حسن الجزار
“البحر كالصحراء لا يروي العطش” والرجل الجالس أمامها يضرب الهواء بذراعيه، يعلو صوته بعبارات رافضة ولا يثنيها عن الثمن الذى طلبته.
- انت فاكرني عبيطة، أنا قلت خمسة وعشرين جنيه يعني خمسة وعشرين جنيه
كانت عمامة الحاج تهامي البضاء الناصعة قد تراجعت إلي منتصف رأسه من شدة الانفعال ومحاولات الإقناع والوصول إلى حل وسط بين العرضين.
- خلاص عشرين جنيه
(أوعوا ولاد عمتكوا يضحكوا عليكو وياخدوا الأرض بعد ما اموت . اوعوا تبيعوا لولاد أبو عيشة …. ولاد أبو عيشة مستنيين موتي).
ترد المرأة وهى تشب فى مجلسها ولا تكاد تستقر على حال :
- عشرين جنيه ؟ دا سعر عامنول …تاخد الأرض النهاردة بسعر عامنول ؟ يا راجل خاف الله… الله يرحمك يا با .. يا ما قال .
يالذكاء المرأة وتمسكها بما تبقى من رائحة الأب، لم يرث أي من إخوتها عن أبيه قدر ما ورثت . ورثوا دوراً ودكاكين وتجارة رابحة وورثت هى رجاحة العقل وحسن التصرف وتثمين ما تملك وما يملك الآخرون.
يحاول الحاج تهامى تهدئة الجو فيغير من لهجته ويستجدى المرأة:
- يا حاجة انت فاكرة الأرض دي إيه؟ بتطرح دهب.. بتطلع بنزين؟
فترد عليه بحسم : مش عايزها سيبها … لا دهب ولا فضة .. دى أرض القطنة اللى ما حدش طايلها .
وكأن أرض القُطنة هى آخر بقعة أرض في العالم وكأن زروع الدنيا لا تنمو إلا في هذه القراريط القليلة . وكانت هذه القراريط تقع في حقل يسمي “غيط القُطْنة” على أطراف البلد وكانت قريبة من مجرى النهر وملاصقة لمصنع طوب أولاد أبو عيشة الذين حاولوا كثيراً شرائها من الحاج نور الدين لتوسيع المصنع ولكن الرجل رفض قبل مماته وقال : لو ادونى ألف جنيه فى القيراط مش بايع .. عيال أبو عيشة مش أحسن من عيالى.
وعندما آلت الأرض للورثة باعوا جميعاً لأولاد أبو عيشة إلا هى . رفضت أن تبيعهم الأرض تنفيذاً لوصية أبيها.
“البحر كالصحراء لا تروى العطش” والمرأة وصلت هى والحاج تهامي إلى طريق مسدود. والأهل ليسوا بأهل والزوج ليس بزوج ولا شىء حقيقي إلا النفوذ والمشترى إذا استطاع أن يأكل ذراعك فعل… وإذا استطاع أن يقطع إبهامك ليفوز بالبصمة قطع.
البيع والشراء بيع وشراء ولا مجال لنسب أو دم .. والزوج موظف لدى الحكومة والأرض يعوزها مزارع …لا شىء إذن غير البيع ولا مقابل إلا النفوذ.
أمسك الزوج بعنق النرجيلة المصنوعة من علبة مبيد حشرى وبوصة قصيرة وعنق خشبى ردىء الصنع وأفرغ ماءها بجوار الحصيرة البيضاء التى يجتمع فوقها الحضور وأعاد ملئها بالماء النظيف وأخذ يسحب أنفاساً متتالية حتى يضبط كمية الماء بداخلها وهى تكرر بين يديه.
وبعد أن وضع التبغ والجمر ملأ الدخان صدره وفضاء الحجرة.
أسند الزوج ظهره للجدار الشحيح بين البابين وأحكم قبضته على عنق النرجيلة وانشغل بدخانه – عمداً – عن أزمة زوجته ليفسح المجال لتتصرف فيما تمتلكه بحرية.
- يا راجل ياللي حجيت بيت الله تاخد القيراط بعشرين جنيه؟ ثم أردفت المرأة: أجيب هدوم للعيال بكام ؟ ومصاريف المدارس كام؟ واشتراك القطر لبتاع الدبلوم كام؟
رد الحاج تهامى : أنا مالى .. احنا بنتكلم في الأرض ولا اشتراك القطر ؟
نظرت المرأة لزوجها المشغول وخاطبته بحدة:
- ما تتكلم يا راجل .. ارمى المدعوقة اللي فى ايدك دى واتكلم .
مسح الزوج بكم جلبابه دمعة سقطت من زاوية عينه من أثر الدخان أو ربما من أثر موقفه، وقال: أنا مالى يا ستى .. الأرض أرضك والمشترى ابن عمتك يعني هابقى أنا المكروه بناتكم؟
لما عاد الشاب إلى المنزل سمع وهو فى الطابق الأرضى صوت أبيه وأمه والحاج تهامى، فأيقن أن الجمع ما زال مجتمعاً وأن الساعات الثلاث الماضية لم تكف لحسم الأمر ولم تتم الصفقة بعد، فهو يعرف عناد أمه وبخل المشترى.
ألقى الشاب السلام ونظر ناحية الحاج تهامى وقال : إزيك يا خال، ودخل حجرته الصغيرة وفتح الشباك ونظر إلى الحارة التى تركها تواً فلم يجد سوى النساء المتكومات أمام البيوت ساعة العصارى فقال فى نفسه: ومن يبقينى فى هذا الجو. وقرر النزول إلى الشارع ثانية.
“والبحر كالصحراء لا يروي العطش”
والصمت مثل الكلام … كلاهما لا يفضى لشىء ، فلا الحاج تهامى يتزحزح ولا المرأة تقبل بالثمن. ساعات طويلة تخللها تقديم الشاى مرتين والأرض فى جميع الأحوال فى يد الحاجتهامى ، فهو المستأجر ولا تستطيع المرأة طرده وهو يرى أن أى أموال تدفع مقابل الأرض حرام عليه.. فلماذا يدفع مقابل شىء يحتكره.
عندما عاد الشاب مرة أخرى مع أذان المغرب لم ينس أن يغسل فمه ووجهه من ماء الزير فى الطابق الأرضى حتى يزيل رائحة السجائر فلا تشمه أمه وتعرف أنه يدخن فتخبر أباه . ثم أخرج من جيبه قطعة العلكة التى يحتفظ بها لمثل هذه الظروف .
يبدو أن الحاج تهامى قد رحل ، فلم يكن هناك من صوت، ولكنه عندما صعد وجد الحاج وقد عدل عمامته على رأسه ووضع فى حجره كيس نقوده المصنوع من القماش وأفرغ ما فيه تماماً:
- تمنتاشر… تسعتاشر …. عشرين… مبروك يا ستي ، عدي فلوسك تاني.
قالت المرأة والدموع تجرف وجهها الأسمر الحزين: الله يسامحك يا تهامى.
لم الرجل باقى النقود ووضعها فى كيسه وطبق عقد البيع الذى ذيلته المرأة ببصمة إبهامها اليمنى ووضعه برفق فى جيبه الداخلى وتحسسه من الخارج ونهض مسرعاً وهو يقول : مبروك يا حاجة … نفوتكو بعافية.
وكأن السماء تمطر بسخاء .. وكأن الأرض تأبى أن تبتلع الماء . كانت الدموع تنهمر من عينى المرأة فلا شىء يجففها ولا تمتد إليها يد، بل كأن أحدا لا يراها.
كان الزوج قد أسند نرجيلته بجواره ونظر أمامه للاشىء وكأنه يبكى بكاء ًأكثر حرقة من بكاء زوجته ، نظر إليها فى خجل وقال: مبروك … الله يعوض عليكي .
كلماته خليط من التهنئة والمواساة. فالباقى من عشرة قراريط قيراط واحد باعتهم قيراطاً قيراطاً تلو الآخر على رأس كل عام لتوفر للأولاد مصاريف المدارس وتشترى “الحب” وكسوة الرجل الذى كثيراً ما يتنازل عنها لأبنائه ليفصلوا منها السروايل والقمصان علَّ الزوجة ترضى عنه والأولاد يغفرون له . فماذا عساه أن يفعل؟
المرتب يضعه في يد زوجته آخر كل شهر وإذا قام بعمل خارجى ناولها الأجر فى الحال، لكن طموحها غير المحدود يشعره بالخجل … ماذا يفعل حيال أربعة أبناء جميعهم فى مراحل التعليم، لا يأكل إلا إذا أكلوا ولا يلبس إلا ما يفيض عن ملابسهمولا يطلب لنفسه شيئاً .
هب الرجل من مكانه ليترك زوجته على حالها من البكاء متعللاً بدخول الحمام فلم يكن قادراً على النظر فى وجهها بفقره وقلة حيلته.
جلس الشاب بجوار أمه دون أن يتكلم احتراماً لبكائها المرير.
يا أيها الحزن الجليل كنا نخال البيع فرحاً وسعادة فمن بك جاء ، ويا أيتها الأم التى ظلت لسنوات تبيع ، ترى من سيعطيك الثمن ؟ فلا جنيهات التهامى ثمناً ولا خجل الأب ثمناً ولا شىء يا أمي يعوض .
تجرأ الشاب ودنى من أمه ووضع يده على كتفها وقبَّل رأسها وقال:
- كل سنة بنقول لك يا أمى ما تبعيش أرض ، بتبيعيها من هنا وتزعلى من هنا.
ردت المرأة والأسى يعتصر الكلام:
- خلاص يا حبيبي مش باقى غير قيراط واحد.
“والبحر كالصحراء لا يروى العطش” والعشرون جنيها لا تكفى شىء والأرض لا تعطى محصولاً ولا تدر دخلاً وراتب الزوج والعمل الإضافى لا يسد الرمق والدنيا كلها مثل ثقب فى مخيط ، غير إن الله موجود وعليه صلاح الأحوال .
خرج الزوج من الحمام وماء الوضوء يتساقط من ذراعيه ووجهه ممسكاً بعمامته الهزيلة الكالحة لتبدو صلعته العريضة وهو يتمتم ويستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم: أنا نازل أصلى .. ونظر لابنه يستحثه على الصلاة ، فاقترب الشاب من أمه وطوقها بذراعيه وظل يهدهدها .
وضعت المرأة جنيهين فى يد ابنها وأطبقت على الباقى بكلتا يديها:
- اعمل اشتراك القطر واللي يفيض هاته.
دس الشاب الجنيهين فى جيبه وقبَّل ظهر كفها ودخل حجرته.
- بكرة هاشترى لك أجدعها بنطلون وأجدعها قميص من عند “أبو والى”.
فجاء صوت الشاب من الداخل : والجزمة والشراب يا مه.
- والجزمة والشراب يا سيدي.
كان بقية الأبناء ما زالوا يعملون فى الحارة وعندما نزل الرجل للصلاة نهرهم: يا ولاد الكلب… لا صلاة ولا عبادة وطول النهار لعب فى الشارع.
فعادوا إلى البيت ليسمعوا طرفاً من حديث الأم ، فقال الابن الصغير:
- وانا يامه المريلة والجزمة . فقالت الأم:
- كلكو فى عنيه.
فى المساء تحلق الجميع حول الدجاجة التى ضحت بها الأم لهذه المناسبة وانتظروا “المحشى” الذى أتت به سريعاً فى وعاء دون غطاء لتتصاعد أبخرة كثيفة ويعم المكان رائحة الدسم .
أعطت المرأة لكل فرد نصيبه وخصت الزوج بالرقبة وأحد الجناحين كمنحة إضافية ، وأعطت كل ولد قدراً معلوماً من أمعاء الدجاجة التى كانت قد غسلتها جيداً بالملح والدقيق وشقتها بالطول لتتأكد من أن باطنها أصبح كظاهرها نظيفاً تماماً ولفتها بعناية حول أرجل الدجاجة وتركتها للمرق يغلى عليها مدة طويلة.
أخذ الرجل يمصمص الرقبة مهملاً نصيبه الأصلى ليوزعه على أبنائه لاحقاً.
كان الرجل لا يملك أرضاً ولا حرثاً ولم يكن بين يديه فى تلك الليلة سوى هذا الجزء الصغير من الدجاجة وكثيراً من الدعاء والدموع العاصية .
وزع الرجل على أبنائه نصيبه وسط احتجاجات الأم وألمح إليها أنه لن يسهر الليلة خارج المنزل ، فامتعضت المرأة واستدارت فى دلال ناحية ابنها الصغير وقالت فى صوت مسموع :
- الواد يا حبة عينى باين عليه تعبان، بقاله يومين ما بينمش.
نهض الرجل واغتسل ومثل عجوز تهش على دجاجها ظل يتابع أبنائه حتى آوى كل منهم إلى فراشه وأحكم غلق الأبواب والشبابيك وأطفأ النور وظل يتحسس الطريق إلى الفراش حتى اصطدم بزوجته فرقد بجوارها فى انتظار أن يغرق الأبناء فى نوم عميق.