د. زهور كرام
نتساءل كثيرا، عن السبب وراء الاختلافات حول نص أدبي واحد، خاصة عندما يتعلق الأمر بالنص الروائي. عمل واحد قد يعتبره البعض إنجازا إبداعيا متميزا، بينما يرميه البعض الآخر خارج منطق الأدبية. ويزداد التساؤل لبسا حين يكون الاختلاف حاصل بين المشتغلين في مؤسسة النقد، والذين ينطلقون من مرجعية واحدة وهي نظرية الأدب. ويحتدم التساؤل عندما نلاحظ تباينا كبيرا بين القراءات.
تساؤل جدير بأن يُطرح للنقاش، بكل موضوعية وجرأة في تحليل هذه الوضعية الملتبسة: فهل يتعلق الأمر بوضعية نصوص تأتي بشكل يربك القراء/النقاد، ويجعلهم يختلفون حولها؟ أم الأمر يعود إلى النقاد أنفسهم، وعلاقتهم بمفهوم القراءة؟ أم أن النقد يحتاج إلى تجديد السؤال حوله؟ هل القراءة توازي الإبداع من حيث التحول والتطور؟ أم أننا نظل نفكر في الأعمال بنفس الرؤية والطريقة؟ وهل يمكن الحديث عن مفهوم « الموهبة» في القراءة أيضا، كما يحدث مع الإبداع؟ هل هناك عناصر أخرى تضاف إلى مرجعية نظرية الأدب، تدعم ليس القراءة الصحيحة للنص، إنما القراءة القريبة، التي تستطيع أن تستنتج مظاهر منطق الأدبية؟ لماذا بدأت هذه الظاهرة تظهر بقوة في الآونة الأخيرة، ولم تكن العلاقة مع النصوص كذلك فيما سبق؟ هل يعود الأمر إلى ظاهرة الجوائز التي تضع النقاد في هذا الموقع الملتبس، بسبب تفضيل نصوص على أخرى؟ أم أن الأمر يحتاج إلى إعادة النظر في النقد قبل الإبداع ؟ ولماذا تنتشر اللقاءات حول الإبداع بكل تنويعاته، فيما يخفت احتضان النقد موضوعا محوريا للقاء ثقافي؟ ألا يمكن أن نبحث عن مقاربة موضوعية للظاهرة، بمحاورة جريئة بين الدراسات المتباينة حول النص الواحد؟ ألا تحقق مثل هذه المحاورة اقترابا أكثر من طبيعة هذه الظاهرة؟ والبحث عن أسبابها، هل داخلية ذات علاقة بمنطق الأدب، أم خارجية مرتبطة بأسباب لا أدبية؟
لا يتعلق الأمر بظاهرة الاختلافات المتباينة حول النص الواحد، بما يُعرف في النقد بتعدد المقاربات لنفس العمل. لأن تعدد المقاربات فيه غنى للنص، ويدخل في إطار ما يسمى بالإمكانات المتعددة للنص. إن النص الروائي خاصة مع التجربة الجديدة، أي ما بعد النظام الأفقي، يحيا من خلال طبقات سردية متعددة، وغير مرئية. وضع يفترض انتقالا نقديا بين هذه الطبقات، من أجل الوقوف عند مظاهر تشخيص الحكاية روائيا. وعندما تتعثر عملية الانتقال، قد يضيع الوصال مع النص.
تعد رواية الكاتب المصري «سعد القرش» «أول النهار»(1)، من الروايات التي يتشكَل متخيلها السردي وفق طبقات سردية بعضها مرئي، وآخر غير مرئي. تقدم نفسها باعتبارها نصا مفتوحا لمختلف القراءات. فالقارئ العادي، المستأنس بثقافته المقروئية المألوفة، توفر له الرواية حكاية مكتملة الأحداث والوقائع، كما يستطيع أن يتابع القراءة وفق زمن القصة، بعيدا عن انحرافات زمن الخطاب الذي لا يعنيه، لأنه خارج ثقافته في القراءة. كما يستطيع هذا النص أن يحقق لهذا النوع من القراء متعة، تضمن للقارئ إمكانية إعادة سرد الحكاية على أصدقائه، بدون إعاقات في التواصل مع القصة. والكتابة الروائية في «أول النهار» وظفت من أجل تحقيق أفق انتظار هذا القارئ مجموعة من الإمكانات السردية، مثل السرد بضمير الغائب الذي سرد سيرة حياة الحاج عمران وأسرته، من خلال نظام الأجيال، في مكان محدد بمواصفات قرية تخيلها الكاتب تحت تسمية أوزير، فأوجد فوق ترابها حكاية تبدأ قبل حملة نابليون، وما بعدها، جاعلا من العلاقات الاجتماعية، والصراعات والتناقضات، والمفاجآت، وتعاقب الأجيال توابل الحكي عن الظلم وأشكال مقاومته، والآلام وتعدد مصادرها، والخيبات وتجاوزها. وما يعزز أفقية الحكاية، وإمكانية احتوائها من طرف القارئ، هو أن الطبقة السردية الظاهرة، تعطي الانطباع، بهذه الإمكانية، من خلال الشعور بنوع من التوازي بين زمن القصة، وزمن الخطاب. أي ما تقوله القصة يسرده الخطاب. في هذا المستوى من الطبقة السردية قد لا يحدث الاختلاف في قراءة « أول النهار»، وإن حدث يكون حول موضوع القصة ليس إلا. لكن، الاختلاف أو التباين يبدأ عندما نتجاوز هذه الطبقة المرئية، والموجهة بتتالي الحكاية، إلى طبقة أكثر انزياحا عن زمن القصة. وذلك، عندما نشتغل بالخطاب، وطريقة صوغ القصة، وشكل بنائها. في هذا المستوى قد يحدث الاختلاف القائم على قدرة القارئ في قراءة البناء، من خلال تكسيرات سردية تحدث في زمن القصة، لكن بشكل مرن وليَن، بعيدا عن التكسير الموغل في الانزياح عن الحكاية كما نجد في تجارب روائية كثيرة خاصة التجريبية.
«أول النهار» تبني طبقاتها السردية بطريقة سلسلة، تتناغم ونظام الأجيال الذي تعززه حكاية الرواية. وهذا التناغم قد يسبب لدى بعض القراءات النقدية نوعا من اللبس عندما يتم اعتماد زمن القصة مرجعا وحيدا للقراءة النقدية، مما يعطل النظر في تجربة الخطاب الروائي في « أول النهار» التي تطور تجربة الجنس الروائي في المشهد العربي، بعيدا عن التجريب العنيف، قريبا من التجريب الهادئ الذي لا يفرط في القارئ العادي، وإنما يدخله في عملية البناء، بطريقة تدريجية.
من بين عناصر الخطاب السردي التي تكسر رتابة زمن القصة، تلاشي منطق السببية الذي دعَم نظام القصة، ومنحها بعدا تعاقبيا، جعلها تحتفظ على نظام التتابع والتسلسل. لأن الأحداث لا تخضع لمنطق تطور الأحداث، بقدر ما يتداخل العنصر الغيبي في تصريف الأحداث. إن اعتماد السرد على عناصر غيبية وغرائبية وأسطورية وخرافية خرقت منطق تعاقد الأحداث، وتسلسلها مثلما وجدنا مع مفهومي النبوءة والموت اللذين لعبا دورا بليغا في مسار الأحداث، وإقامة توتر مع القصة، وحضرا في التركيبة السردية في مستوى عنصر الغرائبي الذي وجدناه يمنح للنص الروائي لدى سعد القرش بعدا من الترميز المفتوح على الدلالات.
نلتقي في رواية « أول النهار» بمحكي عام حول سيرة الحاج عمران، وأسرته، ثم نلتقي في ذات الوقت بمحكيات متعددة تخرق رتابة المحكي العام، تولدت عن اشتغال العنصر الغيبي (النبوءة)، ونتجت عنها تحولات بنيوية، ووظيفية في مسار اشتغال المحكي العام، بالإضافة إلى ظهور محكيات جديدة دخلت مجال المحكي الرئيسي، فأحدثت انزياحا عن القصة مثل محكي «هند». إن توليد المحكيات بفضل العنصر الغيبي خرق منطق السببية، وأجهض قانون التسلسل السردي، وغيَر موقع القارئ الذي لم يعد منتظرا لما سيحكيه السارد بضمير الغائب، ولما سيؤول إليه المحكي العام الخاص بحياة الحاج عمران، بقدر ما أصبح قارئا مرنا في علاقته مع الحكاية. قارئ ينتظر كل الاحتمالات التي قد توقف تدفق السرد الأفقي وهو يحكي سيرة الحاج عمران، وتحول المحكيات الصغرى إلى محكيات كبرى.
لقد انعكس هذا الوضع التركيبي السردي على تقنيات التبليغ، حيث هيمنت عناصر التكثيف التعبيري، والتلخيص المركَز، والمقتَر، والذي لا يسمح بخلل في التواصل مع أحداث القصة. كما أن اللغة حضرت موضوعا للتشخيص الروائي، وليس فقط وسيطا سرديا لحكي القصة. إنها لغة مركبة، مشبعة بتنويعات لغوية تنتمي إلى سياقات مختلفة (اجتماعية، تاريخية، تراثية ، دينية، غرائبية…)، بهذا الشكل اللغوي الذي جاء على شكل طبقات لغوية متداخلة وظيفيا، تم تجاوز السارد بضمير الغائب، عبر ملفوظات السياقات الاجتماعية. فلغة الشخصيات تخترق لغة السارد، وتوجهها، وتتجاوزها، وتقلص سلطتها في تدبير زمن القصة.
لهذا، فرواية «أول النهار» للمبدع المصري سعد القرش قد تمنح انطباعا بهيمنة ضمير الغائب، الممتلك لحقيقة القصة، والمتدبر لشأن تصريفها برؤية أحادية، باعتباره ساردا عالما بتفاصيل الحكاية، وخيوطها، ومن ثمة، الاعتقاد بوجود حكاية واحدة، مكتملة بصوت واحد، وبالتالي، يتم تلقيها بنفس أفق رؤيتها السردية الأحادية، غير أن منطق اشتغال الخطاب السردي يزيح الوعي النقدي عن هذه الانطباعات التي هي موجهة إلى القارئ العادي، ويجعل منها رواية تبحث عن زمن تكون حكايتها، بناء على نظام ترتيب حياتها السردية. وهذا ما يعزز دور القارئ/الناقد الذي يتفاعل مع كل الإمكانات المفتوحة للنص من خلال اشتغال المنطق الغيبي. وفي هذا المستوى تتعدد المقاربات، وتكشف غنى النص الروائي.
………………
(1): سعد القرش: أول النهار/الدار المصرية اللبنانية، الطبعة الأولى 2005.
ـ ( “القدس العربي” / 4 ـ 8 ـ 2014)