“شاعرية الفقد..شعرية التشظي” … قراءة في ديوان”بلا خبز ولا نبيذ”

موقع الكتابة الثقافي writers 82
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عطية معبد

لو تأملنا عنوان هذا الديوان – الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب 2017- ثم نحينا جانباً فكرة أن الخبز والنبيذ هما طقس التناول الشهير في العقيدة المسيحية وحاولنا قراءة قِسْمَيْه منفصليْن فسوف نرى أن جملة (بلا خبز) ربما تعطيك مؤشراً على دال الفقد لكل ما عُرف أنهُ  يقيم الأَوَد، النفسي والشعوري بالأساس،الفقد هنا غير الافتقاد ..الفقد الذي نرومه هو حرمان نفسي عانته الذات الشاعرة في تعاملها واحتكاكها بالأشياء/الأشخاص/ الأحداث والتي سنرى أن جميعها أقرب إلى الجوانية أكثر من كونها معاينة ملموسة أو مباشرة للآخر ، الآخر الذي يسلبها خبز اتزانها..وجملة (ولا نبيذ) ظنناها تكمل حالة الحرمان هذه ، لكن هنا هو حرمان من اللذة أو المتعة،كما قد نتصوره كذلك كل تَرَفٍ طبيعي أو مكافأة حرمت منها الذات.والعنوان بهذه الكيفية يكون اختصاراً لعنوان وحالة نص داخل الديوان يحمل عنوان (على الدوام،بلا خبز ولا نبيذ) ص 59 أما وقد نحينا فكرة أنهما (الخبز والنبيذ) طقس التناول في العقيدة المسيحية فقد أعدناها الآن ثانية لما نرى لهذا التوجه من أهمية بالغة داخل الديوان فلا يمكن تجاوزها أو تجاهل دلالتها في أكثر من نص وبالعموم في اللغة المستخدمة ذاتها.إن عنواناً يحمل هذه الدلالات لا يسفر إلا عن ذات تعاني من كل شئ بما يصل بها إلى حالة التمزق أو التشظي في سعيها لاحتمال أذى الآخر الذي ربما يشعله الشعور بهشاشة هذه الذات وضعفها البادي عبر لغة خاصة نرى أنها ترتد – ربما بشكل لاواعي – إلى ما يمكن تسميته بذاكرة النص أو ذهنية الذات الشاعرة وولعها بأسفار العهد القديم مقدمة نسقاً لغوياً خاصاً ومميزاً يشير لهذا التصور بدءاً من أول الديوان (انظر يا رب وتطلَّع بمن فعلت هكذا) مراثي أرميا ، ص5 وترد أصداء أو ربما أنساق كاملة من هذه الثقافة خلال الديوان بكامله خذ مثلاً (الملاك ، القديسون، يا رب يا جميل، الأجنحة ، الكهنة ..الخ) كأمثلة لكلمات وتعبيرات متداولة داخل الديوان ، فيحاول الشاعر أن يخلق من حالة التمزق أو التشظي شعريته الخاصة فيُحمِّل هذه الشظايا حمولة فنية وشعورية مغايرة لمألوف استخدامها : (الأعصاب والجلد فقط ،هما أحزمة جسدي ، الأمر الذي لا يحتاج إلا إلى العبث اللين، بأية آلة حادة عند المداخل/ لتنفكَ / ويصير طرياً) (جسدي قابل للطي ..ولتقطيع أجزاءَ بعينها كمناديل بعد القتل) (وأحتمل العالم) الديوان ص7،8        ( جفوني تدلت، وأصبحتُ قبيحا يوم غاب صاحبي الشرير) (وإن أشار بإصبعه ، تحجل الذكرى، وأنا وراءها نحو الضوء) (يطلق ذراعي على أفكار العابرات) ( صاحبي هَجَرني ، وأنا لا أملك إلا جفوناً تتهدل فيرفعها بضحكة و بصاتها تهتزُّ فيربت عليها .. برصاصة) الديوان ص9،10  هذان نصان دالان في تصورنا على حالة التمزق و التشظي التي تعاني منها وتعاينها الذات طول الوقت ، فلا جسد مكتملاً أبداً ، وحتى هذه الأجزاء غير المكتملة تبدو في الغالب مستسلمة لآخر ،أياً كان تصوره وموقعه ، وبالتالي فإنها غير قادرة على المواجهة أو حتى الهروب.”يتسرب العالم المادي والعالم الروحي، أحدهما إلى الآخر ، فتصير أقسامهما الأساسية معدلة نتيجة لذلك، إن زمان وفضاء العالم فوق الطبيعي كما هو موصوف .. ليسا هما زمان وفضاء الحياة اليومية، ذلك أن الزمن يظهر هاهنا معلقاً ويمتد خلف ما تحسبه ممكناً” ( تودروف :مدخل إلى الأدب العجائبي ،دار شرقيات 1994 ص14) نحن هنا أمام ذات تهرب من إمكانية التماهي مع الآخر بتمزيق ذاتها سعياً لرضاه ورغبة في اتقاء أذاه ، فإذا لم ينجح الأمر لجأت  إلى التسامي الروحي أو حتى ادعاء التسامي للخلاص من المواجهة 🙁 اعترفتُ لنفسي أخيراً ، وأنا في النافذة ، أن جِلْد كفي قليل جداً، لا يكفي لاستدراج يدٍ صغيرة أو مداعبة طيران يختبئ في رفة الرعشة ، لم استطع أبداً فرد أصابعي لمنابعها أو جرها للخلف ) (ظلالي كلها مرت ، ثم بان الأمر وأنا في فخ نظراتي وأشبه روحا تائهة في معطف) ( لكني كذلك سأغيب وأنا خفيف) الديوان ص 35 )الوحش أرق من أن يغمسني في حبه ، بل يشد صمتي في النهار ويكشطه بالجير الحي ويلبسني ثياباً نظيفة ، ويُركِّب لي تروساً لأصير أسرع ويحقنني باللحم لمَّا تأكلني الظنون الشرهة ) الديوان ص46 الوحش الذي ترصده الذات هو الوعي الذي قال في أول القصيدة إن سنواته مرت قبل أن يبدأ الوحش ألعابه ويكشف سكنه في اللوحة ثم يأخذه الوحش لعالمه الجواني ، اللاشعور ،الذي يقوده من روحه ومن ثم يتشظى معه 🙁 يأخذ بيدي..يربطني في ذيله ويلقيني عند قمة الجبل مغنيا” كن مطراً أو خَلِّ جلدك للطائرات” ثم يدق بحيرةً بين اللوحة ويدي) الديوان ص45 ..” حين نصل إلى كهف اللاشعور،لا نصل أبداً إلا حين يُغلق، والطريق الوحيدة للدخول تتمثل في أن نكون بالداخل ، ولا يمكن أن يعرف بِنْيَة اللاشعوري إلا من هو على استعداد للتسليم بقدرة اللاشعوري ، القدرة الهائلة على الإزاحة والإيمان بتلك القدرة ” (جاك لاكان:إغواء التحليل النفسي ،المجلس الأعلى للثقافة 1999ص 80) إن الذات الشاعرة لدينا تعيد تشيئة الأشياء، وتمنحها أسماء ومعان ووظائف مغايرة بعد تفكيكها إلى شظايا: (تعال ننظر للأمر من زاوية أخرى ..فتكون نافذة العمر التي أَلقيْتَ منها نصفكَ ليست طائراً وإنما لوحةً لشيطانك الممسوس) (إنها الحنجرة التي لابد أن تسافر في الصحاري، ليسقط منها هديلٌ يكفي زاد اليوم) (لذا نقتسم عَظْمَة الساق مع المقاهي) (رجاءك المكوم والضحك المكتوم ننساهم عند الردهة) (واقترب من الخوف البليغ) الديوان ص 81  “ونحن هنا من جهة أخرى، أمام نص يكسر أفق التوقع عند القارئ وهو المفهوم الذي طرحه أصحاب نظرية الاستقبال وبالذات (هانز روبرت ياوس) كأساس للقراءة والتفسير ومن ثم كأساس لإبداعية النص أو ما سماه (ياوس) نفسه (المسافة الجمالية) وهي مقدار مخالفة النص لتوقع قارئه حيث يسمو النص إبداعياً حسب حجم هذا الاختلاف “( عبدالله الغذامي: القصيدة والنص المضاد ،المركز الثقافي العربي 1994ص 162،163) وما قلناه عن إعادة تشيئة الأشياء نجده يتكرر بوضوح في نص بعنوان(لحيتي) ثم في نص آخر بعنوان (نَخْبٌ لتشخيص المحبة) وموضوعه الأنامل وحدها ،ومع اعتبار أن اللحية قد تعني نفسها بالذات وفي نفس الوقت هي دال على معنى آخر وكذلك الأنامل ، فنحن أمام حالة تشظي كاملة وواضحة ، يخلق مؤمن سمير شعريته منها حين يعيد اكتشافها من جديد بمهام ودوال جديدة دائماً، تكسر أفق التلقي الذي رسخ عنها في ذهنية القارئ العادي وحتى القارئ الخبير أو المدرب على القراءة ومن ناحية أخرى فهناك رغبة واضحة في الاستسلام للقتل المعنوي – نتيجة لتواليه وتعدد صوره – وكذلك في منح الآخر،القاسي والقاتل، جزءاً من الجسد المتشظي كقربان لكف الأذى(وهو ما يَتَمَاهَ مع طقس التناول المسيحي)أو رغبة في تخفيف الوطأة وهي نفس الحال التي يكون فيها الرب أكثر رأفة وإمعاناً في خلاص محبيه الذين يمنحهم بعض جسده ولا يعبأ في مرات أخرى بتجاوزات الذات تجاه نفسها ولكنه يتجلى من باب الغفران على الخطيئة المتكررة :(وأمسحُ دمعة الحنين للضعف بكفي، التي تشبه المخالب ، لكنها تنسى) الديوان ص 85 إنها ذات لا تقاوم أبداً فيصنع الشاعر من موته المتكرر  شعريته الخاصة التي ترتكن على شحن جزيئات ذاته أو شظاياها عاطفياً بما يخلق تصوراً عنها- أعني الشظايا- وقد أصبحت ذواتاً صغيرة وفاعلة بعيداً عن فكرة اكتمال الجسد🙁 لم أناوش المسامير في أكباد أولادي ،ولم أفرك عظامي، لم أبكِ قبيل الطفو، ولم أرسل زفرة فيطمئن الرعاة) الديوان ص 49 إن ذاكرة النص التي قَرَأَت الكتاب المقدس بحميمية انعكست على روح النص وكلماته ، ليست بمفهوم الصدى والانعكاس وإنما تحل الكتابة كتكريس لهذه الذاكرة وهو ما بدا واضحاً في أكثر من نص ومن خلال سياقات متفاعلة مع كتابة هذا الكتاب – التفاعل : بالتماهي أو حتى بالتضاد مع الوعي المقدس والتحاور معه بندية – فنلمح مقولات حاسمة ورئيسة غير ما سلف وذكرناه :(أمطار في كُمِّ مغفرتك)(تصالحنا مع قتلنا إياك)(لم نحافظ على صلواتنا) الديوان ص 76 والتي يتكون منها نص بأكمله بعنوان(القديسون) وفي ص 60 يقول:(ربنا يا ربنا، من أجل خاطر المشلوحين تحتك) (فاتكئ علي وهيا لنمضي،أولادك لن يوقفوك مرة أخرى)..نظن أيضاً أن هذه التناصات أو الاستلهامات من لغة العهد القديم هي التي مهدت لما أسميناه (شاعرية الفقد) وفيها أصبحت اللغة أكثر رقة وبُعداً عن المجازات والصور المركبة ،ربما لأن فكرة الفقد هي إحدى المناطق الدافئة التي يروق للمبدعين – خاصة الشعراء- الحديث عنها/ معها/ فيها ، فهي معين لا ينضب على أية حال ،والمشكلة ليست في التعاطي معها وإنما في طريقة هذا التعاطي من حيث الجدة والإضافة والمغايرة وسواء قصدنا الشكل أو المضمون والمحتوى الفني سنجد أن الشاعر واحدٌ من الشعراء الذين نجحوا في التمايز عند الدخول إلى هذه المنطقة بل وخلق لذاته الشاعرة شاعريتها الخاصة ونعني هنا استخدام اللغة في صفاءها وليس الأدوات الإنشائية أو القدرة على التركيب أو التصعيد المجازي الذي عايناه في ملمح (التشظي) ” إن النماذج النصية لا تدل إلا على جانب واحد في عملية التواصل ، وتقدم الأرصدة والاستراتيجيات النصية إطاراً يجب على القارئ أن يبني داخله الشئ الجمالي نفسه ” (فولفجانج إيذر:فعل القراءة، المجلس الأعلى للثقافة 2000 ص 115) يقول النص: (عندنا تلٌ عجوز،كان يتمنى أن يصبح مصور أحزان، وينجب أولاداً وينط على سجادة الهواء ،يبيت في غبش الصبح ،ويرنم بصوت مجروح) الديوان ص 66 ويقول :(يا الله ، أنت اكبر من حقيبتي وكراسة الرسم العريضة، وأطول من الدراجة والصالون ،ومن بلدتنا، فلماذا لا تأتي إلا من السكة المهجورة ولا تترك إلا ظلاً صغيراً) الديوان ص 67 الذات الشاعرة في المقطع الأول تفقد الحلم بأن تحيا وتكون حتى أصبحت تلاً عجوزاً من جراء الأحلام الموءودة أو المعطلة وكل ما تبقى لها هو رنين الحلم في جملة (كان يتمنى) وفي المقطع الثاني تفتقد نفس الذات الطريقة التي تتعامل بها مع الذات الأعلى أو الأنا العليا بما تمارسه من قهر لا يقاوم أو لا سبيل لمقاومته حين تمارسه من منطقة الخوف المتوهجة دوماً ثم لا تترك أبداً أثراً واضحاً أو لنقل إنها تترك ظلاً لا يكفي أبداً لحماية هذه الذات.. يقول الديوان في ص 70 🙁دفنتُ ذراعي مكان أبي الميت وهواءً مكان الساقين اللذين استعارتهما البنت)( نظري منذ دهور يحوم وراء الباب ولا يلوح إلا على عتاب عميق كأنه البئر) تخلصت اللغة إذن من عبء التراكيب التي قد تبدو صعبة أو مركبة في نصوص أخرى ،ربما هذا ما فرضه الإحساس العارم بالفقد والذي عنيناه أكثر من (الرغبة في إعادة تشيئة الأشياء) أو شعرية التشظي ..يقول الديوان ص 73🙁 كل يومين أحبك، وأرتعد قبل المطر وبعد النوم،أحدد ما يكون عليه قلبي : أرسم خريطة العمل ، وأكون متأهباً للحظة قوتي وامتلاء شراييني بابتسامتك) ” إن الواقعة الفردية لا يجب أن يُساء فهمها .إنها فردية متعالية ، الإنسان لا يعيش في قبضة العواطف التي تملكه ..أَحَرِيٌّ بنا أن نقول إنه يمتلك عاطفته يوجهها ويسيطر عليها أو قل إن اللغة استجلاء التعديل الذي يتم في بنية المشاعر، اللغة تُخلق لكي نتخلص من سرف التعبير ووطأته”(د.مصطفى ناصف: اللغة والتفسير والتواصل ،سلسلة عالم المعرفة العدد 193العام 1995ص 126) وهذا ما تظن هذه القراءة أن الشاعر نجح فيه، لقد خلَّص اللغة من مجازاتها المربكة وردها للأصل ،بحسبانها أداة توصيل أو تواصل بالأحرى- والأصل هو الإحساس بالفقد الذي كان يروغ في أحايين كثيرة تحت وطأة الحالة الشعورية الضاغطة والقاسية وفي محاولة للقبض عليه كانت الذات الشاعرة تتخفى وراء بعض المجازات والصور لتنجو من الأذى والألم ، وهو ما كان يخدم اللغة في ذاتها بتقديم جملة مدهشة في الحقيقة لكنه قد لا يؤكد المعنى بنفس الدرجة .. يقول الديوان ص 75 : (حمداً لله على سلامتك يا أبي، وصلتَ أخيراً بعد أن أدمنتَ المراوغة بين الظلال وضحكاتك، وبعد أن تمشيْتَ عدة سنوات على حوائطنا،ورسمتَ على تراب الصورة ألعاباً مجنونة تذكرك بطفولتك ،وطفولتنا التي تعمَّدت تركنا فيها) الإحساس العارم بالفقد هنا استلزم واستدعى لغة أكثر وضوحاً ونقاء وهي في ظني أكثر ملامسة واقتراباً من المعنى من بعض الجمل القليلة التي استخدمتها الذات الشاعرية وقت تشظيها وتمزقها . يقول النص في ص 85 🙁 أنا خائفٌ منك يا عم ،فأفلتني،ونم يوماً ولا تحلم بملامحي، أغمض عينيك وكفيك لأهرب ،أو جرب مرة أخرى فأعود إلى وسط الطريق) هكذا ببساطة جسدت الذات إحساسها بالخوف وفقد الحرية ،تلك الحرية  التي يفتقدها كل الشعراء ويعبرون عن هلعهم عبر كتاباتهم لكن هذه هي طريقة شاعرنا الخاصة والمميزة في التماهي مع فقدها وصنع نصوص حية وصادقة بقدر أَلَمها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ناقد مصري

مقالات من نفس القسم