إسلام عشري
إلى ليديا ديفيس
ما حدث لجلب كل هذا:
“أسامة محمد”
“أنا يا أستاذ” ناظرا إليه يتفحصه.
“ما حدث لذراعك؟” يسأله في خوف مبرر, مشيرا إلى الجبيرة التي تكسو ذراعه.
“لا أبدا يا أستاذ.. انزلقت وأنا أستحم.”
استكمل المدرس “ولكن في غيابك الأسبوع الماضي, عُقد امتحان الشهر وأنت لم تحضر. و…”
فيقول المدرس ليفزعه “وجدتها” في لهجة من وجد لتوه سراً من أسرار الكون.
“أنت مطالب أمامي بعمل فرض عبارة عن موضوع تعبير عما جرى بأسبوعك الماضي ومطالب بسرده أمام كل الفصل” قال الجملة السابقة وهو يشير في كل كلمة لصدر أسامة بإصبعه, السبابة كأنها القلم الرصاص.
أسامة بنبرة فزع “أرجوك يا سيدي… اطلب مني أى شيء إلا هذا الفرض”
المدرس بسخرية لاذعة “لا يا أسامة.. هذا الفرض ضروري وإلزامي عليك”
نظر إلى الجبيرة وبعدها نظر لأستاذه فكيف يمسك قلماً ويده المكْسوة بالجبس, هي نفسها المعنية بأمر الكتابة.
يتنفس أسامة كتنين عجوز أتعبه لهيب النار ويستلم لفرضه.
موضوع التعبير المنجز:
“مر أجمل أسبوع في حياتي, لدرجة تمنيت معه المرض من جديد, راحة من الدراسة. أسبوع جميل.. محاط بالأهل والأصدقاء, ومغرق بالهدايا, التي تتمنى لي الشفاء العاجل, أبي يحتضني تحت كتفه. أمي تغمرني بالقبلات..” وبلا بلا بلا
القصة التي كتبها قبل الحادث:
رسائل إلى أبي العائد
الرسالة الأولى:
أبى العزيز
توحشتني رؤيتك. لقد اتأخرت كثيراً هذه المرة. أريدك أن تعرف أني دخلت جماعة الخطابة والشعر وكتبت جزءا صغيرا من أبيات شعرية ولكن المُعلمة لطمتني بالقلم وقالت لي أن ما كتبته يُعد عيباً. اقرأ وقل لي رأيك يا بابا.
************
الرسالة الثانية :
أبى العزيز
تركت جَمْاعة الشعر وانضممت لجماعة الموسيقى, ونويت على الاستمرار فيها. يبدو أن معلمتها طيبة, على عكس سابقتها. اليوم تعلمت السلم الموسيقي ودربتني على آلة تدعى “الإكسيليفون”. تصدر صوتا مزعجاً لكني تعودت عليه. ولعبنا لعبة تسمى الكراسي الموسيقية. ناس على قدر من التفاهة يتنافسون على مجموعة من الكراسي الفارغة, لم أفهم هذه اللعبة قط. كفاني حديثا عن نفسي. ما يهمني أن تكن أنت بخير, صحبتك السلامة يا أبي العزيز.
***********
الرسالة الثالثة:
والدي العزيز
تركت جماعة الموسيقى وتوجهت لجماعة المسرح ولكن معلمة الموسيقى أتت إلى مسرح المدرسة وظلت تصرخ في وجهي مراراً “أتركت الموسيقى من أجل المسرح!”
“لتجعل المسرح ينفعك!”
ما ظنك بي يا أبي؟..
************
الرسالة الرابعة:
أبى العزيز
لقد طال غيابك بالفعل. أبي: المسرح جميل حقاً والمسرحية خاصتنا عن جزيرة تحت الماء. ولي بها دور مهم. لكن كلما حفظت السطور خاصتي أنساها وحدث في آخر المسرحية أن البنت التي بجواري, كان يفترض بي أن أمسك يدها ولكن ملأني الحرج وامتنعت عن ذلك فأمسكت هى يدي وضغطت عليها. بعدها قطب المخرج جبينه وزعق وتعصب ولعن اليوم الذى أتيت فيه جماعة المسرح.
فلتأتْ يا أبي… حتى تبرحه ضربا.
الورقة الملاقة في سلة المهملات التي لم تصلها غير يدي مع القصة السابقة ورسائل مكورة:
يسقط على الأرض… يستند جسده على يديه القائمتين بزاوية حادة على الأرض. يزيح أحدهم بقدمه إحدى يديه المستندة فيختل توازنه فيسقط ليقابل الأرض من جديد. ويظل ملاصقاً للأرض لا يفصله عنها غير بضع ثوانٍ بالوقت الذي يعلو ويهبط فيه صدره. سبق ذلك الموقف اصطدام كتفه به في ممر المبنى المخصص للفصول. وتوعده بانتظاره, وقد صدق في وعيده. يزحف كأن سماً زعافا سرى في جسده للتو. يقوم من الأرض بعد عدة محاولات فاشلة مستنداً فيها على يد واحدة. وثيابه تقطر بالماء المالح كأنه خرج من البحر لتوه. يذهب إلى حقيبته في خمس دقائق كاملة. يستغرق دهراً حتى يفتح الحقيبة ويستخرج زِي الألعاب خاصته منها يمسك بزي الألعاب كما يمسك ساحر بأرنب مرتعد سيرى جمهور الصالة لأول مرة. يجلس على قائمتيه كولد يجلس في وضعية ملائمة للنونية ثم يذهب لأحد جوانب الحمام الرخامية ويرتكن عليه بيده المكسورة. يتذكره الألم فيصدر صرخة مكتومة تداعت بعد لحظات في الحمام الفارغ. يتحامل على نفسه ويرفع ركبته في مستوى واحد مع بطنه ويضع قدماً ب”شورت” الألعاب الأصفر.
لعن نفسه لأنه لم يكن اليوم المناسب لاختيار اللون الأصفر. أمامه خمس دقائق فقط لمغادرة الحمام إلى البيت قبل أن تظهر فضيحته للعلن بالمدرسة.
تذكر قبل أن يخرج بأن يفرغ ما في جوفه بحوض على مقربة منه وكأن شوكة سمك علقت فجأة بحلقه.
نظر للحمام وأشفق على عاملة النظافة التي ستدخل الحمام من بعده لتنضف هذه الفوضى.
الخوف الذي انتابه من أن يراه أحدهم في الحمام قد انتهى ولكنه ترك أثره على ملامحه المضطربة وأما بطنه فقد تصلبت اضطرارياً كأنها طبلة مشدودة حتى لا يلتصق ال”شورت” ببنطاله.
بدت ملابسه أقرب لملابس مهرج ولكن تحمل النظرات السخيفة بصدر رحب ممن بقي في المدرسة يلعب بعلب “الكانز ” المضغوطة على نفسها.
يجرى في الشارع, يسابق العربات للوصول لبيته. يصل في سرعة توازي سرعة لص. يفتح الباب بمفتاحه الخاص. لا يلقي سلاما ولا ينتظر كلاما.
يدخل الحمام, يركن شبشبه صفاً ثانياً أمام مغطس الاستحمام. يستغرق عشرة دقائق في خلع ملابسه بيد واحدة.
بدا وقتها كأحد مهرجي السيرك. يقوم بأوضاع جديدة لم يعهدها من قبل جسده الضئيل.
ويشعر بالراحة لوهلة في تعريه. ويتذكر أنه نسي أن يأخذ ملابساً نظيفة من غرفته قبل أن يدخل.
يضرب كفاً على وجهه لاعناً نفسه على تسرعه. ينادى على أمه “ماما… ماما” ينادي عدة مرات حتى يسمع “نعم” ضعيفة من الخارج.
“نسيت الملابس… اجلبي لي غيارا جديدا من الأدراج”
تبتسم الأم في خباثة اعتقادا منها بأن ابنها قد كبر.
تغيب الأم للحظات بعدها تأتي له بما طلبه. يفتح الباب موارباً بزاوية ضئيلة. يمد يده السليمة ليأخذ الكنزة. يلبس في ثلث ساعة, يفصل كل دقيقة منها تأوه خافت.
يتذكر الألم يده المكسورة, يتذكر هو يده المكسورة.
يصرخ صرخة ليست بواهية هذه المرة. ولكنها تُسمع كل من في البيت.
وبعدها يخرج بدقيقة ويقول لوالدته الفزعة.
“لقد انزلقت وأنا أستحم”
عودة للحادث:
يقفز الأستاذ من مقعده ويقول “أحسنت…. تسعة على عشرة” لم يلحظ أحد بفصل سعته سبعين رأسا أن أسامة أشاح وجهه عن الجميع, الذين غرقوا في دوامة من التصفيق الحاد.
…………………
*من المجموعة القصصية “قصص عن فن المبالغة” الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة