تبدأ ذكرياتى مع الدقيقة 90 عندما كنت صبيا فى الثالثة عشر من عمرى, كنت حينها أنام مبكرا وأستيقظ فجرا لألحق بأتوبيس المدرسة ورحلته الطويلة بين شوارع الهرم وفيصل وبيوتهما المتكدسة. فى ليلة بالقرب من نهاية العام الدراسى, كانت مباراة نهائى بطولة دورى أبطال أوروبا بين فريقى المفضل بايرن ميونيخ والإنجليزى العريق مانشستر يونايتد, كنت أحب ميونيخ امتدادا لحبى لكل ما هو ألمانى, كانت تبهرنى جديتهم وإتقانهم لأعمالهم وعمليتهم المفرطة,
ربما هو حنين لذلك النموذج المغاير تماما لما نحياه, عندما أكبر سأغير بعضا من رأيي, سأظل محتفظا بهذا التبجيل لتلك القيم الألمانية, ولكنى سأفضل عشوائية اللاتينيين, حبهم للحياة, عبثيتهم, ألوانهم المبهرجة, موسيقاهم, روايتهم, وأصواتهم العالية. أذكر أننى تصفحت الجرائد فى صبيحة ذلك اليوم, كانت تلك عادتى حينها, قبل أن نشترى الكمبيوتر وقبل أن يدخل الموبايل إلى مصر, وقبل أن أصبح مدمنا للفيسبوك والتواصل الاجتماعى المزيف, كانت صورة لوثار ماتيوس تتصدر الصفحة الأخيرة لجريدة الحياة اللندنية التى واظب أبى على شرائها منذ طفولتى وحتى توقف صدور نسختها الورقية, لم أكن أجد ما أتحمس لقراءته فى تلك الجريدة, المقالات طويلة ومعقدة وقليلة الصور, لا توجد أخبار مثيرة أو فضائح فنية, جريدة مملة لمراهق فى ذلك العمر. كنت أكتفى بقراءة صفحة الرياضة، كان يكتب لها علاء صادق قبل أن تقذف به السياسة بعيدا, وتلك الصفحة الأخيرة التى تصدرتها صورة ماتيوس, قصصت الصورة ووضعتها بجوار صورة شارون ستون التى اقتطفتها من العدد السابق للجريدة نفسها, وظللت منشغلا بالتفكير فى المباراة أثناء مذاكرتى للفرنسية والجغرافيا على مدار اليوم. إلا أنه مع بداية المباراة شرع النعاس فى مغالبتى, كان الفريق الألمانى متقدما منذ بدايات المباراة التى بدت وكأنها محسومة للماكينات بقيادة ماتيوس, الذى حمل كأس العالم قبلها بعشرة أعوام, كان يقف كحائط سد لا يُخترق رغم سنينه الأربعين, فاتجهت مطمئنا إلى سريرى, وأكملت المباراة بأحلامى وكللت الفريق البافارى بالنصر, إلا أننى لمحت والدى فى لحظة ما بين الصحو والنوم, فسألته مغمغما عن النتيجة, قال لى أن مانشستر أحرز هدفين فى الدقيقتين 90 و 92, ظننت أن الأحلام اختلطت ببعضها البعض, استحال الحلم كابوسا, إلا أننى فى صباح اليوم التالى أدركت أن الأمر لم يكن مجرد كابوس.
انتشرت مؤخرا صورة شهيرة على مواقع التواصل الاجتماعى لأحد الجدران بإيطاليا مكتوب عليه بخط عاشق متيم ” أنت جميلة كهدف فى الدقيقة 90 “. تصورت أنه ربما كتبها الشاب الإيطالى لحبيبته بعد مباراة ألمانيا وإيطاليا فى نصف نهائى كأس العالم 2006 عندما أحرز منتخب بلاده هدفين فى الدقيقتين الأخيرتين من الوقت الإضافى, حينها بالتأكيد شعر ببهجة أهداف الدقائق الأخيرة, ولكن يبدو أنه كان غافلا عما فعله الفرنسى ويلتورد, قبلها بستة أعوام فى نهائى بطولة أوروبا عندما تعادل لبلاده فى الدقيقة 93 أمام المنتخب الإيطالى ذاته قبل أن يضيف تريزيجيه هدف الفوز للفرنسيين فى الوقت الإضافى. كان تريزيجيه من أصول أرجنتينية, وويلتورد من اصول جواديبليه, إحدى مستعمرات فرنسا فى المحيط الكاريبى, كما ضم الفريق خمسة لاعبين آخرين من مستعمرات الكاريبى, ولاعب من غانا, وآخر من السنغال, وعاشر من أرمينيا, وواحد برتغالى- أسبانى, بالإضافة لنجمهم الأبرز زين الدين زيدان ذى الأصول الجزائرية.
صحيح أن هدف الدقيقة 90 لمصلحة فريقك هو درب من دروب النشوة, ولكن هدفا تتلقاه شباك فريقك فى الدقيقة ذاتها هو مأساة محققة وكابوس مزعج. فربما فى مناسبة أخرى, بعد خلاف أو شجار عنيف, يخرج العاشق الإيطالى ليكتب على جدار آخر فى شوارع روما ” أنت قبيحة وسخيفة كهدف فى الدقيقة 90″, قاصدا هدفا فى مرماه.
أنا أعرف جيدا ما قصده الشاب الإيطالى عندما كتب جملته تلك على الجدار, فقد اختبرت مشاعره ومررت بأحاسيسه ذاتها أنا أيضا, كثيرا ما شعرت بها أثناء تشجيعى للأهلى, وخصوصا مع عماد متعب, متخصص اللحظات الأخيرة, كما فعلها عماد نفسه ذات مرة مع المنتخب فى مباراتنا ضد الجزائر فى تصفيات كأس عالم 2010, ولكن تظل المرة الأشهر, الأهم, والأكثر نشوة محجوزة باسم أبو تريكه عندما ضرب بقدمه الأضعف, يسراه, الكرة مودعا إياها فى شباك الصفاقسى فى الدقيقة 92 من مباراة نهائى بطولة أبطال أفريقيا لعام 2006. قال المذيع قبلها بثوان معدودة أننا نلعب فى (الوقت الضائع), الأصل أن اسمه (الوقت بدل الضائع), ولكن بغرض التخفيف والتسهيل حذف المصريون الكلمة الوسطى, (بدل), وأصبحوا يرددون كلمة (الوقت الضائع), وهو للمفارقة مصطلح يدل على عكس المعنى المقصود تماما, ولكن ربما عَكَس هذا التحوير إدراكا شعبيا وحسا سائدا بأن الزمن لا يمكن استبداله أو تعويضه, وأن تلك الدقائق المضافة ما هى إلا المزيد والمزيد من الوقت الضائع.
رغم ما قد تلاحظه من اهتمامى بلعبة كرة القدم إلا أننى لم أجدها أبدا, كنت فاشلا فى ممارستها, ولكننى أحببتها على أى حال, وخصوصا فى طفولتى, وكان مهربى من الإحراج ومن عدم قدرتى على السيطرة على حركتها السريعة هو اللجوء للدفاع, حيث لا يتطلب الأمر مهارة كبيرة, أحيانا لا يتطلب إلا بعض المجازفة والتهور. ورغم أننا بالطبع لم نكن نلعب بخطط أو تكتيكات أو مراكز أو مهام محددة, إلا أننى قررت أن أتصرف وكأننى محترف ملتزم بمركزى الدفاعى دون اندفاع هجومى, أقف فى الخط الخلفى من الملعب منتظرا القادم من هجمات المنافس لإيقافها. ولأسباب إنسانية, خاصة بالود والمحبة, كان حاتم, أحرف تلميذ بمدرستنا, دائما ما يختارنى ضمن فريقه. كان فى مدرستنا لاعبان موهوبان, حاتم ومجدى, ولضمان قدر من الندية والمساواة والمنافسة, يختار كل منهما فريقا من باقى الفصل, والقواعد كالآتى, يقف الجميع أمامهما, حينها ينتقى حاتم لاعبا, ثم يختار مجدى آخر, وهكذا حتى نتوزع جميعا على الفريقين. كنت أشعر بتحرج شديد عندما أبقى ضمن الثلاثة أو أربعة طلبة الأخيرين بعدما تم انتقاء كل الموهوبين وأنصاف الموهوبين والأقوياء والعدائين, مبقين فقط علينا نحن لافتقارنا لأية مهارة مميزة, حتى ينتقينى حاتم لأسباب غير احترافية.
فى نهاية إحدى المباريات وبينما أقف وحيدا فى الخط الدفاعى متمسكا بدورى الإستراتيجى المُدعى, أتابع المباراة الدائرة فى النصف الآخر من الملعب كمتفرج عادى, قطع مجدى الكرة من فريقى بشكل مفاجئ وتقدم فى هجمة مرتدة كسرت الهدوء الذى أسكنه متقدما نحو مرمانا دون مطارد أو رقيب. لم يكن هناك سواى, وصوت يصرخ باسمى من بعيد مطالبا إياى بإيقاف الهجمة المرتدة, كان مجدى منطلقا فى سرعة كاسحة, وقادرا على عبورى بلمسة مهارية من قدمه, كنت موقنا من ذلك ومصرا على إيقافه, فاقتربت منه, ضبطت موقعى, وكقاطع طريق محترف وضعت قصبة ساقى فى طريقه مانعا إياه من العبور, بل قاذفا بجسده إلى آخر الملعب.
ليس هروبى إلى مركز المدافع تصرفا فريدا فى حياتى, ربما يكون معبرا عن أنماط عدة من تصرفاتى فى الحياة, تأجيل المواجهات لآخر لحظة ممكنة, فى آخر الملعب, وربما فى آخر دقيقة, حيث تكون المواجهة أصعب من أى وقت مضى.
ليس من السهل فى حياتنا العادية, خارج الملاعب والاستادات, وبعيدا عن الحكم الرابع ولوحته, أن نحدد الدقيقة التى نلعب بها بالضبط, الأمر يحتاج إلى حدس من نوع خاص, لا يتوفر للكثيرين, لا يتوفر لى على الأقل. فلربما تذهب لتحرز هدفا بعدما يكون الحكم قد أطلق صافرة النهاية وعاد إلى منزله لينام, وربما تبدأ اللعب قبل أن يسمح لك بذلك, لطالما فعلت هذا وذاك, كانت أبرز تلك المرات عندما ذهبت إلى زميلة الدراسة الجالسة فى الصف الأخير لأصارحها بمشاعرى, ولكنى فعلت ذلك بعدما تغير العالم وتبدلت الظروف وانتقلت الشمس لتطل على قبة الجامعة بدلا من إطلالها على منضدتها فى آخر الفصل. ربما يذكرك هذا ب(روس) فى مسلسل فريندز, أليس كذلك ؟ ليس سهلا أن تصيب الدقيقة 90 بدقة إلا إذا كنت ممن أوتوا تلك الموهبة الخاصة.
ليس غريبا إذن أن أكون من محبى منتخب الأرجنتين الذى طالما تلقى طعناته فى اللحظات الأخيرة, الدقيقة 86 أمام ألمانيا فى نهائى كأس العالم 1990 من ضربة جزاء ظالمة, وقف بعدها مارادونا باكيا كطفل صغير سرقوا منه لعبته المفضلة دون سبب, وبعدها فعلتها نيجيريا مع الأرجنتين فى نهائى أوليمبياد أتلانتا 1996 بواحد من أكثر الأهداف إثارة للجدل, ثم يأتى الهولندى بيركامب بعدها بعامين فى كأس العالم ليطيح بالأبيض والسماوى فى الدقيقة 90 من مباراتهما, وأخيرا – وربما لا يكون آخرا – الهدف الألمانى الوحيد بالمرمى الأرجنتينى فى الوقت الإضافى الثانى من مباراتيهما فى نهائى كأس العالم 2014.
عندما تكرر الأمر مع منتخبى مصر وتونس فى كأس العالم الحالى وتلقى كل منهما هدف الخسارة فى الدقيقة الأخيرة، مثلما حدث مع المغرب أيضا، استدعى الأمر إلى ذاكرتى ثورات الربيع العربى. نحن لا نجيد الحفاظ على انتصاراتنا، نغفل فى الدقائق الأخيرة، نتوه ونضل، يخذلنا الحظ وسوء التقدير، ونكرر أخطاءنا بحذافيرها، كما أن منافسينا أقوياء وأصحاب نفس طويل، ذوى فتوة وبأس، ينقضون علينا مرة بعد أخرى دون ملل أو تعب حتى يحظون بانتصار يطبق على صدورنا المنهكة من طول السعى وراء هدف يتأخر طويلا.
أذكر جيدًا ما كتبه أحدهم فى رواية تدعى ( رائحة مولانا ) قائلاً : ” أتعلم لماذا أنا سيد وكبير ولا يخرج أمر من بين يدى إلا بإذنى؟؟ لأننى أعلم متى بالضبط آخذ الخطوة, لا أتقدم لحظة ولا أتأخر لحظة, تلك هى الموهبة.. أن تضبط توقيتك. ألا تكون ذكيًا وألا تفهم بواطن الأمور, هذا قصور كبير, يبعدك بعيدًا جدا عن مصاف الكبار, يجعلك فى آخر الصفوف, إن كنت موجودا أصلا… ولكن ما يحدد قيمتك ما بين مصاف الكبار هو حسن التوقيت.”