عادة ما يعترف أغلب المبدعين والكُتّاب بالعجز أمام الحديث عن أعمالهم، وأن الأديب لا ينبغي عليه شرح عمله، لكننا نُصادف في إمام تخلّيا تلقائيّا عن مثل هذه المقولات. ثمّة غرام دفين بالحكي والحكاية والفيض في التعبيرات ومع ذلك اقتناص أقواها وأنفذها. يتملّك إمام هذا الوعي جيّدا ويأخذك به عندما تسمعه أو تُشاهده أو تقرأهه. يُمكن لهذا السبب تكون الكتابة عمّن يفتح أبواب الكتابة بكل هذا الاقتحام؛ مُربكة وصعبة وتفرض تحدّيا ما.
بالنسبة لمن يَهاب الكتابة عن انطباعاته وتأمّلاته في النصوص التي يقرأها، يُمكن اعتبار ما يُكتب هنا مُحاولة لردّ شهوة الحكي، التي ما إن يتهيئ لك أنك تُقاومها حتى ما تلبث تنزلق فيها. الحكي عن تأثير القراءة التي لا تتخلّص من سطوة وعي الكاتب بما يكتب أو عباراته في التعبير عمّا يكتب.
يُنهي طارق إمام كتابه الجديد “مدينة الحوائط اللانهائية” بقصّة رجل عجوز بلا ذكريات، مُسميّا إيّاها بـ”الحكاية التي لم أكتبها بعد”، ورغم أنها موجودة في آخر الكتاب، لكنها كانت السطر الأوّل الذي بدأ به الكتابة في مسودّتها الأولى، كانت المُفتتح. يقول إنه “اعتراف بأن الحكاية/ الأمل لن تُكتَب. هي الحكاية التي لولاها ما كان للكتاب أن يبدأ. إنه شيء أشبه بمن يفتح مقبرة بحثًا عن ولادة”.
هكذا يكون استقبال كل عمل جديد لطارق إمام: وعدٌ بمغامرة جديدة، محبوكة في حكاية ذات سطوة طاغية. أقول حكاية وليس مجرّد رواية أو قصّة، فطارق إمام يُعيد للحكاية مجدها ليس من باب أنها حكاية، لكن لأنها مدخل إلى الإدهاش ولذّة الاكتشاف، “قتل للحظة مُبتذلة للخروج منها بلحظة مُدهشة” كما يقول هو عن الكتابة. رحلة إلى عالم قائم بذاته لا تُخطئها الدهشة إلى أن تنتهي، وربما لا ولن تنتهي الرحلة. سيتجلّى هذا الإحساس بقوّة في عمله الأخير “مدينة الحوائط اللانهائية”.
العمل هذه المرّة، قوامه وبناؤه هو الحكاية، تظهر في حدّ ذاتها وباسمها (تعبير الحكاية). حكايات تَغرف من المخزون القديم للحكاية لكنها تَكتب قصّة عصريّة، تحيّة ومُغازلة لليالي ألف ليلة. وأكيد غواية بها.
في هذا الكتاب القصصي، وهو أفضل توصيف لروحه وتكوينه وإخراجه، لا يتخلّى الكاتب عن انشغالاته الشخصيّة في الكتابة لكنه يُقاربها هذه المرّة من باب الحكاية الخُرافية الخالصة، بل والعودة بالقصّة – في بناءها – إلى “بُستانها” الكلاسيكي العتيق.
لا تزال أسئلة الحياة والموت مطروحة في مدينة الحوائط، أفكارٌ تطرح نفسها بلا إدّعاء عُمق، رغم وعي كاتبها الدقيق. ثُنائيّات: الجمال والقسوة، أو الجمال والرعب. الإيمان والتخلّي أو الإيمان والعنف. الأحلام. النقص الذي يشي بكمال خفيّ، أو الكمال الذي ينطوي على نقص. حكاية الماضي والمستقبل معا. المدينة الموحشة، الخرائبيّة الشبحيّة، وفي نفس الوقت الغارقة في صخبها، وهي من فرط صخبها مُفعمة بإحساس الوحدة. “نحن ننتمي إلى ظلال المدينة” أذكر له تقريبا هذا التعبير.
حتى تيمات الكتابة مثل حكاية الحكاية، وسؤال الوحدة، والتماهي بين الواقع والخيال، لا تُغادر هذا العمل. وإذا كان إمام – كما يعي هو أيضا – يكتب الرواية بروح القصّة، حيث المشاهد الضاغطة بقوّة على كل الحواس؛ فهو في مدينة الحوائط اللانهائية يكتب القصص لتحكي رواية كاملة طوال الحكايات الـ36. “عن مدينة، بأربع حوائد هائلة، سُكّانها جعلوها بيتا كبيرا يعيشون فيه كإخوة، أسرة واحدة، رغم خصام الدمّ، ومع كل صباح يفقدون واحدا منهم”.. هكذا يبدأ، يُدخلنا فورا إلى الأجواء وننسى أنفسنا وننعس مثل شهريار، حتى نفيق مأخوذون باستكمال الحكاية لندخل في حكاية أخرى.
مجذوبا بالأحلام والخيالات، يُجرّب هذه المرّة اللعب بالصور المتخيّلة لإنتاج الدهشة. يستعيد مجد الحكايات الخُرافيّة، مع مسحات الأسطورة والفانتازيا والغرائبية (التي بصورة أو بأخرى لا تُغادر أعمال طارق إمام)، حكاية تسرد حياة كاملة من الميلاد إلى الموت. يستدعي الشخصيات من مخزون حكايات قبل النوم لبناء “عالم مواز يُعيد تعريف الأشياء”: الناسك، الإسكافي، القُرصان، الساحرة، الصائغ، القبطان، الحطّاب، السقّا. بعضها ربما سبق وأن استخدمه طارق، (الإسكافي والصائغ)، هذه ملاحظة عابرة.
لكن الحقيقة، إنّ الدهشة هُنا جاهزة، نابعة من التفاصيل الخُرافية وتضفيرها في وصف الشخصيات التي اختارها أبطالا لحكاياته. لكن ثمّة مستوى آخر من الدهشة ينبع من الطموح في كتابة قصّة تبدأ وتنتهي هكذا، دون أن يكون لها خطّا بداية ونهاية محدّدين. الحكايات تقود لبعضها، تظهر شخصيّات في قصّة وتختفي، ثم تُعاود الظهور في قصّة أخرى. نقرأ قصّة عجوز من الورق المُقوّى، فتبرق في الأذهان مشاهد حُرّاس القصر من ورق الكوتشينه في بلاد العجائب التي سقطت فيها أليس. يُراهن طارق إمام على قارئ يمضي في حكاياته دون أن تهمّه أو ينتظر نقطة الخاتمة.
أخيرا، المدينة الخانقة هُنا ليست المعنيّة في ذاتها، إنها “الحوائط” التي تحوط المدينة، والمسؤلة عن هشاشتنا وهشاشة الحياة. يُشيّد طارق إمام مدينته على أنقاض “الذكريات”، (المكان هو تلك المساحة التي تحيا بداخلنا) يؤمن طارق بهذه المقولة ويُردّدها دائما.
مدينة بائدة يُعاد بناءها في المساحة بين اليقظة والحلم، بسُلالة جديدة مشدودة إلى الماضي، ومُرغمة على التفكير فيه لكتابة تاريخها الخاص. “مدينة بلا بيوت، لكن هي المدينة البيت، والمدينة المقبرة” التي تختصر الحكاية الشابة والحكاية العجوز والحكاية المُحتضرة، وكل أطوارنا وأعمارنا.
تُصبح مدينة المتاهة، التي أصابتها اللعنة، أيّا كان: بسحر أو مسّ شيطاني أو روح شريرة، ويختلط فيها الزمن، هي سلوى الشخصيات في هذا العمل لمُقاومة نسيان تاريخها: “كان أكثر ما يخشاه أهالي مدينة الحوائط أن تُصبح مدينتهم نفسها عُرضة للنسيان”، كل ما هنالك أننا “كُلنا نبني حوائطنا الخاصة” في محاولة بائسة لدرء تلك اللعنة، مُعتقدين أنّنا محميّون كفاية بالحوائط، في حين أنها مسكونة بالغرباء “أشباح ضحايا الماضي”.