فكري عمر
“دون كيشوت لم يكن رجلاً معتوها ضائعًا يحارب الطواحين، ويسعى جاهدًا لفرض أحلامه وتهاويله على أرض الواقع الصلبة، وإنما كان الفارس الأخير لعصر طويل زاخر بالفروسية، والبطولة، والنبالة، كما كان زاخرًا بالاستغلال والاستعباد. وكان دون كيشوت تحية الوداع الأخيرة لمرحلة تاريخية كاملة”. هذه الفقرة من دراسة الدكتور “محمود أمين العالم” لرواية “ميجيل دى ثربانتس”، (دون كيشوت). تذكرتها وأنا أقرأ رواية “سيد الوكيل”، (فوق الحياة قليلاً)، فهذه مرثية أخرى ساخرة أحيانًا، وشجية فى كثير من الأحايين لعصر كامل، وأجيال متباينة أعطى الروائى شهادة عنها. شهادة روائية يتداخل فيها الواقعى والخيالى، مثلما تذوب فيها الفوارق بين الأزمنة..
يَهلُّ شاعر الكدية “أبو الشمقمق” من العصر العباسى بهجائيات وطُرف عصرية، وضعف إنسانى يجعله يبكى كبنت محبة وهو الذى لم يُبكه شىء فى حياة الصعلكة، والفقر التى عاشها، وهو قناع لشخصية أدبية شهيرة من عصر الستينيات، ويأتى “مصطفى سعيد” من رواية “الطيب صالح”، (موسم الهجرة إلى الشمال)، ليُخرج لسانه إلى القاص الجنوبى، أحد أبطال رواية فوق الحياة قليلاً، أثناء مبيته فى بيت عمه، ووقوفه وجهًا لوجه أمام الجمال الأنثوى الطاغى، ثم انهياره وأزمته بسببها. ربما كانت كلمة المرأة الشمالية المتعالية والعنصرية هى مفتاح أزمة كل منهما. ومن التاريخ القريب نراقب الآباء التنويرين ومنهم “توفيق الحكيم” وهم يصيخون السمع لحوارات المشاهير على مقاهى باريس، ثم يعودون بها ليبذروها فى مصر كأنها حبات نور آتية من عاصمة الثقافة فى ذلك الزمان. يحضر “رولان بارت” بنظرية موت المؤلف؛ ليحيا النص حياة محدودة بين دفتى كتاب لا تغادرهما، كأن تلك النظرية حسب رؤية الراوى هى حياة أشبه بالتحنيط الذى يسمح للقارئ بالمشاهدة لا بالتجربة. كما يأتى “كلود سيمون”، أحد رواد تيار الرواية الجديدة فى فرنسا، فى مشهد دال يمتد معنا حتى تنتهى فصول الرواية بذات المشهد وقد جمعه اللقاء بـ”نجيب محفوظ” فى معرض القاهرة للكتاب، و”نجيب” يعلن فى النهاية أنه لم يسمع شيئًا بسبب مشكلة أذنه الضعيفة، وللحكاية تأويل ودلالة نعرفهما من اعترافات “محفوظ” نفسه لـ”رجاء النقاش” بأنه لا يتعاطف مع اتجاه الرواية الجديدة فى فرنسا، ولا يظن أنها تجربة يمكن أن تبدع شيئًا له قيمة فنية.
أما الحاضر، أو الفضاء الروائى ففيه أبطال ثلاثة: شاعر يعيش فوق الحياة قليلاً، وقاص أتى من الجنوب ليصنع مجده الأدبى فى العاصمة، و راوٍ يدير حوارًا ويكشف علاقات الشخصيات بالحياة، وبالثقافة، وبالزمن من خلال لعبة الكتابة، لعبة المقابلة بين الحقيقة والمجاز، وبين الواقع والخيال.
هذه اللعبة الفنية تمتد أحيانًا إلى إثبات الشىء وعكسه. كأنك أمام صورة كلما هممت بالقبض على تفاصيلها وألوانها الدقيقة ضحك الراوى وهو يبددها أمامك بين السطور؛ ليدعوك إلى مزيد من المطاردة، فليس هو صانع المعنى وحده، وليست المطاردة أيضًا قدر الأبطال الثلاثة وحدهم فى مدينة تدوس أقدامها الكبيرة تلك الزهرات الهشة دون أن تراها، أو تأبه لها. لتكن المطاردة إذًا قَدرُ الجميع، واللعبة وسيلة لذلك. لعبة تثير المواجع، والمرارة مثلما تثير الضحك، والتعجب خصوصًا من أجيال أدبية بدأت فى الستينيات إلى التسعينيات، ورغم أن فكرة الأجيال الأدبية قد لا تكون دقيقة تمامًا، لكنها تصلح للمقاربة من منطق الظروف السياسية والاجتماعية المتقلبة التى يعيشها ويتأثر بها أدباء عاصروا فى بداية بزوغهم الإبداعى قضايا اجتماعية وسياسية خاصة مثل جيل الستينيات الذى عاش حلم القومية العربية، وفوجئ بصدمة الانهيار والاحتلال فى يونيو 1967م، وجيل السبعينيات الذى حدثت له حالة انقسام هائلة فى تقييمه الذاتى للأحداث الكبيرة التى كان مطلوبًا منه فهمها، وتفسيرها..
تطرح الرواية على مستوى الكتابة فكرة تداخل الأنواع السردية من قصة قصيرة، ورواية، وسيرة ذاتية، ونقد أدبى وثقافى. إنها تركيب متداخل، وقابل دائمًا للامتزاج بغيره داخل الرواية، وخارجها بما تحيل القارئ إليه من عوالم، وشخصيات معروفة، وتكاد تقنية الاستدعاء الحكائى، والإجمال والتفصيل أن تكون قنطرة الوصل بين الأزمنة، وطريقة تفسير تصرفات الشخصيات، والأحداث.
وتتضمن الرواية بين سطورها أسئلة عدة عن مسألة النوع الأدبى، ومدى القدرة على تفكيكه من داخله، وإعادة تركيبه بطريقة تتوالى فيها الحكاية، والرؤية، والتخييل، والسيرة جنبًا إلى جنب، وتطرح فكرة تكوين الشخصية الفنية، والعلاقة بينها وبين كاتبها، وإن كان الراوى هنا ينتصر للعبة امتلاك الشخصية الفنية لمصيرها خارج إرادة كاتبها نفسه، ففى ص104: : “لقد تخيلت هذا الشاعر المتسول، بكرشه الضخم، وعباءة مهلهلة، وشهر مهوش يغطى ملامحه، ورأس صلعاء، وعينين بيضاوين لا تخبرانك بشىء، وعصا كبيرة بشكل مبالغ فيه جعلها لتأديب الأدباء، وقادنى هذا التخيل إلى السخرية منه فى صورة مناقضة فجعلته يبكى كبنت صغيرة محبة، ولست أدرى أيهما الحقيقى وأيهما المجازى. على كل حال، هو الذى سخر منى بقسوة، لما عاود الظهور فى الحانة وأحدث انقلابًا هائلًا فى مصير الفتى الجنوبى الذى وصل إلى نهاية لم أتوقعها”.
(فوق الحياة قليلاً) هى حالة وصفية لجيل بدد تركة الآباء التنويرين، ومرثية لأدباء عاشوا أزماتهم الدرامية فى حياتهم، وطريقة موتهم نفسها وليس فقط فى حياة، أو موت أبطال قصصهم.