رشيد الأشقر
يكاد يجمع أغلب المنظرين و النقاد العالميين في مجال السرد الوجيز على أن «الحكائية Narrativity » القائمة على مبدإ «الإيجاز الفائق Hiperbrevity» هي بمثابة الخاصية الجوهرية التي تميّز فن القصة القصيرة جدا عن غيرها من أشكال الأدب السردي. و في هذا الصدد، ترى الإسبانية «إيريني أندري سواريز» (و هي واحدة من أكبر المنظرين و الباحثين حاليا في جنس القصة القصيرة جدا اليوم بالعالم الإسبانو- أمريكي، رئيسة مركز البحث في السرديات الإسبانية التابع لجامعة «نيوشاتل» السويسرية، و صاحبة عدد من الأبحاث و الدراسات و الأنطولوجيات في مجال هذا الفن الأدبي المستحدث) في كتابها «القصة القصيرة جدا الإسبانية و جمالية الإضمار » . بأنّ هذا الفن الذي تصفه بـ «أيقونة القرن الواحد و العشرين» هو عبارة عن : (نص أدبي نثري يرتكز بالأساس على مبادئ الإيجاز Brevedad و الحكائية Narratividad و التخييلية Ficcionalidad).
و بالفعل، فمن وجهة «ناراطولوجية» صرفة، فإنّ القصة القصيرة جدا، كغيرها من أصناف السرد القصصي و الروائي، نص حكائي يستدعي توفّر مجموعة من العناصر المؤسسة لـهذه «الحكائية» داخل نسيجه اللغوي، كالتعاقب الحدثي، و العلاقة السببية بين الوقائع، و التحوّل السردي بين وضعيتي البداية و النهاية، فضلا عن وجود ذوات فاعلة و فضاء مؤطر للأحداث، و غيرها من العناصر التي تُحقّق لكلّ نص سردي هويّته الحكائية بغض النظر عن طوله أو قصره.
غير أنه في حالة القصة القصيرة جدّا، فإنّ عنصر «الحكائية» يخضع بالضرورة لإكراهات يفرضها مبدأ «الإيجاز» و ما يستدعيه من عمليات التكثيف و الحذف و الإضمار و الاقتصاد الشديد في الأداة اللغوية، باعتبار هذا الأدب السردي «المضغوط» (فنّا لـ”كبسلة” التخييل الأدبي داخل فضاء نصي محدود الأبعاد، تجري فيه عدد من عمليات التكثيف الدلالي و التوليف التركيبي) كما ترى الباحثتان الأكاديميتان بالجامعة الوطنية لروساليو بالأرجنتين، «غراسييلا توماسيني و «ستييا ماريس كولومبو» في دراستهما المشتركة «القصة القصيرة جدا كنمط من النصوص العابرة للأجناس».
و من البدهي أن تكون لإجراءات التكثيف و التوليف التي تتحدث عنها الباحثتان الأرجنتينيتان آثارها المباشرة على كافّة العناصر البنائية الأساسية للنص القصصي القصير جدا، خاصة على مستوى الحكاية، و الحبكة القصصية. و موضعة الأحداث داخل فضائها الزماني و المكاني، و طبيعة تقديم الشخصيات، و اختيار نمط الحكي (الراوي، المنظور السردي، الأسلوب، إلخ ..).
و كما توضّح الباحثة الإسبانية «إيريني أندري سواريز» في كتاب آخر لها بعنوان «ملاحظات حول نشأة و مسار و دلالة القصة القصيرة جدا»، فإنّ الأحداث المرويّة في المتن القصصي المضغوط تخضع – لا محالة – لقانون الاقتصاد الفني الذي يهيمن على كافة عناصر الرسالة و الخطاب، لذلك فالإيجاز الشديد يفرض على كاتب القصة القصيرة جدا جملة من التدابير السردية، كالتركيز الفائق للأحداث في بؤرة التوتّر القصوى ، و الاستغناء عن الاستطرادات، و تجاوز الوصف المفصّل الثابت، و تقليص عدد الشخصيات مع تحاشي الاستبطان المسهب لدواخلها، و استهلال الحكاية من لحظة أوج تأزّمها دون الحاجة إلى مقدّمات، و الإضمار المستمر لعنصري الزمان و المكان، و التسريع من وتيرة السرد، و ما إلى ذلك من استراجيتيات التكثيف الحكائي و الاقتصاد السردي.
و لا شك أن مثل هذا التركيز الفائق لمكونات الحكي داخل النص القصصي الوجيز، يترتّب عنه إفرازٌ لفراغات نصية تضع القارئ أمام اختبارات حقيقية لملكاته الاستيعابية و التحليلية و التأويلية، و هذا ما جعل من القصة القصيرة جدا أكثر الأجناس و الأنواع الأدبية حاجة إلى قارئ فطن؛ قارئ منتج قادر على توليد مضامين النص المضمرة و استخلاص الدلالة المغيّبة داخل المزيج النصي المضغوط.
و من أجل مقاربة هذه الخاصية الجوهرية في كتابة القصة القصيرة جدا من داخل المتن القصصي العربي الحالي، و اختبار مدى تمثّل مُبدعينا العرب لشرط «الحكائية» فيما يكتبونه من نصوص قصصية بالغة القِصر ، أضرب لكم مثلا بنصوص أحد القصاصين المصريين المتميّزين الذين ينشطون على موقع التواصل الاجتماعي «فايس بوك» تحت اسم «محسن السيسي». و قد تعمّدتُ اختيار هذا الكاتب «الفايسبوكي» دون غيره من مشاهير كتابة القصة القصيرة جدا بالعالم العربي لسببين اثنين:
أوّلهما، أنّ الكاتب محسن السيسي – في تقديري النقدي- من أبرز من يكتبون القصة القصيرة جدا باللغة العربية، ليس فقط بين الذين ينشرون على حيطان مواقع التواصل الاجتماعي، بل حتى بين القصاصين الذين تعلو أسماؤهم واجهات المجموعات القصصية التي لا تكفّ المطابع عن لفظها خلال السنين الأخيرة.
ثانيها، أنّه في مجال القصة القصيرة جدا على وجه الخصوص، يُخطئُ من يعتقد أن النشر الورقي كفيل بإضفاء «الشرعية الأدبية» على ما يكتبه القصاصون في هذا النوع السردي بالتحديد ؛ ذلك أنّ ما يُنشر على جدران التجمعات الافتراصية، و المجلات الالكترونية، و الصفحات الشخصية على شبكة الإنترنيت يفوق في كثير من الأحيان من حيث الجودة الأدبية ما تحبل به بطون العديد من المجموعات الورقية المطبوعة.
إنّ إبداعات محسن السيسي القصصية، المنشورة أغلبها على صفحات التجمع الأدبي الافتراضي المسمّى بــ «كتاب و مبدعو القصة القصيرة جدا»، هي من صنف هذه النصوص «الرقمية» التي تبزّ قريناتها «الورقية» لدى فحول هذا الجنس الأدبي بالعالم العربي. و لستُ أسوق هذا الحكم محاباة و لا إشهارا لشخص الكاتب، فلا تربطني بالرجل أية علاقة مباشرة غير متابعتي الدؤوبة – كقارئ نهم – لأغلب ما ينشره هذا القصاص الفذّ من نصوص ناضجة و مثيرة داخل هذا التجمع الأدبي الافتراضي المذكور.
إنّ نصوص هذا الكاتب المتألق، بغضّ النظر عن اسم صاحبها، تحمل في طياتها ما يشفع لها بأن تتصدّر – على الأقلّ – ما يكتبه أغلب الناشرين على الشبكة الرقمية في مجال القصة القصيرة جدا على امتداد الفضاء الأزرق، ناهيك عن مناطحتها لنصوص كبار الأسماء التي تُنشّط هذا اللون السردي الوامض داخل مشهدنا الأدبي العربي المعاصر؛ فنصوص محسن السيسي تستوفي، و بدرجة فائقة، أهم الشروط الأدبية و الجمالية الكبرى لكتابة القصة القصيرة جدا كما أفرزتها خلاصة التنظيرات النقدية المواكبة لهذه الظاهرة الكتابية الفريدة، و في مقدّمة هذه الشروط الخاصية الجوهرية الأساسية التي شكّلت مدار حديثنا في هذا المقال، ألا و هي خاصية « الحكائية Narrativity » التي تشكّل إحدى المفاصل الأساسية في تشكيل العوالم القصصية المذهلة التي يبدعها محسن السيسي بكامل الروعة و الاقتدار،
كلّ نصوص هذا القصّاص المبدع تتوفر على «حدوثة» بكامل عناصرها الفنية و الجمالية، من واقعة و شخصيات، مع استعمال مقتضب – عند الضرورة – لعنصري الزمان و المكان. و عادة ما تأتي «الـحدوثة» في نصوصه مسرودة وفق آليات الإيجاز و ما يقتضيه من كثافة و حذف و إضمار و اقتصاد غير مُسرف في اللغة و التراكيب. و لا شكّ أنّ الحضور القوي لهذه الخاصية الجوهرية في نصوص محسن السيسي، هو ما يمنحها تميّزها عن نصوص غيره ممن يفتقدون إلى هذه القدرة على الإقناع و الإمتاع الحكائي، كما يمنحها جرعة عالية من «القصصية» تنأى بها عن كلّ لبس قد يُخلطها ببقية الأنواع الأدبية المشابهة و القريبة من حيث الحجم، كالشذرة و الخاطرة و الهايكو و ما إلى ذلك من أشكال التعبير المغرقة في الإيجاز. و في رأيي أنّ سوء استيعاب كثير من كتاب القصة القصيرة جدا العرب لهذا الشرط (شرط الحكائية Narrativity) هو ما يُسقط نصوصهم في كثير من التعتيم الأجناسي، فيُفقدها بالتالي بريقها التأثيري المرتقب، كما يُفوّت عليها فرصة الانتماء الشرعي إلى هذا اللون الأدبي ذي السمات و الملامح المُميِّزة لجنس.
و من أرفع النماذج التي تُجسّد قدرات محسن السيسي المُبهرة على تطويع «الحكائية» لمقتضيات السرد المضغوط و الفائق الإيجاز، كما تؤكّد براعة هذا القصّاص الموهوب في تدوير لعبة الحكي بين الواقعي و الفانتازي، التراجيدي و الساخر، فضلا عن مهارته المشهودة في التنقّل بين أساليب سردية متنوّعة، كالحكي المشهدي و الحواري و التراثي و غيره من أشكال التغيير السردي الموسوم بالدلالة العميقة و المتعة الفائقة.
و من أبرز النصوص ذات الطبيعة الحكائية التي يتعانق فيها الواقعي بالتراجيدي ما كتبه محسن السيسي في تأبين حادث الباص المدرسي المأساوي الذي راح ضحيته حوالي عشرين طفلا أردنيا، و هو نص بالغ التأثير و الجمال يحمل عنوان (≠ الماساة ≠):
قالت الأم : «انتظري ريثما أنتهي من جدائلك .. ابنتي قمر.. أين قُبلتي ؟ ».
صافرة حافلة الرحلات تنعق كالغراب.
– « سأرسل لكِ القبلة سيلفي من الحافلة».
وصلتها الصورة، لكنها لم تفهم سرّ الماء الذي يُبلّل أطراف الجدائل.
و من النصوص ما يستهلّه الراوي بحكي واقعي يستأنسه القارئ و يطمئنّ إليه، ثم لا يلبث أن يعصف السرد بمنطق الأحداث، ليُلقي بنا إلى نهايات ملغومة، يختلط فيها الواقعي بالوهمي، و المنطقي بالعبثي، كما نجد في النماذج الثلاثة الآتية:
≠ أمّا بعد ≠
كلّما اقتربتِ السيارةُ زاد بهاءُ قريته. قاسية هي رحلة العودة من المنفى الاختياري، حمد الأقدار أن مبانيها و الزروع قائمات رغم ما حلّ بالوطن. إصطفّتْ عشيرتُه جلّها في مدخلها تستقبله.
فور وصوله، ألقى بجسده بين أحضان أمّه، نفذتْ منه ونفذ هو منها .. اختفى المشهد تماماً.
≠ حديث الظلال ≠
غندورة تمشي. تنورتها تتعدّى ركبتها بخلّية. ظِلّ ساقيها يُشعل الأسفلت. تبعتهُا حتّى تقاطع ظلاّنا، ما أن همستُ لها حتّى ظهر ظِلّ ثالث قطع الطريق على ظلينا. غامت الشمس لثانية واختفت الظلال.
.. عادت الشمس ، لم أجد ظلّي.
≠ الثائر ≠
انتزعتْ نفسَها من بين يدي زوجها، قالت: «هل تستطيع في هذا الغلاء تحمّل فاتورة علاقتنا الحميمية، من كهرباء و ماء و صابون و منشطات و معطرات و غذاء لتعويض الفاقد و و و و .. »
قفز الرجُل من النافذة عارياً ليلحق بمظاهرة من الرجال العرايا تهتف بسقوط النظام.
ومن النصوص ما ترحل بقارئها إلى عوالم فانتازية شديدة الغموض و الغرابة إلى الحدّ الذي يُربك القارئ و يلقي به في متاهات تأويلية لا حدّ لها. منها قصة (≠ الموتى ≠)
في القبور المجاورة لقبري، سمعتُهم سمع اليقين: تأوّهات و أنّات شهوة، عويل طفلٍ جائع و بكاء أم مكلومة، طفطقة سلاح، صوت أجش يلاحقهم بالحساب ..
متعظا تائباً، ألقيتُ بسيجارة الحشيش قبل أن يلاحقني نفس الصوت بدفع إيجار القبر لساعة.
و منها القصة الرمزية المستغلقة المعنى التي تحمل عنوان (≠ مناخوليا ≠)، و كنتُ قد خصصتُها بقراءة نقدية منفردة لحظة نشرها على صفحة المجموعة الفايسبوكية (كتاب و مبدعو القصة القصيرة جدا):
عربيدٌ ذلك الوتر المشدود بين سديمٍ و غيمة. كلّما ارتطم به طنين فكرة رقص عنكب وأنثاه.
أمطرت الغيمة، ارتخى الوتر. الراقصة في ديمومة موت، نشوى على موسيقا الصدى يصاحبها الطنين،
العنكب يتلذّذ بلعق خسائره.
و من النصوص ما ينحو بها صاحبها منحى تراجيديا مأساويا، خاصة تلك التي تعالج مأساة الحرب و آثارها الرهيبة على الضحايا. و من نفائس هذه القصص لدى محسن السيسي نقرأ النصّين المُبهرين الآتيين :
≠ أبو ثريّا ≠
كلّما سألوه عنهما قال: «سبقتاني للنعيمٍ ! ».
بالأمس أضناه الشوق لهما، اتكأ على السارية و ألقى بما تبقّى من جسده على مقعده المتحرك، طعن الخط الفاصل بعصا الراية.
الرصاصة التي استقرّت في رأسه ضربت موعدا مع حبيبتيه، نبتت له ساقان.
≠ خلود ≠
في تحدٍّ صارخ أصرّا أن يستنبتا أطرافهما المقطوعة بيد الحرب.
كان عناقهما بالروح وما بقي من الجسد هما الوسيلة، والساتر ضوء نجمة منهك يتسرب من ربع سقف ونصف جدار، استعادا مافقداه ونبتت أطرافهما، في وليدٍ كالبدر ليلة تمامه.
أمّا الحكي الساخر، فهو أحد نقاط القوة في نصوص محسن السيسي. فالكاتب يكاد يوظف هذا السلاح البلاغي الحداثي في تصدّيه لكافة مظاهر التخلف و الانكفاء العربي على جميع الأصعدة الساسية و الفكرية و الدينية و الاجتماعية .. و من جواهر ما أبدعته أنامل الكاتب في هذا اللون الحكائي الطريف، أسوق لكم هذه النماذج موزّعة كالتالي:
- نصوص تتّخذ من الحاكم العربي موضوعا للنقد و للسخرية، نقرأ منها:
≠ فوتوشوب ≠
اعتلى العرش و أقسم أن العدل سيكون منهاجه، مقلدا لتاريخ قد مرّت عليه عيناه.
تخفّى بليلٍ وراح يجوب شوارع الفقراء ، شاهدها من خلف ما يشبه النافذة تغلي الحصى في الماء، تعِد أطفالها كذبا بأن الطعام آت إلى أن يسرقهم النوم.
اهتزّ وجدانه حد البكاء، أصدر أوامره فورا بخفض أسعار الحصى !
≠ المعبد ≠
رحلوا ناجين بأرواحهم ولم يبق في المدينة غيره و الزعيم.
في ساحة القصر اطمأن أنْ لا أحد يرقبهما. بالحرية التي اشتاقها حّدثه، عاتبه، سبّه ،صالحه، ربّت على كتفيه ثم انهال على قفاه بالصفعات.
لم توقفه إلاّ قذيفة أطاحت به هو و التمثال.
≠ مذكرات مواطن ≠
أنهى خطابه، التصفيق منقطع النظير حتّي أن الهواء المنبعث من الأكفّ الملتهبة أطاح بالوريقات التي قرأها من فوق المنصّة. التقطها الحضور وانهالوا عليها تقبيلا كأوراق كتاب مقدّس مع صور (سيلفي) كمستحدث العادة.
بعد دقائق، استطعتُ جمعها مسدود الأنف، أنا لمن لا يعرفني، عامل تنظيف مراحيض القاعة.
- نصوص يسخر فيه الكاتب من حالة التدجين و الانبطاح و التبخيس التي باتت “ترفل” فيها فئات عريضة من الشرائح الاجتماعية الشعبية:
≠ إيقاع ≠
صانع الطبول راجت بضاعته، صارت طبوله أسلوب حياة ، قرعُها سبيل بقاء،
بالأمس باع آخر واحدة لآخر مواطن .. ثم انهمك في صنع ملايين النايات ذات اللحن الحزين.
≠ على المقهى ≠
«الكلاب تعوي والقافلة تسير»، هكذا حدّثني جليسي بعد لحظات من التأمل. قلت منفعلا و كانت السياسة قد لحست الجزء الأكبر من مخّي: «لو افترضنا أننا الكلاب نحن المعارضون فأين القافلة يا رجل ؟»
أغرق في الضحك بعدما أشار إلى مجموعة من العواجيز على الرصيف المقابل تلهثُ وراء مؤخّرة ضخمة.
≠ نحن الشعب ≠
«باذنجان مقلي يوميا .. حرام ! »،هكذا عاتبها إبنها بالدمع على شطائره المدرسية،
تسلّل إلى شطائر والده و الغيرة تأكله. فضّ غلافها سراً. انصرف و عاد ليضع بعضاً من باذنجانه في الرغيف الخالي إلاّ من الملح.
- نصوص تصبّ جام سخريتها على تجّار الدين و بائعي الأوهام العقائدية الذين ما فتئوا يتكاثرون في زمننا هذا ليعمّقوا من جراحات «الغلابا» و يضاعفوا من مآسيهم:
≠ جوع ≠
و كانت نهاية خطبته اليوم في مسجد قريتنا الفقيرة حدّ الموت: «أطيعوا أولي الأمر منكم وتقشّفوا وإلاّ مكانكم في الآخرة معهنّ: الفنانات الداعرات و الراقصات المنحرفات «
بعد الصلاة انتحر نصف شباب القرية.
≠ المنقذ ≠
تسرّب الماء و أوشكت السفينة على الغرق.
بين هلع و بكاء حاول بعضهم سدّ الثقب. نصحهم رجلٌ مهيب بأن يصطفّوا جميعا. قال بصوت المستغيث: «إرفعوا أكفّ الضراعة ناظرين للسماء».
ما أن انتهوا من دعائهم ، حتى كان قارب الإنقاذ الوحيد على ظهر السفينة قد اختفى تماماً .
≠ ضلال ≠
اقتحموا المسجد رافعين الرايات السود. على صوت خطيب الجمعة علا عواء رصاصهم، سقط المئات من عباد الرحمن ..
قبل انصرافهم مُهلّلين مُكبّرين، أفرغوا بنادقهم في زميلٍ لهم، بدعوى أنّه اقتحم المسجد معهم بقدمه اليسرى !
- نصوص تصوّب سهام حكيها الناقم اللاذع السخرية نحو بعض المظاهر و السلوكات الاجتماعية المستحدثة:
≠ موضة ≠
على مقعدٍ في حديقة الحيوان مقابلٍ لقفص القرود، تناولتُ شطيرة الفول. نظرة أنثى القرد دفعتني لأن ألقي لها بفسيفسة منها حنانا و شفقة. أكلتها بنهم ثم ردّت إليّ الهدية صباع موز أوحشني طعمه. شكرتها وتبادلنا النظرات ..
في غياهب السجن سألتُ ذبابة عن جنسها قبل أن أهشّها، خوفا من أن أتهم مرة أخرى بالتحرش الجنسي.
≠ زمنهم ≠
اكتشفتُ بالأمس أن خطوات تطوّر الجنس البشري صارت تُقاس بالثانية بدلا من آلاف السنين.
حفيدي الرضيع في جلستنا العائلية، قفز على مرحلة الطفولة والمراهقة والشباب لمرحلة الكهولة، حيث حَبَا إلى التلفاز منصرفا عن ثدي أمّه ليقبض على نظيره عند إليسا.
≠ رقيب عتيد ≠
حماتي رحمها الله، و لمّا التفّتِ الساق بالساق، تأملتْ وجهي الباكي الحزين بنظرة من كُشف عنه الغيب، همست لإبنتها قبل الفراق بدفن هاتفها معها، مفتوحا على صفحتي الشخصية .
هذه إذن بعض مظاهر «الحكائية » بمختلف تجلياتها الواقعية و الفانتازية و التراجيدية و الكوميدية التي تزخر بها نصوص القصاص المصري الفايسبوكي محسن السيسي، و هي خاصية جوهرية لا مناص منها في كتابة القصة القصيرة جدا. و لعلّ حضورها المكثف في نصوص هذا المبدع، هو ما بوّأه مكانا لافتا و متميّزا بين مئات كتاب هذا اللون السردي الوجيز بشقّيه الرقمي و الورقي.
———————————-
* ناقد و باحث من المغرب.