أسامة الحداد
( رأينا الحياةَ
ترتجفُ تحتَ شجرة)
من الموت تبدأ الحياة من بقع زيت تمشى على الثياب وشحم أحلام، ومن العدم تقبل الحياة أنه يعيش كبطل سردية أخرى كمهمش وغائب يطلب سيكارة ويمشى داخل خراب العالم بحثا عن جمال عابر، هكذا وجدت وديع سعادة الذي لم يكن وديعا بل مؤلما، وحادا وشفيفا.
كان ديوان “بسبب غيمة على الأرجح” حدثا بالنسبة لي نصا مغامرا ومغايرا يحتفي بالحياة، وهي تنبت من الموت بالمخيلة الاستعادية وهي تواصل تشكيل العالم من وجوه الموتى، والأزهار، من غريق يرفع يده، من ثلاثين ومضة تشعل الدهشة جميعها تشكل نوستالجيا لعالم مفقود يحمل تلاشيه إلى نصين يمتازان بالطول يكشفان عن قدرة هائلة على تشكيل عالم جمالي بآليات متنوعة عبر بنيات سردية مختلفة، فمن الومضة إلى قصيدة الشعر الحر إلى قصيدة الكتلة حيث السطر الشعري الكامل واكتشاف الشعر فيما هو عادي ويومي ومتاح في النص الأخير “لحظات ميتة” ليؤكد على اتساع قصيدة النثر كأفق مفتوح للكتابة، هنا وديع سعادة يقدم تشكيلات جمالية متنوعة، وأساليب مختلفة من التكثيف الشديد إلى التداعي وانسيابيته في قصيدة ” بقع زيت” حيث يندفع هادرا مثل بقعة زيت تنتشر على الطريق إلى النص الأخير حيث يقدم بنية سردية تتنوع بين المونولوج الداخلي والسرد الحكائي والسيرذاتي في اعتراف وبوح شعري ينساب من ذاكرة تخيلية رحبة وثرية ولغة دالة يوظف داخلها ما هو شفاهي ويتجاوز العلاقة بين اللغة والمنطق ليشكل مسارات جديدة يواجه بها سطوة اللغة وقداستها، ويقدم من خلالها مستويات متعددة للتلقي، من خلال ذوات متعددة من الفردانية إلى الجمعية ومن الأنا إلى ال هو في تبادل استعاري وتحولات مدهشة داخل النص، حيث غيبة الإيقاع الخارجي تهمين كمكون شعري لنص يبتكر موسيقاه الداخلية.
ومنذ العنوان عتبة النص وأحد مكوناته الذي يمثل مساحة من جسده لا تنفصل عنه يباغتنا بمراوغة ” بسبب غيمة على الأرجح” أنه يبدأ بالشك واللايقين ويحمل تفاعله النصي ويقدم إزاحة شعرية إذ يبدأ النص بما هو محذوف، ليفتح آفاقا متعددة للتلقي، ويدفع بالقارئ إلى الاشتباك مع النص ومن العنوان إلى نصوص الديوان الذي يشكل في جوهره قصيدة واحدة تتنامى من الومضات الثلاثين التي تمتاز بالتكثيف الشديد واستخدام المفارقة والصورة البصرية والمجاز الكلي وما يمكن أن نطلق عليه شاعرية المشهد الممتزج بالتجسيد أعلى مستويات المجاز
(وفوقَهم كانت الشمسُ تبحثُ عن إبرة
لتُعيدَ وَصْلَهُم بالظلال.)
أو( يتركونَ عيونَهُمْ و يمشون
متَّكئينَ على نظراتٍ قديمة)
أو (لكنَّهم وَصَلُوا
قطعوا الحكاياتِ
تركوا بقعًا حمراءَ على الجدار
وخرجوا.)
هذا الأداء الشعري الذي يمتزج فيه السرد الحكائي بالمفارقة والنوستالجيا ويرتبط بالموت والتاريخ الشخصي لذاكرة تبدو جمعية حيث تأتي النصوص من خلال الفعل الماضي الذي يلح عليه كأنه ذكرياته تطارده، مع التناقض بين الموت كحالة عدمية والمطر والزهور بأنواعها والطيور التي تتناثر وتنمو داخل النصوص كجزء من المعجم اللغوي وفي الواقت ذاته مواجهة للموت في صراع إنساني يتمسك بالحياة التي تتآكل وتتلاشى وهذا المعجم يشمل كلمات مثل شجرة التوت، البلبل، النسيم، لزنابق، الحبق، الحجال، الريش، سنديانة ويبدو كذلك من خلال العناوين الداخلية للقصائد القصيرة مثل زنابق وشجرة، ومن خلال هذا التناقض بين العدم والوجود يتشكل العالم داخل الومضات الثلاثين، قبل أن يدفع بنا داخل بقع زيت هذا النص الذي يتذكر خلاله الراحلين من أصدقائه، ويبدو خلاله كشبح عابر يطلق أنينه ويطلب سيكارة حيث توظيف الجمل الحوارية القصيرة داخل النص، والعبور داخل خراب العالم بحثا عن الخلاص الذي لا يرتبط بغيمة
( وعلى الدروب، تحتَ أقدامنا
اكتشفنا نوعًا نادرًا
من الأنين.
هَايْ، أنتَ
ها أنا الآنَ وَصَلْتُ
جديدًا طازجًا مثلَ فاكهةٍ لم تَسْمَعْ بها
اعْطِني سيكارة،
معي حكاياتٌ غريبة
عن ملوكٍ ومعارِكَ ومزهريَّات
عن شعوبٍ اكتشفَتْها الرياحُ بالصُّدْفَة
وأسماكِ أرواح
على الرمال
حكاياتٌ لكَ أنتَ وَحْدَك)
إن الحالة الشبحية تتوائم مع الموتى الذين يتجولون في ذاكرته، ويعيشون داخله في تواصل للصراع بين الوجود والعدم والغياب والحضور فما هو غائب يحضر بقوة وما نظنه أمامنا يبدو غائما ولا يقين بوجوده في تبادل استعاري بين الأنا والآخر مع رياض وأنيس وشوقي وآخرين يتحدث معهم ويكشف عن تحولاتهم وسطوعهم داخل النص المنساب بحيوية وديالتيكة فائقة، قبل أن يباغتنا بشكوكه وتساؤلاته
( لم نُوَدِّعِ الأصدقاءَ لم نَقُلْ كلمة
فقط
مَشَيْنا)
وكأن ما حدث داخل النص والخطابات الحكائية داخل بنيته السردية كان وهما ليضعنا في حيرة ودهشة بين ما هو كائن وما هو متخيل.
واخيرا يأتي أطول نصوص الديوان وأكثرها تنوعا في آلياته ” لحظات ميتة” حيث البنية السردية وسيلة لحمل الخطاب الشعري، وكأنه ينتقل من شعرية إلى أخرى في تناغم وتنامي ليؤكد على تجاوز الأشكال وتجاورها أيضا، ويكتشف شعرية الأرض والأشياء والحياة فالشعر لا يأتي من شجرة ولا زنبقة بل من عمال متعبين ومن قدمين حافيتين
(اليومَ أيضًا سأستريح. يمكنني أن أعيشَ كُلَّ شيءٍ ببهاءٍ كُلِّيٍّ وأنا أجلسُ هنا على الكَنَبَةِ أو أتمشَّى على البلاطِ وأنظرُ إلى الجدران. أربعُ أو خمسُ ساعاتٍ من الحياةِ في اليومِ تكفي )
وتبدو العبارات السردية واضحة مثل (مُذْ سَكَنْتُ هذه الغرفة لم يدخل شعاعٌ إلاَّ ومَرَّرْتُ يدي عليه) أو (ماذا سأفعلُ اليوم؟ ليسَ في نيَّتي فعلُ شيءٍ ولستُ مضطرًّا لفعلِ شيء) ومن خلال سرد متنوع ومتدفق يجمع بين الاستبطان الذاتي والتداعي ومشاهدة الأشياء والسير ذاتي والحكايات الصغيرة الهامشية يصنع سرده الشعري كبديل للسرديات الكبرى ويؤكد أن التاريخ لا وجود له خارج لحظته الآنية ويختم نصه
(أظافري طويلةٌ وكانَ يجب أن أقُصَّها. كان يجبُ أن أفعلَ شيئًا مُفيدًا. أين الشعاع؟ قبلَ قليلٍ كانَ يتقدَّمُ نحوي ويكادُ يلمسُ جسدي. نظرتُ بشوقٍ إلى حَبْوه، إلى طفولتِهِ الأولى في بيتي.
أنظرُ من النافذة. في السماءِ غيومٌ. أظنُّها ستُمْطِرُ. )
ليعيدنا إلى العنوان عتبة النص ومفتاحه في مراوغة شديدة الدهشة يبحث خلالها عن الخلاص وعن الحياة التي تتسرب ويبدو كغائب في لحظة الحضور ويظل السؤال بلا إجابة هل أمطرت الغيمة؟
.ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ديوان “بسبب غيمة على الأرجح” للشاعر وديع سعادة >>.. هنا
شاعر وناقد مصري