كل شيء هادئ في القاهرة

موقع الكتابة الثقافي writers 39
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد صلاح العزب

لو ورد سؤال إجباري عن أمي في امتحان نهاية حياتي، سأجيب عنه بارتياح وسأحصل فيه على الدرجة النهائية.

يمكنني أن ألخص أمي في 3 أشياء: لن تخبر أحدا أبدا أنها غاضبة، ولم ترض يوما عن زواجها بأبي، ومازالت أمي تشعر أنها صغيرة، رغم أنها لو ظلت موظفة بالحكومة التي تركتها بعد شهرين فقط من العمل لأجل الزواج لكانت حاليا محالة إلى المعاش منذ أعوام.

تقول دائما إن قطار العمر توقف بها عند سن الثامنة عشرة، ثم انطلق تاركا إياها في هذه المحطة، تكبر كل الأشياء من حولها، أوراق التقويم، وأعمار الجدران والأثاث والأجهزة الكهربائية، والحمل الثقيل، ونحن أولادها الأربعة، وأبي، حتى ملامحها في المرآة، ووزنها في الميزان “الديجيتال” الذي أهديته لها في أحد أعياد الأم، لكن تظل روحها كما هي بنت 18 عاما، لذلك لم تشعرنا للحظة أنها أم، هي أخت كبرى، ثم صديقة، ثم أخت صغرى أو ابنة حين كبرنا، يجب علينا محايلتها والعناية بها وبمشاعرها التي لم تكبر أبدا.

أمي جزيرة أمان في هذا العالم، كانت تنهرنا صغارا حين نرشف بقايا القهوة في فنجان أبي، وتخبرنا أن القهوة تحرق الدم، وتسهب في وصف “الأنيميا” ومخاطرها علميا، وتفخر بحفظها لكل فوائد الفواكه والخضروات وكأنها “جوجل” مبكر قبل اختراع محركات البحث، فالخيار يقوي المفاصل ويجعل البشرة مشرقة، والكوسة غنية بعنصر النحاس، والرمان يحافظ على المعدة وينظم ضربات القلب، والفراولة والجوافة والبرتقال غنية بفيتامين سي.

ضربتني أمي عدة مرات وأنا صغير، لكنها تنكر، وتقول إنها لم تضربني سوى مرة واحدة، حين عدت لها وأنا في الثالث الإعدادي برائحة سجائر قوية تفوح من فمي وملابسي، خلعت أمي سلك الكهرباء الخاص بالمسجل الجديد الذي اشتراه أبي من السعودية وهو عائد من موسم الحج، وظلت تضربني بشكل متواصل غير مبالية ببكائي وصراخي، تفخر طوال الوقت بهذه العلقة، وترى أنها السبب في كوني غير مدخن وهو ما يقيني بالضرورة من سرطان الرئة الذي توفي به أبوها بسبب شراهته في التدخين.

لم تعلم أمي أبدا أنني أدخن، وأن كل ما فعلته “العلقة” هو أنني تجاوزت الخامسة والثلاثين ومازلت في كل مرة حين أحضنها أرتعب من أن تشم مني رائحة سجائر.

بيت جدتي لأمي هو الجنة التي دخلتها طفلا وخرجت منها مراهقا حين رغبت في رجولة مبكرة تخيلت أنني لن أحصل عليها إلا بالانفصال عن كل الأحضان التي كانت تهدهدني، وتفرش لي العالم اهتماما.

تمر الأيام لتُعمِّق اجتثاثي من تربة عائلتي، فأخوالي وخالاتي الستة لم أر أحدا منهم منذ سنوات طويلة، لدرجة أنني لو قابلت أحدهم في الشارع صدفة فربما لا أعرفه.

ويظل بيت جدتي في خيالي الطفل حلما مر ولم أتمسك به. تجلسني جدتي أمامها للمرة الألف ربما، لتعدد لي مميزاتي كما تراها، وهي تلمس وجهي بأناملها الطيبة:

– أول شيء، هذا شعرك الناعم، وعيناك البنيتان، وخدودك “المكلبظة”، ولديك غمازتان حين تضحك، وضحكتك حلوة، وأسنانك مرتبة كأنها عساكر جيش، ولديك طابع حسن جميل يمكن أن يغنوا فيه الأغاني.

تصيح فيها أمي بأنني ولد، وأن المهم الأخلاق والتربية، وليس جمال الشكل، فتقول لها جدتي:

– قال مالك متربي؟.. قال من عند من ربي.

حين أكبر سأعرف أنهما كانتا تخدعانني، فأول شيء شعري ليس ناعما، وأسناني مرتبكة كحياتي، ولا أملك غمازات، وقليلا ما تضحكني الدنيا، أما عن الأخلاق، فهي أسوأ ما يمكن أن يواجه به شخص العالم بكل من فيه من عديمي التربية الذين نقابلهم يوميا.

…………

*مقطع من رواية “كل شيء هادئ بالقاهرة”، تصدر قريباً عن الدار المصرية اللبنانية

مقالات من نفس القسم