فى القصة الأولى ” ثلاثة أشكال لأبى” نتصور فى البداية أن الأب الصارم الأمى الذى يدعى “لطيف” شخصية لاينفذ الى قلبها شعاع من رحمة أو ضمير. السرد من خلال عيون ابنه الصغير المرتعش، الذى يتوقع عقابا فى كل لحظة من أب يعمل بقالا، ويصر رغم جهله على تصحيح ما يمليه على ابنه من خطابات. الأب / السيد الذى يملى خطابا لكى يصل الى شقيق زوجته فى الكويت، يبدو حتى فى مضمون الخطاب قاسيا، إنه يريد أن يسترد أمواله التى سافر بها شقيق الزوجة، وخال الولد. ولكن دائرة الرؤية تتسع بالتدريج، أولا بتأزيم موقف الابن الذى ألقى الخطاب فى الصندوق الخطأ، ثم تأتى انفراجة الدهشة مضاعفة مع وصول شقيق الزوجة عائدا من الكويت بعد أن ما كفيله، ومع موقف الأب الأخير الذى يختلف جذريا عن موقفه فى الخطاب، لقد أدى الحفر أسفل القناع الى ظهور الوجه الحقيقى لإنسان بسيط “شقيان” يعرف معاناة الآخرين، هذا هو الشكل الحقيقى للأب، بعيدا عن شكله الأول الشرس فى بيته، وشكله الثانى الملوث بالزيت فى محل البقالة، وشكله الثالث المنبسط فى المقهى.
فى قصة “أحيانا تغادرنا الدهشة” تنبىء البداية عن كارثة: ذلك الشاب الأخرق الثرى الذى يرتدى بنطلونا قصيرا، ويصور مرتادى حانات وسط البلد، يقتحم المكان حاملا معه علبة كبيرة، ولكننا نكتشف تدريجيا قصة إنسانية، محاولة بائسة للإحتفال بعيد ميلاده، بعد أن خدعه أصدقاؤه، الجالسون المتحفزون يصبحون أكثر استعدادا لاكتشاف ما وراء مظهر الشاب المزعج، يتحول القلق الى بهجة، والشك الى احتفال، ربما لم يعرفوا الشاب حقا إلا فى تلك اللحظة، مع انه يلتقط لهم الصور، ويزعجهم يوميا. نفس الإكتشاف المفاجىء سنراه فى قصة “المتحول”، الشاب غريب الأطوار، والذى يستمع الى الموسيقى فى وسط الطريق، سيقتحم مائدة الراوى، وسيقترح عليه مفهوما عبثيا، يتناسب مع ما تنشره الصحف، يرى الشاب أنه من المستحيل أن يجدوا سارق لوحة “زهرة الخشخاش”، لأن السارق “متحول”، ولديه قدرة على أن يصيح شجرة أو حجرا، غرابة السرقة يليق بها هذا التفسير، مثلما يليق هذا الهائم على الطريق ، بفوضى الشارع وزحامه.
يمنح مكاوى سعيد شخصياته تعاطفه الكامل، يحنو على تجربة مراهق فى أول لقاء له ( قصة لم يحدث مطلقا)، لقد قنع بأن يتركوا له فتاة أميل الى البدانة، ممرضة بسيطة التقى أصقاؤه بزميلاتها، ولكن حتى هذا اللقاء، ينتهى نهاية مزعجة، يتمنى المراهق أن ما حدث لم يحدث مطلقا، يمتد التعاطف الى بطل قصة “الهابطون الى السماء”، ذلك الطفل الذى تطارده واقعة سقوط ابن الجيران الصغير من السلم ووفاته وهو يودعه، ليست الدهشة هنا فى وقوع الولد وموته، ولكن فيما سيحدث للطفل الآخر: نظرات الشك من أهل الطفل المتوفى، وحديث الصبية عن العفاريت أسوأ بكثير من واقعة الموت، ولكن بطلة قصة “صابرين” تمتلك أيضا تأثيرها الهائل على القارىء، ذلك أن حكايتها تقدم ممتزجة بأحداث ثورة يناير، صابرين بنت الشارع الحافية التى تتامل مانيكانات المحلات المنهوبة، ستجد نفسها وسط بنات التحرير، ستنقل الحجارة والطعام، وستعيش بين بنات تشعرن بها، حزنها الأكبر عندما تنتهى الحكاية بسقوط مبارك، تعرف أن أحدا لن يراها بعد ذلك، ستصبح مجرد وجه عابر فى الطريق، مجرد واحدة من بنات الشوارع الصابرات على الغلب، حيث لا زمان ولا مكان ولا انتماء.
على لسان طفل وليد تسرد قصة “زيارة” بأسى مشاعر الدهشة و الصدمة لهذا الكائن الجديد القادم من مجهول الى مجهول، من بطن الأم الى بطن الحضانة، ومن يد الطبيب الى أيدى الأقارب، ومن شاشة التليفزيون الى صدامات الشوارع، شهر واحد سيعيشه المولود، ثم يعود من حيث أتى، قصة مؤلمة. فى قصتين مثل “البهجة تحزم حقائبها” و” لا أحد قادر على قهرها” نماذج مما نراه من متاعب الحياة، ومن رزالات البشر، فى القصة الأولى تخاصم السعادة أسامة الشاب الثرى ابن الزمالك، تتوالى النكبات التى تفقده أخته وأمه وأبيه. رغم الشقة الفاخرة، إلا أنه يعانى من غياب البهجة، ولكن هذا أيضا ما سيعانيه صديقه / الراوى الذى سيفقد حبيبته صفاء، سرعان ما ستتركه لتعيش فى أمريكا مع شقيقتها، تقلّب الأحوال، وانتقال الشخصيات بين البهجة والحزن، هما مفتاح القصة، تصبح صفاء فى النهاية من نصيب أسامة، مفاجأة غريبة، وكأن هناك من يتلاعب بالشخصيات، وفى القصة الثانية ، يرسم مكاوى سعيد نموذجا لا ينسى لفنانة تشكيلية قوية الشخصية، تطاردها أفكار التشدد والتخلف، يمنحها اسم “إلهام”، وكأنه يحتفى بجنونها، وبجسارتها اللفظية والفنية، حفرت إلهام طريقها بمفردها، جاءت وحيدة الى العاصمة، عانت من الفقر وقلة الدخل، ولكنها تملك إرادة مدهشة، تجعلها قادرة على مواجهة كل شىء، حتى تلك الواقعة المدهشة: اللص الذى سرق مرسمها، استفزته لوحات الفتيات العاريات، فقام بتغطية اللوحات، بملابس إلهام الداخلية، لص محافظ جدا ( !!!) تقدم هذه القصة البديعة شخصية غير عادية، تواجه مواقف غير عادية ومضطربة، وبدو السباب الذى تطلقه إلهام فى كل الإتجاهات، جديرا ولائقا تماما بمجتمع فقد عقله، وبزمن يرجع الى الوراء.
تجعلنا قصص المجموعة ننظر بشكل أعمق الى مواقف شديدة البساطة: تبدو قصة “آخر ليالى الصيفية” فى بدايتها كما لو كانت مجرد ذكرى أول حب لمراهق يكتشف عالم النساء، الفتى أعجبته ممرضة تعمل فى المستشفى الخاص المواجه للبيت الذى يسكنه الفتى ، وتسكنه أيضا الممرضة وزميلاتها، لحظات طفولية معتادة، تتطور الى اكتشاف تعلق الممرضة بطالب فى الطب، ثم نكتشف المهازل الى تحدث داخل المستشفى، صدمة الواقع تحاصر رومانسية افتراضية لم تعد موجودة، ربما ستكون آخر ليالى الصيف هى لحظة اكتشاف الفتى / الراوى أن الحياة أكثر تعقيدا مما كان يظن، ومن الواضح أن الممرضة الجميلة قد اكتشفت ذلك قبله بسنوات، وفى قصة ” لم تترك خلفه ورودا” يرسم مكاوى سعيد ملامح شخصية فريدة عذبة ، “حنفى” شاب ثرى، يرعى أمه المريضة، والده فى الخليج، الشاب يبدو رومانسيا، يخرج من قصة حب الى قصة أخرى، ولكن أفضل ما فيه أنه صاحب صاحبه، راوى القصة يشعر أحيانا بالملل من عناية صديقه به، ويسخر أيضا من شكوى “حنفى” الذى يمشى أثناء النوم، لا يمتلك “حنفى” السعادة، ولن يشعر به صديقه إلا بعد أن يفقده، كثيرون لايعرفون جوهر الأشخاص إلا عندما يفقدونهم، يكتشفون أخيرا ما وراء القناع، ولكن بعد فوات الأوان.
لم أنس ذلك اليوم الذى دخل علينا فيه مدرس العلوم الفصل، كان يمسك فى يده قطعة من زجاج، صوبها تجاه الشمس التى كانت تفترش المائدة، وضع أمام الزجاجة قطعة من الورق، فاحترقت، هنا فقط أطلقنا صيحات الدهشة، قال لنا المدرس مفسرا إن الزجاجة ليست إلا عدسة قامت يتجميع الأشعة فى بؤرة واحدة، فتحول النور الى نار. رغم مرور الأعوام، لم أنس التجربة، و رغم مرور السنوات، لا أجد ما يصف فن القصة القصيرة، وما يتركه من أثر، إلا بهذه العدسة المجمعة، التى تركز الحياة فى بؤرة، تجعلنا نطلق فى النهاية صيحات الدهشة، بعد أن نكتشف الإستثنائى، فيما وراء العادى والمألوف.
وأحسب أن مجموعة “البهجة تحزم حقائبها” لمكاوى سعيد تنتمى الى هذه النوعية من القصص القصيرة، الجديرة بالدهشة والتأمل.