فصل من رواية (القناديل الثلاثة) لـ سو تونغ

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
 سوتونغ الترجمة عن الصينية: يارا المصري (7) كانت الحرب الواقعة أعلى التلة كزهرة هائلة بلون الدم، ولا بأس أن ترى الحملة التي شنت على القرية في اليوم الخامس عشر من الشهر الثاني للسنة القمرية كبرعم في تلك الزهرة، وإذ تلاشى دخان البارود وعاد الطرفان مُكفَّنين بدمائهما متشربين ما يكفيهما منه، أضحت تلك الزهرة أكثر احمرارًا، ومن رآها ستتولد بداخله ذكرى دافئة وحلوة لتلك الحرب.

كان السكون يخيم على النهر فترة ما بعد الظهيرة، وبضع جثث تطفو على سطحه كسمكات تعوم مع التيار، وتلك الجثث التي تطفو على المياه كسمكات تعوم مع التيار تعني أن إطلاق النار توقف مؤقتًا، وكان تلك معرفة بديهية يدركها مربي البط بيان جيان أيضًا، الذي ما إن خرج من القرية حتى ألقى بالقِدر النحاسية من على رأسه، وألقى بالمنديل الأبيض الذي يقبض عليه بيديه.

وما حمله على التيقن من أن هذه الحرب قد توقفت، أن العصافير عادت إلى أعشاشها على أغصان الشجر، وأن الدخان الأسود الذي يحجب السماء قد انقشع، وأن شمس الشتاء الدافئة عادت فانعكست على الثلج أعلى أسطح البيوت، والأهم من ذلك كله، أن مجموعة الجنود التي كانت في المعبد غادرت، ولم يتبقَ في الأرض الموحلة أمام بوابته سوى آثار عربات مطبوعة بعمق تمتد حتى الطريق الرئيس البعيد. لم يتمالك بيان جين نفسه فدخل إلى المعبد، ورأى الجدران ملطخة بآثار دماء، ووقع نظره على شيء بلون أبيض وأحمر غارق في بقعة دم يشبه نصفَ ساق، فاقترب مدفوعًا بفضوله، ثم انتفض مذعورًا، فقد كانت بالفعل نصف ساق إنسان. صرخ بيان جين: “ساق، نصف ساق!”. ولم يكن صراخه نابعًا من الرعب، بل كان شيئًا من الحيرة، حيث لم يكن بيان جين يعلم أن المعبد كان مستشفى ميدانيًا في الحملة على القرية، ولم يكن يعلم أن هناك ساق إنسان مقطوعة ومرمية على الأرض.

جعلته مخلفات الحرب والحرب ذاتها مليئًا بالحيرة. فسار أولا في الطريق قرب آثار أقدام عربات، وفي طريقه التقط العديد من الأشياء الجديدة: مشط طلقات وبضع أغلفة خرطوش، وفردة حذاء قماشي بلون أصفر ذا نعل مطاطي، ونصف علبة سجائر (لاو داو)، وصندوقين خشبيين مكسورين. جرب أن يلبس فردة الحذاء، وكان مقاسه مناسبًا تمامًا، ولكنه شعر أن نعله لزج، فخلعه وألقى نظرة ليرى بقعة دماء لم تجف بعد تفترش النعل. وضع الفردة في الصندوق، وفكر أن يترك الحذاء ليجف ثم يرتديه لكي لا تصبح قدمه لزجة. كبر إلى هذه السن ولم يرتدِ حذاء ذا نعل مطاطي قط. سحب بيان جين الصندوق وسار عدة خطوات، لكن الطريق الشاسع والأرض البرية جعلاه يشعر بشيء من الخطر، وأراد أن يعود إلى النهر ليرى الوضع، فقد انتهت الحرب، ومَن يدري ما الوضع عند النهر الآن؟.

فاحت رائحة مسكرة من أعواد القصب المحترقة، وفيما عدا تلك الرائحة، كانت هناك رائحة غريبة تنتشر مع النسيم، ولم يستطع بيان جين أن يميز ما إذا كانت زنخة أو مسكرة، فسار متتبعًا الرائحة، وفي الواقع كان يسير باتجاه النهر، وشيئًا فشيئًا لم يعد منتبهًا إلى الجثث التي تطفو مع التيار، فقد بدأت الجثث تظهر مبعثرة على الأرض الخالية، وما تبقى من ثلوج تبقَّع بدماء قاتمة أو فاتحة. لم يكن بيان جين يخاف الموتى، والتقط من إحدى الجثث في طريقه مسدسًا رشاشًا، وبدا فخمًا بسبطانته الفولاذية ومقبضه اللامع، فرفعه بيان جين ولوح به، لكنه ضغط على الزناد بطريقة ما، فاندفعت رصاصة مُطلقة شرارة باتجاه السماء، فذعر وألقى به، ثم تطلع إلى الأرجاء التي كانت لا تزال غارقة في السكون، ولحسن حظه لم يرَه أحدًا، فتنفس بيان جين الصعداء وقال لنفسه: “مات الجميع ولم يتبقَ غيري!”.

وصل بيان جين إلى حقل البطاطا الحلوة، وإذ به يرى حينها أكبرَ تلِّ جثثٍ خلَّفته الحملة، قلَّما تسفر عنه الحروب بالسلاح الأبيض، ذهل بيان جين، لأنه حتى لم يرَ من قبل بشرًا أحياء بمثل هذا العدد الكبير. كانت الجثث تبدو كأحزمة حطب، ومكومة في حقل البطاطا التي أصبحت أوراقها كما أصبحت ترتبه حمراء قاتمًا. أحس بيان جين بالاختناق، وأدرك الآن أن تلك الرائحة الزنخة والحلوة قادمة من حقل البطاطا هذا. كان هناك العديد من الناس، يرتدون سترات وبناطيل قطنية صفراء أو رمادية، وقبعات وأحذية قطنية، يحملون سكاكين وبنادق، لا يدرون من أين جاؤوا، وكأنهم ما إن ظهروا حتى قُتِلوا. وكانت إحدى الجثث تصوب بندقيتها باتجاه بيان جين، وأخرى بيدها سكين حاد، ولكن بيان جين يعلم أن الأموات ليس بإمكانهم إطلاق النار، ولا داعي للخوف من أن يطلق أحدهم النار على رأسه.

وقف بيان جين في مكانه مفكرًا لبضع دقائق، ثم بدأ بعدها في جمع القبعات القطنية المتناثرة من تل الجثث، كانت القبعات بواقيات للأذن تقيها البرد حتى لا تتجمد، جمع بيان جين أكثر من عشرين قبعة مرة واحدة، ووضعها في صندوق من الصندوقين. وقد تلوثت يده بالدماء بسرعة وأصبحت لزجة بشكل لا يُحتمل، فهرول إلى النهر ليغسل يده، ولكن الماء كانت مشبَّعة بالدم، فاكتفى بشطفها على عجل.

سحب صندوق القبعات وتجول ذهابًا وإيابًا بين الجثث، وأراد أن يعود بسرعة إلى القرية، ولكن الأحذية المطاطية التي ترتديها الجثث خطفت عينه، كانت أحذية جيدة، أفضل وتدفئ أكثر من أحذية لو فو الجديدة، لم يعز عليه أن يترك الأحذية، فخلعها عن الموتى، وجمع ستة أزواج دفعة واحدة. وإذ كان يخلع الزوج السابع عن جثة انتفض مذعورًا إزاء رفسة في بطنه، واكتشف أن ذلك الجندي ذا الموجه المدمى كان مراهقًا، وربما كان أصغر من بيان جين سنًّا. كانت عينا المراهق تحدقان فيه بغضب، ومالت رأسه جانبًا بوهن. وكان بيان جين واثقًا بموته، وأنه على الأرجح لفظ أنفاسه الأخيرة حالًا. “هل مت؟”، سأله بيان جين. “إن كنت حيًا فلن آخذ حذاءك”.

لكنه لم يتمالك نفسه وخلع عن الجندي زوج الأحذية السابع، يملؤه الاضطراب بسبب عيني المراهق الغاضبتين. رتب بيان جين القبعات والأحذية جيدًا في الصندوق، وسار عبر أكوام الجثث راغبًا في العودة إلى القرية، وفكر أن هذه القبعات وهذه الأحذية ستكفيه إلى الأبد، ولن يخشى الثلج ورياح الشمال الباردة.

وإذ خرج بيان جين من الحقل، تذكَّر فجأة مركب الصيد، وتذكر الفتاة المدعوة شياو وان (الصحن الصغير) وأمها التي توشك على الموت حيث كان مركبهما يرسو على مقربة من النهر، ويمكن رؤيته من السهل. تطلع بيان جين حوله، ولمح ثلاثة أضواء ذهبية صغيرة خلف أعواد القصب المحترقة. القناديل الثلاثة! ميزها بيان جين، ثلاثة قناديل مضيئة تحت شمس الشتاء الغاربة، ولم تكن متوهجة كالليلة السابقة. وما دامت القناديل مضاءة، فالمركب هناك، إذن فالفتاة شياو وان تنتظر هناك.

سحب بيان جين الصندوق متجهًا إلى المركب.

صادف بيان جين ذاك الجندي الجريح في منتصف الطريق. كان يزحف على شاطئ النهر الموحل ويسيل منه خط طويل ومتعرج من الدماء، كان الشخص الوحيد الحي الذي صادفه بيان جين منذ انتهاء الحملة. في البداية أحس بيان جين بشيء من الخوف، لكنه ما لبث أن انتبه إلى أنه لا يحمل سلاحًا، ومن المؤكد أن قدميه مبتورتان، وإلا فلِمَ يزحف على الأرض؟ وإلا فلِمَ يزحف أبطأ من الحلزون؟

حبس بيان جين أنفاسه وتبع الجندي الجريح بهدوء، وكانت قدمه تطأ بين حين وآخر سيل الدم، ولم يعرف أكان النزيف من صدره أم قدمه. وشعر أن الجندي قد اكتشف أن ثمة أحدًا يتبعه، فقد أدار رأسه إلى الجانب في محاولة منه لأن يلقي نظرة على الشخص الذي يتبعه، ولكنه كان ضعيفًا وواهنًا للدرجة التي تمنعه من ذلك. وأدرك بيان جين أن الجندي تلاشى إحساسه بالخطر تجاهه، فهرول إليه الأخير على الفور.

“إلى أين تذهب زاحفًا؟”. نكزه بيان جين بخفة في كتفه. ثم قال: “إنك أبطأ من حلزون، إلى أين تذهب؟”.

أدار الجندي الجريح رأسه بصعوبة، وبدت أنفاسه سريعة وثقيلة. “إلى هناك”. قال بصوتٍ مبهم، لكن بيان جين سمعه بوضوح. “القناديل الثلاثة”. أشار الجندي بإصبعه إلى جهة أحراج القصب “القناديل الثلاثة”.

“هل ترى القناديل الثلاثة؟ هل تريد الذهاب إلى مركب الصيد؟ لماذا؟ إنك جندي”.

“القناديل الثلاثة”، ردَّد الجندي.

“أعلم أن هناك ثلاثة قناديل فلستُ أعمى. كما أنه ليس بإمكانك الذهاب إلى هناك، فهذا منزل شياو وان، ليس منزلك”.

“أريد العودة إلى المنزل”، قال الجندي الجريح.

“هل أنت والد شياو وان؟”. قرفص بيان جين وأمسك بوجه الجندي الجريح وتفصحه بتركيز، ثم قال: “لا، لا، لست والدها، أنت عجوز، وقبيح، أما شياو وان نشيطة وجميلة، لا يمكن أن تكون والدها”.

“شياو وان……يا صغيرتي……شياو وان……يا صغيرتي”، نادى الجندي الجريح.

كان الجندي واهنًا لدرجة منعته من الكلام، وكان لا يزال يزحف على الأرض الموحلة، وكان زحفه يتباطأ شيئًا فشيئًا، ورأى بيان جين بوضوح مصدر النزيف: كان ينزف من بطنه وكتفه ورجله، ورأى عيني الجندي، تلك العينين ذات الشعيرات الدموية النازفة، وأحس أنه شخص عجيب، لأنه على وشك الموت، ولكن عينيه ما زالتا مضيئتين.

“إن كنت والدها، سأحملك إلى المركب. ولكن كيف تثبت أنك والدها؟”، قال بيان جين.

“القناديل ــ الثلاثة”، قال الجندي.

لم يقل الجندي كلمة أخرى بعدها. وخمَّن بيان جين أنه من الضعف بحيث لا يمكنه الحديث. وفكر أن الحقيقة على وشك أن تنجلي فيما إذا كان هذا الشخص والدها أم لا. كان يفصلهما عن مركب الصيد ذاك بضع خطوات فقط، كانا قريبين للغاية.

نادى بيان جين الفتاة، لكنها لم ترد، فلم تكن على المركب، أو داخل المقصورة. ورأى كذلك المركب الذي اسودَّ بفعل البارود، وسقيفته المصنوعة من المشمع والتي دمرت في يوم واحد، ولم يتبقَ غير بضعة ألواح من الخشب تنتصب بشكل مائل، وكانت السارية الأكثر غرابة، فقد كانت السارية والثلاثة قناديل المعلَّقة أعلاها سليمة لم تُمَسْ خلال ليلة من إطلاق النيران، كانت المصابيح تتوهج على الرغم من خفوت نورها، وجعلته يتذكر الكيروسين وكل ما حدث مع الفتاة شياو وان.

“شياو وان، اذهبي إلى حقل البطاطا واجمعي القبعات، هناك الكثير من القبعات الجيدة”.

السكون والصمت يخيمان على المركب، ولم يعرف إلى أين ذهبت الفتاة.

“شياو وان، اذهبي إلى حقل البطاطا واجمعي بعض الأشياء، سيأخذها الآخرون لو ذهبتِ متأخرة”.

فجأة، سكت بيان جين، ورأى يدًا صغيرة سوداء تظهر من المقصورة، ومنديل صغير يتدلى من بين أصابعها الصغيرة تلمس حافته الماء. ميز بيان جين يد الفتاة، لم تغادر الفتاة المركب، كانت مختبئة في المقصورة الخربة.

“شياو وان، لا تخافي، اخرجي، لقد انتهت الحرب”.

وبخطوات سريعة قفز بيان جين إلى المركب، ووقع نظره في البداية على صفيحة الزيت النحاسية المقلوبة والكيروسين المُراق على الأرض. “لِمَ دلقتِ الكيروسين؟ كيف ستضيئين القناديل دونه؟”. رفع بيان جين الصفيحة، ثم شاهد المقصورة المدمرة بفعل طلقات الرصاص، ولم يعد هناك شيء يغطي المركب. ثم رأى الطفلة وأمها، كانتا تحتضنان بعضهما بعضًا بشدة، ولكن إحدى يدي الفتاة كانت تنفلت من حضن أمها، وتمتد بعزم خارج المقصورة ملوحة بالمنديل الأبيض، بالطبع تلك اليد هدأت الآن، وغاص المنديل الأبيض في الماء. لم يوجه بيان جين كلمة أخرى إلى الفتاة، فقد رأى خلال يوم الكثير من الأموات، لذا لم يكن من الصعب عليه التمييز بين الحي والميت، وكان يعلم أن الفتاة شياو وان وأمهما قد أصبحتا في عداد الأموات.

لكن طائري العقاب كانا لا يزالان على قيد الحياة، طائر في مقدمة المركب، والآخر عند مؤخرته كجنديين يحرسان المركب.

“أَليست تحمل منديلًا أبيض؟ أَلم تلوح به؟ لِمَ ماتت إذن؟”. وجه بيان جين أسئلته إلى طائري العقاب.

ويعلم بيان جيان أنه لا ينبغي عليه أن يسأل الطائرين، فهي مثل البطَّات، مهما اعتنى بها صاحبها فلن تتحدث معك. فجأة، أحس ببرودة في طرف عينيه، كانت دمعة، كان يبكي. الدموع سبب تألم الفؤاد. وكان فؤاده يحمل ألمًا لا يمكن وصفه، وتذكر أنها كانت فرحة نشيطة بالأمس، ولم يكن يتمنى أن يُطلَق عليها الرصاص، أما الآن فيتمنى أن يقايض حياتها بمئة بطة. أمسك بيان جين بيدها وسحب منها المنديل الأبيض بعد جهد كبير، وصب جام غضبه على هذا المنديل، كوَّره بشراسة، وقذفه في النهر. “لا فائدة منك، ما فائدة منديل أبيض؟” غُصَّ بدموعه بغتة، وقال: “لا زلتِ صغيرة، ولا تفهمين شيئًا، ليس للرصاص عينان”.

زحف الجندي حتى وصل إلى المركب، وكان جسده يرتجف بشدة، ويمد ذراعة اليمنى بصعوبة في محاولة لإمساك شيء ما، ورأى بيان جين أنه يحاول الإمساك باليد الصغيرة القابضة على حافة المركب، يد شياو وان، لكنه لم يشأ أن يتركه يمسكها، فغطى يدها بيده وقال باكيًا: “لا تلمسها، لقد ماتت، لقد ماتتا”.

لن ينسى بيان جين عيني ذاك الجندي الجريح اللتين خمدتا فجأة بعدما كانتا مضيئتين، وكأن في عينيه قنديلًا أيضًا، وأحس بيان جين أن الهواء الذي نفخه بشدة من فمه أطفأ القناديل، وأوقف ارتجاف ذراع الجندي اليمنى، التي سقطت بثقلها في المياه ناشرةً الرذاذ، وداعب وجهه ضوء أبيض يائس، إلى أن سقط وجهه ثقيلًا في المياه وغاص في النهر.

صرخ بيان جين، وحتى هذه اللحظة لم يكن واثقًا ما إذا كان ثمة علاقة بين الجندي الجريح ومركب الصيد، لكنه أدرك أن يده لم تكن ممسكة بيد الفتاة، بل كانت تخنق أنفاس الجندي الحارة الأخيرة، وباغته إحساس الرعب الذي يداهم القاتل، فقفز من المركب، وحمل الجندي من المياه وقال: “أَلم تقل إنك والدها؟ أَلم تكن راغبًا في العودة إلى بيتك؟”. هز بيان جين الجسد الثقيل اللزج وقال: “لِمَ مت؟ هل أنت أحمق؟ كيف ستعود إلى بيتك وأنت ميت؟”. انخرط بيان جين في بكاء حاد، وسحب الجندي إلى المركب. “لقد قلت إنك والدها، حسن إذن، أردت أن تعود إلى بيتك وعدت الآن، فلِمَ مِت؟ على الأرجح أنا الذي قتلتكم، لكني لا أملك بندقية، أنا مدني، أنا مربي البط بيان جين”.

نقل بيان جين الجندي الميت إلى المركب تغمره الدموع، ورأى الجثث الثلاث مستلقية إلى جانب بعضها البعض، ووجوه الأموات تحمل التعابير الحزينة المهيبة ذاتها؛ رجل، امرأة، وفتاة تدعى شياو وان، وبدوا كأنهم عائلة بالفعل.

غدا قلبه خاويًا الآن، وانتبه إلى القناديل الثلاثة التي يخمد وهجها قنديلًا تلو الآخر، وارتفع الغسق بهدوء من النهر، إلى أن خمدت القناديل تمامًا.

ضفتا النهر شاسعتان ممتدتان، وإن نظرت إلى أبعد نقطة جهة الغرب، بإمكانك أن ترى شمس المغيب معلقة في نهاية النهر، ومسحة ذهبية من ظلال سحب تشوب حافة السماء، خمد وهج القناديل، وفُطِر قلب بيان جين، وغرقت روحه الشابة الساذجة وجسده المتعب في العتمة.

قام بيان جين بأمر لا يمكن تصوره. لن يمكنكَ أن تتصور أنه دفع مركبَ صيدٍ من الضفة إلى وسط النهر. مرتجفًا من البرد وغاطسًا في الماء المتجمد، دفع بيان جين المركب بكل جهده إلى قلب النهر. “ارحلوا من هنا، هنا ليس مكانًا طيبًا”. موجهًا حديثه إلى طائر العقاب الواقف على مقدمة المركب الذي ظل ساكنًا. ثم وجه كلامه إلى الطائر الواقف على مؤخرة المركب: “ارحل بهم بعيدًا عن هنا، إلى مكان ليس به حرب”.

أبحر المركب مع التيار وقت المغيب، ولم يعلم الطائران إلى أين يبحر مركبهم. “إلى أي مكان آمن سنذهب؟”. حتى بيان جين لم يكن يعلم.

كان هذا في مغربٍ ما، بعد انتهاء الحملة على قرية شيوي، حيث عاد جنود المعركة في عرباتهم متأخرين، وأثناء مرورهم بالقرية رأوا شخصًا يثير الريبة، كان هذا الشخص يسحب صندوقًا ويسير قرب النهر، ضاربًا بكل التحذيرات عرض الحائط، ولم يرَ الجنود بوضوح ما في الصندوق، وأراد أحدهم أن يذهب ويستجوبه، لكن بضعة جنود ميزوا بيان جين وقالوا: “لا تلقِ له بالًا، فهذا الأحمق من قرية شيوي”.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

صدرت مؤخرًا عن دار مسعى

مقالات من نفس القسم