ياسر فتحي
دائمًا ما يُشار إلى كفافيس، أحد أعظم شُعراء اليونان المعاصرين، الذي ولد بالأسكندرية عام 1863 واتَّخذها وطنًا له إلى أن توفَّي بها عام 1933، باعتباره الرمز الأوحد للرابطة الثقافيَّة اليونانيَّة المصرية المعاصرة، وكذلك دائمًا ما يُشار إلى الأسكندريَّة باعتبارها مهد تلك الرابطة وعاصمتها الوحيدة، غير أن الباحث في هذا الشأن يجد أن هذا ليس من الواقع في شيء، فهناك العديد من الأدباء والشعراء اليونانين المعاصرين البارزين الذين عاشوا في مصر من أقصى صعيدها إلى أقصى شمالها وأسسوا لما يمكن أن يُطلَق عليه تيار الكتابة عن الحياة المصريَّة في الأدب اليوناني والذي ينُم في مُجملِه عن احساس عال وعاطفة قوية تجاه مفردات البيئة المصريَّة وشخوصها في ظاهرة فريدة قلما توجد بين ثقافتين.
في القاهرة على سبيل المثال بالقرب من فسطاط مصر القديمة حيث مقابر الجالية اليونانيَّة يتحدث د. نعيم عطية في مقال له في مجلة الهلال عام 1968 عن قبر أبيض تظلله شجرة عتيقة إلى جوار كنيسة صغيرة ويميزه لوح من الرخام نُقشت عليه تلك الكلمات المفعمة بالعاطفة ’’فرحة الحياة هي أعظم فرحة ولا شك، وفي أولى درجات لوحة الحياة، سواء اتخذت صورة الربيع الزاهر، أو صورة الشتاء المجلل بالثلوج، يوجد على الدوام ينبوع صغير دائم الجريان تحت خضرة الربيع وتحت ثلوج الشتاء‘‘، هذا هو قبر الأديب اليوناني “نيقوس نيقولائيدس”، وتلك الكلمات نقشها أصدقاءه ومحبَّوه على قبره لتخليد ذكراه في قلوبهم، و”نيقوس نيقولائيدس” القبرصي الأصل لم يكن أديبًا مغمورًا يتصعلك في شوارع بولاق حيث كان يسكُن بالمنزل رقم 12 في شارع صابر، بل هو أحد أعلام الأدب اليوناني الحديث أو كما وصفه الناقد اليوناني “كاراكسي” بأنه “موباسان القصة اليونانيَّة”، وإذا اتجهنا شمالًا نجد الأديبة اليونانيَّة الكبيرة “كاليوبي ناكوبولو” تعيش إلى جوار زوجها الذي كان يعمل بالزراعة في قرية صغيرة من قرى شمال الدلتا، حيث كتبت روايتها الأشهر “شجرة على” الصادرة بالأسكندريَّة عام 1957 عن جيل كامل من حياة أسرة ريفيَّة منذ الثلاثينات وحتى ما بعد ثورة يوليو، والتي استطاعت من خلالها تقديم صورة مفصَّلة للريف المصري بعاداته وتقاليده وشخوصه بشغف وتدقيق كبيرين، وإلى الجنوب نجد “ماجنيس”، الشاعر اليوناني “الفحل” على حد تعبير الدكتور نعيم عطية في مقال له عن الشعر اليوناني في مجلة “المجلة” عام 1963، أو أحد أعظم شعراء اليونان بعد كفافيس كما قال عنه الأديب اليوناني الكبير “جريجوري كسينبولوس”، يكتب في ديوانه الثالث عن جبال مدينة “جرجا” عاصمة محافظة “سوهاج”، حيث كان يقيم، قائلًا ’’لو أمكنني أن أمضي حياتي على قمم الجبال الشامخة استنشق الهواء الطليق في صحبة ملهمتي الطيبة ومزماري الحبيب‘‘، وغيرهم العشرات من الأدباء الشعراء الذين يضيق مقال واحد عن حصرهم، ولكن من نريد أن نسلط عليه الضوء هنا هو “كوستا تساجاراداس” قنصل اليونان في أسيوط وتاجر الأقطان ومؤلف رواية “نبيهة” أو “عذراء أسيوط” التي صدرت هذا العام عن إحدى دور النشر بعد ما يقرب من 70 عامًا من ترجمتها من اليونانيَّة إلى العربيَّة، وهي المعني بها هذا المقال، ولكن من هو “كوستا تساجاراداس” ومن هي “عذراء أسيوط” وما علاقة “طه حسين” بهما؟.
يقول “عبد السميع المصري” مترجم الرواية في مقال له في مجلة “المجلة” عام 1963 ’’تَرجمت رواية “نبيهة” إلى العربية بعنوان “عذراء أسيوط” بموافقة المؤلف الذي راجع الترجمة العربيَّة بنفسه أذ أنه يجيد العربيَّة كتابةً وحديثًا‘‘، ويبدو أن السبب في تغيير اسم الرواية هو أن استخدام لفظ عذراء كان شائعًا في عناوين الروايات على مدار مراحل تطور الرواية العربية منذ بدايات القرن العشرين، فنجد “أحمد شوقي” يكتب “عذراء الهند” عام 1897، و “عوض واصف” يكتب “عذراء اليابان” عام 1906، و”محمود طاهر” يكتب “عذراء دنشواي” عام 1907، و”حسين شاكر” يكتب “عذراء شبرا” عام 1926، ويستفيض المترجم في الحديث عن علاقته بمؤلف الرواية “كوستا تساجاراداس” منذ لقائهما الأول في حفل من حفلات نادي البلدية بأسيوط أو نادي الأعيان كما كان يُعرف في ذلك الحين، ويستعرض سيرته الذاتية وأعماله الأدبية منذ أن ولد عام 1889 في بلدة زاجورا في اليونان وحتى وفاته في أواخر الخمسينات، ويقول عن روايته “نبيهة” “عذراء أسيوط” التي صدرت عام 1924 أنها قوبلت بمظاهرة كبرى من الصحافة اليونانية بمصر واليونان ولُقَّب مؤلفها برائد القصة اليونانية في وادي النيل، ويبدو أن الرواية قد قوبلت أيضًا بحفاوة كبيرة بعد ترجمتها إلى العربية في منتصف الخمسينات حيث يقول عنها الأديب الكبير “يحيى حقي” في مقال له نُشر في مجلة الرسالة الجديدة عام 1956 ’’ولكني وقعت أخيرًا في طالع سعد على قصة تُسمى “عذراء أسيوط” كتبها باليونانية عام 1924 “كوستا تساجاراداس” عميد الجالية اليونانية بأسيوط، صبحه الله بالخير ومسَّاه – ونقلها في هذه الأيام إلى العربية بعد احتجابها الطويل عنا الأديب “عبد السميع المصري”، فإذا بي أقف بين يديها ذاهلًا، وأحني أمامها رأسي، هزت روحي هزًا عنيفًا، حتى غلبني التأثر، واذاقتني كأسًا مترعة من سعادة لا حد لها‘‘، ويقصد يحيى حقي بقوله ’’احتجابها الطويل عنا‘‘ أن الاطلاع عليها لم يكن مُتاحًا سوي لمن يفهم اليونانية سواء كلغة أصلية أو مُكتَسبة بالدراسة، وهنا يظهر في الصورة أستاذ اليونانية عميد الأدب العربي “طه حسين” الذي مما لا شك فيه، لما سيأتي من اسباب، قد اهتم بتلك الرواية ووجد من يقرأها له باليونانيَّة بل وتأثر بها إلى حد بعيد، ويتجلَى هذا التأثر، الذي يتجاوز حد الاستلهام في بعض الأحيان، في روايته الأولى “دعاء الكروان” التي من المؤكد أن طه حسين (حسب روايته) قد انتهى من كتابتها في شهر سبتمبر عام 1934، أي بعد صدور النسخة اليونانيَّة من “عذراء أسيوط” بما يقرب من عشرة اعوام، ولكن طبعتها الأولى لم تظهر إلا عام 1941. ولسنا هنا بصدد نقد “عذاراء أسيوط” أو “دعاء الكروان” نقدًا فنيًا فهذا الأمر لا يصح بشأنهما ولا بشأن إي رواية عربية ظهرت على مدار ما يقرب من ستين عامًا من مراحل تطور الرواية الفنية العربية منذ نشأة ما يُعرف بتيار الرواية التعليميَّة على يد رفاعة الطهطاوي (تخليص الإبريز) وعلى مبارك (كتاب علم الدين) في أواخر القرن التاسع عشر وحتى بدايات اكتمال الرواية العربية في صورتها الفنية الحالية بأقلام جيل نجيب محفوظ وما تلاه من أجيال في أربعينات القرن العشرين، ولكن ما يستقيم بشأن تلك الأنماط الروائية التي ظهرت خلال هذه الفترة هو مجرد تقييم مساهمتها في تطور الرواية العربية ووصولها إلى الصورة الفنية الراقية الحالية، فالروايتان تتشاركان في كل المآخذ والنواقص التي تعتري كل الروايات التي كُتبت في هذه المرحلة من مط وتطويل، واستنطاق الشخصيات، مهما تباينت، بلغة المؤلف ووجهة نظره، وبناء الشخصيات غير المكتمل وظهورها واختفائها بلا مبرر، والنبرة التعليمية والوعظية المباشرة، وعلو صوت المؤلف وحضوره الدائم الذي يحول بين القاريء واستغراقه في الرواية، ولكن ما يخصنا من هذا هو التشابه في عموم الفكرة والسرد والشخصيات الرئيسية والثانوية ومكونات اخرى عديدة يصعُب حصرها في مقال واحد ولكن مجرد التركيز على بعضها يؤكد ان مؤلف “دعاء الكروان” قد قرأ “عذراء اسيوط” واستلهم منها الكثير.
ما أن تشرع في قراءة “عذراء أسيوط” والتعرف على شخصيتها الرئيسة “نبيهة” حتى تتراءى لك “آمنة” الشخصية الرئيسة في “دعاء الكروان” فنبيهة مثل آمنة أو آمنة مثل نبيهة فتاة مراهقة من بيئة ريفية شبه بدوية تتعرض لقهر يدفعها للفرار إلى المدينة، “آمنة” تفر من “الخال” الذي يجبرها هي وأمها وأختها على الرحيل من قريتهن ثم يعود ويقتل أختها أمام عينيها، و”نبيهة” تفر من “العم” الشيطان الذي ينتهك براءة أبنة أخيه يتيمة الأب والأم، وتتفق الرواياتان بصورة ملفتة في وصف مشاعر الفتاتين تجاه “الخال” و”العم”، فتقول “آمنة” عن الخال ’’نعم عرفت خالي ناصرًا، وذكرت أني كثيرًا ما كنت أتقيه إذا لقيته، ولا أستجيب لدعائه إذا دعاني إلا كارهة، ولا أطمئن إلى ما كان يظهر لي من مودة وعطف وحنان‘‘ وتقول “نبيهة” عن العم ’’رغم أنه عمي ويدعوني بابنته .. كل هذا كان يخيفني وما كنت استطيع أن أثق في كلماته لحظة، وما كانت شخصيته توحي إليَّ بأي لون من الاطمئنان‘‘،أما عن شخصيتي حسين بك حكمدار المديرية والأستاذ كامل المحامي في “عذراء أسيوط”، وشخصيتي مأمور المركز والمهندس في “دعاء الكروان”، فقد تلبَّسوا سمات بعضهم البعض رغم اختلاف ظروفهم الاجتماعية، فأخذ المهندس من حكمدار المديرية في “عذراء أسيوط” عبثه ومجونه وعلاقاته النسائية المتعددة، وأخذ مأمور المركز في “دعاء الكروان” من الأستاذ كامل المحامي في “عذراء أسيوط” التزامه ووقاره، وأيضًا الشخصية الثانوية “نفيسة” القوادة في “عذراء أسيوط” نجد لها صدىً في “دعاء الكروان” متمثلًا في شخصية زنوبة القوادة السابقة، ومكونات أخر عديدة حاضرة في الروايتان سردًا ووصفًا منها “الجبل” ومنها “القطار” الذي تصفه آمنة في “دعاء الكروان” قائلة ’’ويمضي فيها هذا الشيء المروع المخيف الغريب الذي يبعث في الجو شررًا ونارًا، وصوتًا ضخمًا، وصفيرًا عاليًا نحيفًا، والذي يسمونه القطار‘‘، بينما تقول عنه نبيهة ’’وانستني همومي واحزاني احوال هذه المركبة العجيبة من سرعة فائقة إلى صفير يرتفع بين وقت وآخر يشق الفضاء إلى دخان ينبعث فجأة كثيفًا‘‘، أما ذروة الاستلهام فتبدو في مشهدي المكاشفة في الروايتين، حيث تسرُد “نبيهه” قصتها على الأستاذ كامل المحامي، وتعترف آمنه للمهندس بأسباب قدومها إلى بيته، فالمشهدان يحدثان في الظلام، غير أن الظلمة في “عذراء أسيوط” تكون حقيقية مادية ’’وهب كامل واقفا ثم أطفأ النور الأحمر الضئيل المنبعث من داخل الغرفة ثم عاد وجلس في ركن مظلم من الشرفة قائلا ’’ أرأيتِ ..؟ سأختفي هنا في الظلام .. فتشجعي وقصي الحقيقة عما قاسيته في أعوامك القصار من آلام وأحداث دون تحوير أو تنميق‘‘، وفي “دعاء الكروان” تكون الظلمة معنوية مُتخيَّلة ’’ ألم يأن لك أن تفصحي، ألم يأن لي أن أفهم، ألم يأن لهذه الظلمة أن تنجاب؟ قلت: أحريص أنت على ذلك؟ إني لأخشى إن انجابت عنَّا هذه الظلمة وغمرنا الضوء أن يكره كل واحد منا النظر في وجه صاحبه، وما أدري أطال الوقت الذي ألقيت فيه قصتي أم قصر، ولكني أعلم أني سمعتني أقول: أفهمت الآن؟ أترى إلى هذا الضوء الذي يغمرنا؟ أتستطيع أن تنظر إليَّ؟!‘‘.
والملفت هنا أمران، الأول هو حجم تأثر الأدباء والشعراء اليونانين بتواجدهم في مصر خاصةً في بيئتها الريفية وإخلاصهم في التعبير عنها عضبر كافة الصور الأدبية، مما يدل على مدى صدق كوزموبوليتنية المجتمع المصري في هذه الحقبة، فمصر لم تكن مجرد أرض اغتراب تؤوي من يفد إليها باحثًا عن لقمة العيش أوساعيًا إلى مستقبل أفضل بل تتحول بعمق ثقافتها وحضارتها إلى وطن ثان بكل ما تستدعيه الكلمة من روابط عاطفية وحث على الإبداع. والأمر الثاني يتعلق بتساؤلات تخص الروايتين، فرواية “عذراء أسيوط” ترجمت إلى العريبة في منتصف الخمسينات بعد ظهور “دعاء الكروان” ذائعة الصيت بأكثر من عشر سنوات، وعلى حياة عين “كوستا تساجاراداس” و”طه حسين”، فكيف لم يُلاحظ أحد النقاد، على كثرتهم، هذا التشابه بين الروايتين!؟، كيف يقرأ أديب بحجم “يحيى حقي” الروايتين ويفوته مجرد الإشارة إلى هذا التماثل بين مفراداتهما!؟، هل لم تننتشر “عذراء أسيوط” وتُقرأ بصورة كافية!؟، أم أن هذا التشابه قد لوحظ بالفعل ولكن سطوة طه حسين الأدبية وخشية استعدائه حالت دون التعليق عليه!؟، أم أن هذا التشابه غير موجود بالأساس سوى في تصور كاتب هذا المقال!؟، للإجابة على هذه التساؤلات ،خاصة الأخير منها، عليك أن تقرأ الروايتين وتحكم، أو ،كما كان يُرجَّع كروان “طه حسين” في فضاءه العريض، والحكم لك ..لك .. لك.