لا يمضي أبدا، أو هو لا يمضي إلا لينبعث مجددا مثل أسطورة…
كانت (للا عيشة) سيدة في الهزيع الأخير من العمر، وكان الزمن قد توقف بها في محطته الأخيرة، لم تعد شابة، ولكنها بالمقابل لم تعد تتقدم في السن مثل بورتري متكلس، تجاعيد، أخاديد، ملامح وخطوط رفيعة، تكشف عن أطلال وبقايا جمال يرفض الإنمحاء، ثم فم صغير مثل خاتم لا ينغلق أبدا، فهي طاحونة حجرية لا تتوقف عن الكلام، قامة متوسطة الطول، جسمها رشيق، تحركه بتشنج وانفعال، انفعال يكشف عن مزاج حاد وروح قلقة ميالة للحرية والانفلات…
تمشي بتؤدة، بكبرياء، أنيقة، متبرجة على الدوام، تحب الأثواب الملونة…تعدل المفتاح الحديدي الكبير المشدود إلى خصرها بخيط حريري أحمر، تعيده إلى الوراء، يتدلى في المجرى، فيشق مؤخرتها إلى نصفين !!
في لحظات الصفاء، تخاطبنا نحن الصغار، تتحدث بصوت رخيم، صوت ينضح دفئا، رقة وعذوبة.
– أهوي أيغيدينو…إييه أيغيدينو…كولغ إيغيدينو…!!
(تعابير غير قابلة للترجمة لأي لغة من لغات العالم، الراجح أنها تعني حبيبي أو قلبي أو قطعة من روحي، فهي تتكلم وتشير دائما بسبابتها إلى ثديها الأيسر)
ثم تغضب، تغضب فجأة، أحيانا بمبرر، وأحيانا بدون مبرر، يغضبها شغبنا نحن الشياطين الصغار، يغضبها أكثر جشع الكبار وقسوتهم، يغضبها (عمي العربي) بمغامراته النسائية التي لا تنتهي، ونزعته البطريركية الفجة.
– العيالات سبب البلاء…لا تشاورهم، لا دير بريهم !!
تشعر بالإهانة، تنظر إليه، ترسم ابتسامة مؤلمة، ابتسامة يمتزج فيها الغضب بالتحدي، تنقر بسبابتها على أسنانها بعصبية (رغم الشيخوخة حافظت على أسنانها كاملة).
– بحال الرجال بحال العيالات…هذا زمان الحرية والإستقلال !!
– العيالات ديال الحكام والصباط…إلى بغيتي الحرية بولي واقفة !!
ثم، تخرج عن طورها، ترتعش، تنتفض، يهتز جسمها الرشيق بعنف، تدور طاحونة الكلام البذيء بجنون، كلام قاس، عار، وجارح…كلام فوق الحزام، تحت الحزام، فوق السروال، تحت السروال…
وأخيرا بدون سروال.
ترفع قميصها المزركش، تنحني، وتدير سوءتها في كل الاتجاهات.
– هاك ما تسوى أنت وغيرك…أركاز اللاروب (رجل ناقص، إلا ربعا…)
تولول النساء، يطأطأ الرجال رؤوسهم، أما نحن الصغار فنغرق في الضحك.