بُشْرَى

موقع الكتابة الثقافي art 69
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد صابر

(الوقت هو السارق الاعظم، يسرق من اعمارنا مع مرور كل ثانية بكل دقيقة، ونحن لا ندرى الى متى تستمر هذه المسرحية الهزلية المدعاة بالحياة؟)

كان الوقت فجرًا حينما وصل المولود الجديد، ولان الشتاء كان مهيمنًا على ارجاء حارة برقوق المتفرعة من درب سعادة بمنطقة باب الخلق فقد سمع ساكنيها صوت بكائه ورددوا جميعًا (بشرة خير) فكان اسمه بُشْرَى

أمهُ هى سنية بائعة الجرجير وابوه حسن لنكش نزيل سجن ابوزعبل ومازال امامه خمسة عشر عامًا ليخرج منه.

مرت الايام سريعا فانتقل من حجر امه الى اللعب امام الفرشة ثم اللعب بالساحة مع اقرانه من اطفال الحارة، ذات يوم نهره ابن المعلم سيد صاحب الفرن البلدى وصمم ان لا يناديه الا بابن الساقطة، فما كان منه الا ان تناول حجرًا من الارض فبطح به ابن المعلم سيد، فهرع الطفل لابيه “سايح فى دمه”، فاستثار الاب لابنه وذهب مغاضبًا لام بُشْرَى وقام بضربها والقاء بضاعتها على الارض امام اهل الحارة الكرام الذين لم يتدخل احدهم للدفاع عن المراة المسكينة واكتفوا بلم الجرجير من الارض بعد أن غادر المعلم. 

الثار كلمة لم يكن يفقهها الصغير بعد لكنه خطط لها، فى نفس الليلة انتظر حتى نامت أمه ثم اطمئن أن لا أحداً يراه يخرج من العشة الصفيح التى هى مسكنهم ومصدر رزق امه، توجه ناحية الفرن البلدى حاملًا بجيبه أعواد ثقاب وقطعة قماش، وصل للفرن ودار حوله مرتان ليطمئن ثم قفز الى نافذة حمام العمال والتى ساعده حجمه الصغير على الولوج من خلالها، ثم راح يبحث عن تانك المازوت المستخدم فى اشعال الفرن، فتح غطاء التانك واشعل النار بقطعة القماش ثم وضعها داخل التانك ولكنها انطفئت، فظل يحاول أن يشعل النار ولكن دون فائدة حين أحس بأحدهم يمسك به من كتفه ويحمله ويجرى بعيدًا.

كان ذلك رضا الدكش صديق أبيه، هجام هى وظيفته، وكان مارا أمام الفرن حين سمع همس أنفاس لا يسمعه إلا أصحاب مهنته فاعتقد ان هناك احدهم يسرق الفرن، عنفه رضا ورفض ان ياخذ حقه بهذه الطريقة التى ليس بها رحمة بالناس، فاخذه معه الى بيته واعطاه هدية زجاجة مولوتوف بعد ان علمه طريقة صنعها، واشار اليه بالنصيحة 

ـ ولع فى المعلم بس الفرن ده بتاع الغلابة 

فى اليوم التالى نفذ خطته الموضوعة بنجاح، فدخل المعلم مستشفى القصر العينى ودخل بُشْرَى الاحداث. 

خمس سنوات فى الاحداث كانت كفيلة بتقوية عوده وتحديد ملامحه، يشبه اباه وله عيون امه التى توفت بعد حبسه بعامين، كان فى انتظاره لدى الباب رضا الدكش ومعه شخص اخر، لم يوله اهتمام فلم يكن يعرفه، حتى قال له رضا 

سلم على ابوك يا بُشْرَى 

لم يتردد فى سبه لحظة، وقد هم ان يضربه لولا تدخل رضا الدكش 

ـ هتضرب ابوك يا ابن المجنونة

فبصق على الارض وتركهم ورحل بعد نظرة استنكار القاها عليهم.

كان صديقه وزميل الاحداث سعيد يعيش بحارة بمنطقة باب الشعرية يعمل فى صناعة الاحذية، فلجا اليه ليبيت ليلته وليبحث عن عمل شريف، قابله سعيد بكل الترحاب، وحلف ثلاثة الاف يمين طلاق بان هذا هواسعد ايام حياته وانه لن يتركه يرحل ابدا، فى الفجر اتى ابوسعيد للمنزل مخمورًا، واستشاط غضبه عندما راى بُشْرَى نائمًا وتشاجر مع سعيد وطردهما.

فى الصباح  اخذه سعيد من يده وسلمه لرضا الدكش وسعيد لنكش، كان اللقاء اقل حدية، وبالرغم من انه القى باللوم كله على ابيه وحمله المسئولية الا انه بكى بكاءً حارًا على امه المسكينة، فاحتضنه اباه وبكى معه. 

ومرت الايام بسرعة كعادتها، واصبح رجلًا تهابه الناس وتخاف منه، تاجر فى كل شيء غير مشروع، لم يقبل عرض ابيه لتعليمه السرقة، ولكنه قبل عرض الدكش لتعليمه الحركات البهلوانية التى اصبح متمكنًا منها ويستخدمها فى الهروب من الشرطة اوفى معارك فرض السيطرة على زملاء المهنة.

ذاع صيته بين الناس وعرفوا عنه القلب الميت وعدم الخوف، ووصلت اخباره لنادر بيك رئيس المباحث الجديد بقسم الدرب الاحمر.

كان بُشْرَى يقف على ناصية الحارة يدخن سيجارة، حين وقفت امامه سيارة ميكروباص فجاة ونزل منها رجال المباحث يهرولون ناحيته، ما ان راهم الا وركض مسرعا ناحية شارع بورسعيد، فوجد سيارة اخرى تسد عليه الطريق، حاول ان يعود ادراجه فراهم قادمون نحوه، فلمح طرف حبل يتدلى من سطح بناية من ثلاث طوابق، فقفز وتشبث وتسلق الحبل الذى كان بنهايته حذاء نادر بيك رئيس المباحث ويده الممدودة.

مد بُشرى يده اليه وارتسمت على وجهه ابتسامة عندما احس انه وقع فى الفخ المرسوم بحرفية من نادر بيك، جلس على الارض يلهث من الركض، فجلس بجواره نادر بيك واخرج علبة سجائره واعطاه منها واحدة ثم اخرى لنفسه.

  • انت عايز منى ايه يا باشا
  • انا عايزك تشتغل معايا
  • ماليش فى السكة دى وانتم عارفين
  • مين انتم 
  • انتم ياباشا الداخلية 
  • ومين قالك انى عايزك تشتغل مع الداخلية
  • امال عايزنى فى ايه لامؤخذة
  • بكرة هتعرف لما تجيلى عند الصخرة الواقعة فى الدويقة الساعة ٨ بالليل 

ثم نهض وغادر، بعد ان تاكد بُشْرَى انه لا سبيل للمراوغة مع شخص مثله.

القى بُشْرَى بالسيجارة العاشرة تحت قدمه  وهوينتظر نادر بيك كما امره باليوم التالى، ولكنه لم ياتى فقرر الرحيل، حينها برز امامه ثلاثة رجال ملثمين من خلف الصخرة، فتاهب للقتال فجاء من خلفه الرابع وضربه على مؤخرة راسه فهوى ارضًا فحملوه وذهبوا.

افاق بشرى فى ظلام دامس، راسه ثقيلة يشعر بالدوار، انتظر قليلًا قبل ان يتحرك لتعتاد عينيه على ظلمة المكان، تدريجيًا بدات الصورة تكتمل، وجد نفسه ببهوكبير لڤيلا ضخمة وامامه جثة لرجل يبدومن ملابسه انه صاحب الڤيلا ومسدس، لم يكن لديه الوقت الكافى للذهول، فقد فعلها نادر بيك، لحظات وكانت الشرطة تحاصر الڤيلا والوحدات الخاصة تقتحمها.

خلال ايام انتشرت القصة بالجرائد، وتناولها الاعلاميون ببرامجهم (مسجل خطر يقتل رجل اعمال بعد ان هجم على مسكنه بغرض السرقة) 

واصبح الراي العام يطالب باعدام هذا القاتل المجرم، وهذا ما طلبته النيابة بمرافعتها امام المحكمة ايضًا.

تم نقل بشرى لسجن الاستئناف الواقع بدرب سعادة بمنطقة باب الخلق بعد النطق بالحكم واحالة اوراقه للمفتى، ظل هناك يموت كل ليلة فى انتظار تنفيذ الحكم، زاره اباه ورضا الدكش ولم يتحدث منهم احد فقط تبادلا النظرات والعبرات.

بعد عامين من الانتظار، ومعاينة عشماوى للطول والوزن -من خلف نضارة الباب الحديد- لضمان موت سريع ونظيف تقرر تنفيذ الحكم فجر الاثنين الرابع والعشرين من يناير لعام الفين واحدى عشر، وبالرغم من ان السجن على بعد خطوات من حارة برقوق الا ان اهل الحارة لم يسمعون له صوتًا، فقد كانوا جميعًا مشغولون بصراخ اخر، صراخ لمولود جديد حينما سمعوه رددوا جميعًا (بشرة خير).

مقالات من نفس القسم