“عرِفْتُ فيما بعد أنه أيضًا لم يرَ ما تحدّثَ عنه طاقم العمل من أن الغابة استعادت حياتها لدقيقة كاملة، لو أنه رآها لعرفْتُ أنه لم يُحبّنى، ليس بقدْر ما أحببته على الأقل، كنت سعيدة لأن قِطارى أطاحَ به مثلما أطاحَ قِطاره بى، فلم يرَ أحدنا شيئًا مما حدث حولنا”
“هل أعتبر ما حدث بينكما صداقة تحوّلَتْ إلى حب؟”
“لا، علاقتى مع دوفو كانت مزيجًا من صداقة وزمالة عمل، لم أفكر فى تصنيفها بشكل محدد، كنا نقضى معًا أوقاتًا طويلة بحكم طبيعة عملنا، ونشأتْ بيننا تفاصيل كثيرة، ربما شكّلَتْ هذه التفاصيل مشاعرنا تجاه بعضنا بعضًا دون أن ننتبه، أو أنها كانت حُبًا متنكّرًا، حتى جاءت لحظة الغابة المُتحجرة، وصدمنى القطار”
“أتساءل كيف ظهرَتْ مشاعركما دفعة واحدة، ما الذى جعلها تظهر بهذه الطريقة؟”
“فكّرْتُ فى هذا كثيرًا”، قالت ونظرَتْ بعيدًا كأنما تحاول أن ترى شيئًا لا تفهمه بشكل كامل منذ حادثة الغابة.
“فى رأيى أن أشياءً عديدة فى الكون تجمّعَتْ بشكل خاص لتصنع لحظتى مع دوفو، مثلما لا بد أن أشياءً تجمّعَتْ وبسببها اختفى النهار”، صمتَتْ لحظة، ونظرَتْ إلىّ.
“بداية كل قصة حب هى لحظة استثنائية، وحسب ما أتوقّع، وأتمنّى، تنشأ قصص حب كثيرة كل لحظة، لذا، الكون استثنائى طوال الوقت”
أعجبتنى الفكرة.
لكن كان علىّ أن أقول “رغم ذلك، هناك قصص حب كثيرة تنتهى”
“هذه أيضًا لحظات استثنائية، وتظلّ قصص حب”
تأمّلْتُها لحظة.
“جدّتى، ماذا لو أن دوفو لم يبادلَكِ الحب؟”
“حب من طرف واحد، تقصدين؟”
“نعم”
كادتْ تقول شيئًا لكنها تراجَعَتْ، فكّرَتْ.
قالت “ماذا كنتِ لتفعلين أنتِ؟”
نظرْتُ إلى نجمة حمراء.
“أعتقد أن الحب من طرف واحد بلاهة، إمممم، وخيبة أمل”
“الحب لم يكن أبدًا بلاهة أو خيبة أمل”
“كيف يمكننى أن أُحب شخصًا لا يحبنى؟”
“لأن الحب ليس تجارة، أو مقايضة، تُحبّنى فأُحبك، لا تحبنى فلا أحبك، ما هذا؟ لا أحد يختار أن يُحب، لذا، لا أحد يمكنه أن يختار ألا يُحب” دُرْتُ حول نفسى دورة واحدة.
قلتُ “أشعر أن الأمر مُهين”
توقفَتْ جدّتى.
قالت “لأنك تُحبين؟”
دُرْتُ حول نفسى ثانية وأنا أقول بصوت مرتفع “لأنه لم يحبنى”
“المُهين هو أن تشعرى بالكره أو الحقد”
“لكنه مؤلم بالتأكيد، أن أُحب من طرف واحد، ألم”
“صحيح، ربما، لكن، فى الوقت نفسه، لا أحد يمكنه أن يمنحك إحساسًا بالسعادة مثلما يفعل شخص تُحبّينه، مُجرّد أن ترينه أو تسمعى صوته، حتى لو ذَكَرَ أحدهم اسمه أمامك بشكل عابر”، صمتَتْ لحظة.
قالت “لن أبالغ لو قلت أنك ستشعرين بالامتنان لمَن تُحبّينه ولا يحبك”
قلت “أو أشعر بالرغبة فى أن أفقأ إحدى عينيه”
تجاهَلَتْ ردّى.
“الامتنان، لأن هناك شخص حرّكَ فيكِ هذا الشعور، الحب، شكرًا لأن هذا الشخص موجود لأجلك”
ضحِكْتُ بصوت مرتفع.
“لأجلى؟ أرجوكِ جدّتى”
تأمّلَتنى لحظة، اقتربَتْ منى أكثر.
“اسمعى، هناك شعورَين عليكِ أن تختارى أحدهما لتتعاملى به مع شخص لم يبادلكِ الحب، إما أن تملأى نفسكِ ضدّه بالغلّ والحقد، وتفقأى إحدى عينيه كما قُلتِ، أو تُشفقى عليه وتسامحيه”
مشيتُ خطوتين وعدْتُ لأقف بمواجهتها.
“أفهمُ رغبتى فى فقأ عينه، لكن، أُشفق عليه؟ لماذا؟”
“لأنه لم يُحبك، ولن يعرف أبدًا كم تُحبّينه، يمكنكِ كلما رأيتِه أن تقولى بينك وبين نفسك أنا أكرهك، وتنظرى له بغضب، أو أن تقولى له مرة واحدة وإلى الأبد: أنا أسامحك”
فكّرْتُ قليلاً.
قلت “لا أعرف”
نظرَتْ فى عينىّ.
قالت “تُفضّلين ألا تعيشى قصة حب أبدًا، أم أن تُحبى من طرف واحد؟” “لماذا تطلبين منى أن أختار بين أَلَمَيْن؟”
“لأن هذا يحدث، هناك أشخاص لا يعيشون الحب أبدًا، وآخرين يحبون من طرف واحد”
“أُفضّل ألا أختار حتى لا أجلِبَ أحدهما لنفسى”
تأمّلَتْنى لحظة.
قالت “سألْتِنى ماذا كنت لأفعل لو أن دوفو لم يبادلنى الحب”
انتظرْتُ إجابتها.
أنا واثقة أنى ما كنت لأحقد عليه، وبالطبع لم أكن لأكرهه، تذكرين ما قلتُه لكِ من قبل؟ مَن أَحَبّ نجا”
____________________________________________
مقطع من رواية”ألف جناح للعالم”
قريبًا عن الكتب خان