يٌستهل السرد في “ألف جناح للعالم” بثلاث عبارات افتتاحية تشكل عتبة النص، فتؤطر الأحداث وتتخلل ثناياها: “الإجابات أسئلة متنكرة”، “لا تفقد شغفك”، “من أحب نجا”. في عالم خارج الزمان والمكان تحكمه أحدث التقنيات التكنولوجية تعيش الباحثة الجيولوجية “سيمويا” مع جدتها. تخرج “سيمويا” مع زميلها “دوفو” في رحلات استكشافية إلى الغريب والعجيب من المواقع في العالم، يحركها شغفها، وتتحول عبارتها “عندي شغف” تيمة أساسية في النص، وتلتقي مع عبارة جدتها الأثيرة “من أحب نجا”. على مدى السرد تدخل مفردات العالم في علاقات جديدة وحكايات غرائبية أسطورية، بحثا عن جوهر الكون وروحه الحقيقية، التي تتجلى في النهاية في الحب والشغف وجذوة دهشة لا تنطفئ.
في روايته الأحدث “مزاج حر” (2018) يواصل محمد الفخراني بحثه عن جوهر الكون، فيكون الشغف والدهشة والأحلام تيمة أساسية تتخلل النص وتلتقي مع الحب. تٌستهل الرواية بعبارة افتتاحية: “أرقص مع دهشتي، شغفي وأحلامي”. يدور السرد حول كاتب أربعيني ينطلق لتحقيق حلمه في التجول في العالم، يحمل حقيبة صغيرة من القماش على كتفه، ليس بها سوى أوراق وأقلام والقليل من الملابس. اختار أن يركب القطار من نقطة لا يعرفها، آملا أن يتجول حرًا في الأماكن، فإذا به يتجول في الأماكن والأزمان المختلفة، يلتقي بشخصيات تاريخية وشخوص روائية، ويحاول أن يتدخل لتغيير مصائرها المعروفة. يتماهى السارد مع الكاتب ويحمله التجوال إلى لقاء ثلاثة شخوص محورية من روايته “ألف جناح للعالم”، فيكتشف أنه لا يعرف عنها سوى القليل، وأنها تعرف عنه الكثير. وهنا يثير الكاتب قضية علاقة المؤلف بشخوص قصصه ورواياته، وهل تستقل بعيدًا عنه وتتجول حرة في العالم؟!
ينقسم السرد إلى فقرات سردية منفصلة ومتصلة، يضم كل منها مشاهدات وحكايات في أماكن مختلفة وأزمنة متباينة. يستقل الكاتب مقعده بجوار النافذة في القطار. يبطئ القطار ويقف في محطة لا يعرفها السارد، رغم سفره على ذلك الطريق مرارًا من قبل. توقف القطار طويلا، دون أن يركبه أحد أو ينزل منه أحد. تخطر للسارد فكرة بداية تجواله من ذلك المكان الذي يجهله، فيغادره، وبمجرد نزوله يتحرك القطار، فيدرك أنه هو الشخص الذي كان ينتظر القطار أن يغادره. يكتشف السارد أنه في قرطبة، زمن محاولة عباس ابن فرناس الطيران. يحاول التدخل في أحداث التاريخ، ويمنع ابن فرناس من السقوط الذي قرأ عنه في الكتب، لأنه لم يصنع لنفسه ذيلًا. ولكن على غير ما ذكرته كتب التاريخ، نجح ابن فرناس في تجربته: “رأيته يخرج من سحابة زرقاء، وهو يضرب بجناحيه، ابتسمتُ، وجريتُ معه حتى اختفى داخل سحابة أخرى، توقفت وقلت: “طر يا بن فرناس””. من قرطبة، زمن ابن فرناس، بدأ السارد تجواله، وراح يتنقل بين الشوارع والميادين، يحمله كل شارع إلى زمان ومكان مختلف، فيلتقي ليوناردو دافنشي وظروف رسمه الموناليزا، كما يتصورها. ويصادف المهرج، الذي يذكرنا بالمهرج في مسرحيات شكسبير، فهو وحده القادر على السخرية والجهر بالحقيقة في وجه الفاسدين من ذوي النفوذ والسلطان دون أن يصيبه أذى. ويلتقي شهرزاد في قصرها، وقد اكتسبت ملامح خاصة لم تذكرها حكايات “ألف ليلة وليلة”. وجدها تعرف عن كتاب “ألف ليلة وليلة” ، فعندما طلبها شهريار للزواج، جعلتها جدتها “عشق زاد، الحكاءة العظيمة” تمشي داخل حكاياتها، فعرفت عن الكتاب وحكاياته. تعشق شهرزاد الحكي وتردد “قلبي بأمان مادام في العالم حكايات”، لأن الحكايات تنقذ روحها: “الحكايات تنقذ روحي… ولأجل روحي لا يمكنني التوقف عن الحكي”. يدخل السارد أحد الشوارع الجانبية، وفي مكان وزمان جديدين يلتقي المتشرد ويصحبه إلى روح الكون، فيرى الجمال في ملامسة الشروق والغروب، والتقاء الليل والنهار والتنقل بينهما، وتلامس الأرض والسماء، ومشاهدة العصافير نائمة والإنصات إلى الأشجار. يقول له المتشرد: “لا تمش بجسدك، امش بروحك، الروح أرق من النور، أعلى من الطيران…”.
يصادف السارد شخصيات روائية، مثل روميو وجوليت، من مسرحية شكسبير التي تحمل نفس الاسم، وأزميرالدا وكوازيمودوا، من رواية “أحدب نوترودام” لفيكتور هيجو. يحاول التدخل لتغير مصائر الشخصيات، وإنقاذها من مصيرها المحتوم، وأن يجعلها تخرج عن إرادة مؤلفيها، فيطلب من روميو ألا يشرب السم، وينادي على أزميرالدا ليحذرها مما سيحدث لها. ومن بين الشخصيات الروائية التي قابلها السارد شخصية “عبد ربه التائه” التي كتبها نجيب محفوظ في “أصداء السيرة الذاتية”. وعندما سأله السارد عن “مفتاح أسرار الوجود” أخبره أنه “الحب”، فأدرك سر العبارة التي قرأها بشتى اللغات في كل ما صادفه من أماكن وأزمان: فلان يحب فلانة، فلانة تحب فلان. وفي مقهى بمدينة ساحلية يفاجئه وجود سيمويا ودوفو والقبطان المذهول، من روايته “ألف جناح للعالم”. وهنا يتماهى السارد، الكاتب المتجول، مع الكاتب نفسه. رأى الكاتب شخصيات روايته، وقد استقلت بنفسها وخرجت عن سياقها الروائي، واكتشف أن ما كتبه عنها ليس إلا جانبا من حياتها، وأن لها حياة أخرى لا يعرف عنها شيئًا، بل أدهشه أنها تعرف الكثير عن تفاصيل حياته. وهنا يثور السؤال عن علاقة الكاتب بشخوص أعماله: “بحسب “ألف جناح للعالم”، لم يجلس القبطان مع “سيمويا” و”دوفو” في مكان كهذا، كل مقابلاتهم كانت في سفينته بالبحر، ربما ما يحدث الآن جزء لا أعرفه من حياتهم…”. وتزداد دهشته عندما يخبره الثلاثة بتفاصيل عن طفولته وشبابه.
يعود السارد إلى الشاطئ، ويدخل في شوارع متعددة ، بعدها يشعر أنه يصعد ويعبر سماء بعد أخرى حتى يصل إلى الجنة. وهناك يبحث عن “مكتبة الجنة الكبرى”، حتى يجدها. وبينما يتجول في الممرات يتأمل المستغرقين في قراءاتهم، ترشده شابة بيدها كتاب إلى “بورخيس”، أكثر من يمكنه مساعدته في الحصول على ضالته من الكتب. يكتشف السارد أنه الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، صاحب قصة “مكتبة بابل” التي طرح فيها تصوره للكون على هيئة مكتبة. يرجع السارد إلى الأرض “من إحدى نقاط تماسها مع الجنة” ، فيجد نفسه في مدينته وشارعه الذي يسكن فيه والزمن الذي بدأ منه تجواله، يمشي إلى البناية التي يسكنها. يدهشه كيف تحدث بكل اللغات التي صادفها ولم يكن يعرفها، وتستوقفه الجملة التي وجدها مكتوبة بكل اللغات وفي كافة الأزمان: “وفيها يكتب شخص ما اسمه مع اسم من يحب”، فيدرك أن الحب من أهم ما بني عليه العالم: ” بدت لي واحدة من الجمل التي بُنى عليها العالم، وسيظل بخير ما دامت فيه، أثق أنها موجودة أيضًا بكل اللغات التي لم أصادفها خلال تجوالي“.
في روايته الأحدث “مزاج حر” يرسخ محمد الفخراني مشروعه الإبداعي في البحث عن جوهر الكون، ذلك المشروع الذي يلتقي ويتماس مع المشروع الإبداعي للكاتب البرازيلي باولو كويلهو، فكلاهما يغوص في عوالمه الخيالية بحثًا عن جوهر الكون، في محاولة للوصول إلى السلام النفسي بالصفح والحب. يستلهم الفخراني ثقافته الأدبية والتاريخية، في تجربة سردية تجمع بين الرواية والمتتالية القصصية، ويمتزج فيها الواقع والفانتازيا. وفيها يتحدى قسوة الواقع بأن يؤكد أن الحب من أهم المقومات التي بُني عليها العالم، وهو وحده شرط استمراره.
…………….
*نقلا عن مجلة الإذاعة والتلفزيون