جامع البـِـنــَـس

موقع الكتابة الثقافي writers 47
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد ثروت

تحوم عيناه بِرَويةٍ حول دائرةً وهميةً، تتسع و تضيق، حيث يبحث، فهنا بِنَس الشعر-تلك الأعواد الحادة المتعرجة-،

 لا تستمر طويلاً في شعر الأنثى التي أمامك أو التي تدور حولها، بل تسكن الدائرة المحيطة بقدميها، هو قانون أنثوي، هذا عُرف البِنَس.

 ينساب ناظراه في البقعة الوهمية بهدوء و ثبات، الخط الأسود المتعرج صغير، لكنه بثقة ينحني نحو هدفه المحدد، فيلتقط البِنْسة الساكنة، ثم يفركها بإصبعيه من التراب، يضعها في جيبه. ثم يكمل مساره.

أول دخوله المنزل يتجه لغرفته نحو المكتب الصدئ، يفتح الدُرج العلوي بصعوبة، فالمسار الذي تنزلق فوقه قاعدتي الدرج مهشم من المنتصف، ثم يرمي حصاد يومه من بِنَس طويلة أو قصيرة، متعرجة أو حادة بانحناءة واحدة، غليظة كأداة صانع أو رفيعة كإبرة، يُبدّل ملابسه بشورت قطني وفانلة بالية، ثم يجلس أمام مكتبه يفتح الأدراج الجانبية واضعاً كل بِنسة شعر جوار شبيهاتها، أو مانحاً البِنسة المختلفة مكاناً مميزاً تنتظر فيه رفيقاتها القادمات حتماً.

*

بينما كان مستمراً في تنظيف وتصنيف بِنَسه العديدة، قاطعه صوت الموبايل مُظهراً اسماً جديداً على الذاكرة، امتازت بجسد ملفوف لدن شجّعه على منحها رقمه إن احتاجته في “أي موعد”، وضغطت نبرته على كلمة “موعد”.

بدأت الحديث بصوت غانج متسائل عن احتمال ذهابه للعمل اليوم التالي، هو أيضاً كان يتكلم بنعومة مماثلة متغزلاً في رقتها وذوق ملابسها الباعث للانتعاش. مكالمتهما الأولى ما هي إلا خطوة راسخة تُثّبت علاقة يحتاجها الطرفان، فهو وحيد تماماً رغم وفرة أصحابه و زملائه، وهي امرأة بطفلين لا يستوعبان من الحياة غير طعامهما وألعابهما الصغيرة الشائعة، أنجبتهما من زوج مرتحل يجوب البلاد باحثاً عن رزق جديد أو مسار يغير الحياة للأفضل. بينما كانت تشعر دوماً ببرودة فراشها، كانت تحس أن صقيعاً يحيط أعضاءها، كان هو يحلم بعلاقة ثابتة تؤكد له صدق وجوده.

أجابها بصوت دافئ وعيناه تسرحان في جسدها ممدداً جواره:

– مفاجأة مبهجة..

– محتاجة أسأل عن شوية تفاصيل..

– عيوني..

– مش هعرف اشرح لك في الموبايل.. أشوفك.

التقت جفونه معتصرة عيناه وهو يضغط أسنانه ببعضها مفارقاً الجسد الشمعي الممدد، منزعجاً من خياله فتح عينيه

وقبض مجموعة من البِنَس، ثم ضغطها بين كفيه قائماً فجأة، اعتصر المعدن الحاد حتى آلم كفه، وقرر أن لا يجيب اتصالاتها بعد ذلك أبداً.

*

حين تسرب لأنفها رائحة عطره الهادئ انتفضت بوضوح، لامته على خروجه من العمل مبكراً اليوم السابق، ولم يكن انزعاجها بسبب خروجه بلا إذن منها، فقد أعلمها باضطراره للرحيل مبكراً- أو بسبب عدم انجازه لعمل أُوكل له- فهو ينجز أعماله فوراً ولا يُبقي لها ذيولاً-، لكن سبب انزعاجها الرئيسي كان رحيله مبكراً وكسره لروتينهما اليومي الذي يشمل قبلة بطيئة واحتضاناً دافئاً في جنبات الغرفة المغلقة، ابتسم لعينيها فاكتفت ورضت تعويضاً حين وعدها بيوم كامل في”مغارته اللطيفة” سوياً، مال جذعه نحوها فجأة فارتعشت جزءاً من ثانية، ثم خاب أملها حين استمر ميله ليلتقط بنسة متربة سقطت من أسفل طرحتها الوردية.

*

كانت شقته أقرب لحانة عتيقة خَرِبة، تتناثر الأكواب و الأطباق الورقية و الكتب في كل ركن، تكوّنَ غلافٌ أسود فوق دهان السقف نتج عن كثافة الدخان، رغم ذلك كانت أدراج مكتبه منظّمة تماماً، يرى”مغارته اللطيفة” مثل عقله، محاصر بالنفايات لكنه ينتج في النهاية منتجاً نظيفاً مرتباً كأدراجه.

كل واحدة قضت وقتاً طويلاً أو قصيراً في شقته حاولت أن تعيدها سيرتها الأولى، كمكان يصلح لسكن آدمي و لمعارك آدمية مقبولة، وكان يرفض بسلاسة و إصرار. إحداهن حاولت مفاجأته أثناء نومه وبدأت تضع الأكواب وتجمع أعقاب السجائر في أكياس، لكنها فوجئت بغضب أنهى علاقتهما التي حسبَتها راسخة متجذرة، ارتباطهما الذي سعى له بصبر سنة كاملة. ولم يؤثر عليه تعدد محاولاتها، فقراراته دوماً لا رجعة فيها ولا إعادة تفكير، “هكذا يكون الرجال”، قالها لنفسه وابتسامة مهتزة تحاول الخروج من بين شفتيه .

لكن الأحوال تتبدل والقلوب تتقلب، والقلوب لا تتقلب بلا سبب أو هدف معلن أو سري. بدأ الوضع المزري يُفقده ملاذه الآمن مانح المتعة، “مغارته اللطيفة”، زحفت العناكب فوق الجدران والسرير، حتى أنه كان يلاعب صاحبته ويداه تنسابان بين شباك العناكب الأزلية، امتزجت روائح المشروبات مع القيء والعرق الناتج من معارك مبهجة، لكن كل هذا لم يؤثر في قراره؛ إلا لحظة انتباهه لرفضهن واحدة تلو الأخرى الذهاب معه “للمغارة” مرة أخرى، حتى أن إحداهن صارحته بأن السبب قذراة شقته التي تفوق الاحتمال، ماجعله يفكّر في حل سريع مُجدٍ، لكن بعيداً عن رفيقاته المؤقتات، هو لا يستطيع و لن يحاول أن يقوم بفعل هذا وحده قط، فكان قراره أن يحضر شخصاً متخصصاً في هذا النوع من الأعمال- تنظيف جثث الأماكن وإعادتها للحياة مرة أخرى-.

*

حبّات العنب الأحمر متناثرة فوق الطبق المسطّح، ينظر لها بعين نصف مفتوحة، ثم يغمض عينيه، وينظر مرة أخرى. يسحب أنفاساً قصيرة متقطعة من نهاية سيجارته، وهو يجمع الحبّات الحلوة بأصابعه ثم يُسقطها في الكوب الممتلئ ثلثه بسائل شفاف يفور مع سقوط كل حبّة. قضم قطعة من رغيف جاف ومضغه في روية، ثم أشعل سيجارة أخرى يدخل دخانها من فمه بطيئاً عميقاً ليخرج من أنفه مُرّاً حادّاً.

كانت تجلس مُربّعة ساقيها العاريتين أمامه، يفصلهما زجاجة وطبق وقطعة خبز جاف، شاغلاً نفسه-أو متظاهراً بالانشغال- بالشُرب و التدخين يتحاشى النظر ليعنيها، غير منتبه-كما بدا- لحديثها المستمر عن جسده الذي يُهلكه عن قصد، عن “مغارته” التي تشبه جسده، وعن هوايته الغريبة، اقتنائه الأعواد الحادة التي تُثّبت الشعر أو غطاء الرأس المنزلق.

تذكّر قصة صانع البِنَس، ذلك الرجل الذي اخترعها صدفة عند نجاح محاولته تثبيته شعر زوجته القصير بدبوس متعرج. دبوس متعرج من جهة ومستقيم من الأخرى وعقل يعمل، حققا لهذا الرجل ثروة مذهلة، فكّر أنهما بالتأكيد حققا له علاقات غزيرة بإناث صنع لهن بنساً بيديه، لكّن دبوساً متعرجاً بدون هذا العقل لن يزيد عن كونه دبوساً بائساً، لا يصلح لأداء وظيفته، ربما يصلح فقط لربط ورقتين ببعضهما.

*

في الأوقات التي كان يسكن فيها حابساً أنفاسه خلف “شيش البلكونة الأخضر المغبّر”، يراقب جارته المبتسمة دوماً، كانت هي تتبختر في غرفتها موقنة تماماً من مراقبته لها، تلّون شفتيها أو ترتدي قيمصاً مُلهباً يشعل رغباته، تتثنى وتؤجج روحه، فيهاتفها ويقضيان وقتاً حيث يطير كل منهما في سمائه حاضناً أحلامه، يتهامسان عبر موجات الهاتف، ثم يتوهجان. ولا تطول المكالمة اليومية، حين ينقطع استمرارها دوماً في نفس الموعد، الموعد الذي تعود فيه ذات العينين الواسعتين من حصتها الدراسية المسائية، بشعر فاحم ينتهي بذيل طويل لحصان متخيل، تجّر روحه من خلف الشيش، فينهي مكالمته الساخنة، و يتابعها مسحوبة روحه لحافة غير منظورة.

*

لم يكن تنفيذ القرار يسيراً مثلما تصوّر عند اتخاذه، فأقاربه قد انقطعت علاقته بهم جميعاً منذ أزمنة، أمّا أصحابه و محبيه فلا يحبذون التورط في إحضار سيدة لشخص مثله، حتى أنه طلبها عجوز لا أمل فيها، لكن ذلك لم يشفع له عندهم أيضاً، اكتشف بعد فترة أن الأوقع هو البحث عبر الشبكة، فالشبكة ميزة لا يستهان بها في هذا العصر، تقرب البعيد و تكشف الأعماق، وتغلب على عدم تناسب ظهور ذلك على صفحته الشخصية بانشاء صفحة جديدة باسم وهمي- كمعترض أصيل على سياسات الخصوصية-، كلها كانت محاولات ومناورات لم تبح بنتيجة، فظلت حالته معلقة بين الانتظار و اتخاذ القرار.

*

غبار وعفار بلا حد، وكتل لزجة تشّد قدميه فينهمك في اخراجها باذلاً عرقاً من كل فتحة في جسده، كان ذراعاه ممتدان للأمام، لكن الغيمة اتسعت حتى حجبت الرؤية، ثم برز متهادياً من وسطها جسد أسمر ضئيل كعظام كُسيت جلداً منكمشاً، و القمر قد هدأت لمعته و امتصت الغيمة ضياءه، لكن الأسمر اتجه نحوه متمهلاً، مخترقاً رذاذاً كثيفاً توغل حول عقله، فانتشى و قبض ذراع الضئيل متوسلاً.

راحت عينا الجسد الفارغتين نحو بقايا الخبز وعظام الدجاج وبين الكمية الهائلة من الأكواب الورقية و التراب، لم يلتفت للملاءة المثقوبة كمصفاة بفعل “طفية السجائر”، استقبله متأففاً منتَزَعاً من نومه، فبدأ الأسمر الضئيل فوراً يجمع البقايا و يكنس التراب بينما هو مستند لجدار الردهة، يغالب نعاسه ويحاول إراحة أعضائه المستهلكة، لكن الجسد كان يطلب منه أن يحضر له كيساً ضخماً من الردهة أو يناوله أداة من أدواته. بعد قيام وجلوس وإحضار أدوات و إستخراج أكياس من “مغارته”، قرر الوقوف طويلاً تحت ماء ملتهب و ابتلاع قهوة مزدوجة ليستفيق وينتهي من تبعات القرار المزعج.

 كانت “طفلة الثانوي” هي أكبر الأسباب تاثيراً عليه لاتخاذ القرار الذي أرهقه، استمر في هوايته المختلفة وجمع بِنَساً متابينة، لكن امرأة أو فتاة لم تدخل بيته طوال فترة البحث و الاستكشاف، فألحت عليه فكرة تسريع العمل لانهاء هذا الارتباك في نظام حياته، حينها انهمك في مساعدة الأسمر ليقصّر الوقت.

 شربا القهوة سوياً وتبادلا السجائر والحكايات القصيرة، حتى أنهما تناولا نفس الطعام و ستراحا متجاورين على سريره، ناظرين للأعلى البعيد كلٌ منهما يرجو انتهاء المهمة سريعاً، تختلف أسبابهما وتتحد أهدافهما فامتزجا في تناغم قصّر الوقت تماماً. لم يكن قلقاً من استيلاء الجسد الأسمر على أي شيء، فهو لا يملك شيئاً ذا قيمة في شقته.

 غاب عنه لزمن لم يستوعبه، وعاد يدندن بموسيقى فرحة، اتسعت ابتسامته حين وجد أكياس القمامة قد اختفت من أمام باب شقته، لقد انتهى الضئيل من رميها بالخارج. لحظة دخوله الشقة انقبض قلبه وارتجفت روحه للحظة، لم يُنبه الضئيل الأسمر لقدسية مكتبه وبِنَسه الحميمة، تلك زلة يجب أن ينتبه لها سريعاً، فاتجه كطلقات سلاح متتابعة لغرفته، ليجد الجسد المتداخل في غبار الغيمة متسمراً أمام مكتبه المفتوح الأدراج، تقدم نحوه بخطى سريعة، ينظر للأدراج الفارغة و يسأل بلسان ثقيل “وديتها فين؟”، فيشير الآخر بإصبعه مبتسماً نحو الفراغ.

…..

أكتوبر  2018

مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

ثقوب