وإنما أيضا في عملية إحياء شاعري مضغوم لملحمة جيمس جويس الضخمة ” عوليس ” في تصويره لعوالم ” دبلن ” بما حوته من عوالم فوارة ومتشعبة ، وكأن طارق إمام يعيد زمن الملاحم من جديد – ولكن بعصرنة – وليؤكد تراكمية الأعمال الأدبية عبر مسيرتها التاريخية – حيث نجد في تلك الصفحات القليلة العوالم المتشعبة لمدينة القاهرة ، بأزمنتها المتباعدة للألف السنين ، والتي كان لها – بالتأكيد – ضغوطها وتواجدها علي قاهرة الحاضر . كما نجد – في ” هدوء القتلة ” الفانتازيا والواقع والحلم والخيال ، وفيها يتفتت الإنسان ليستقل كل جزء فيه ويصبح له شخصيته وتصرفاته ، فاليد اليمني تستقل عن اليسري ، وتنفرد الساق الطبيعية عن الصناعية الرافضة للفناء ، وكأن الإنسان قي قاهرة المعز قد تفتت وتحول إلي شظايا ، كما جاء استخدام الضمائر المختلفة والمتداخلة ، كأن الناس جميعا قد أصبحو هذا الرجل ، فحينا نراه المتكلم ، وحينا نراه المخاطب ، وأحيانا نراه الغائب ، لكنه الغائب الحاضر ، حيث يتعايش الناسك الذي تواجد من ألف سنة مع البشر الفانين في الزمن الحاضر ، في رفض للفناء ورغبة في الحياة السوية ، وطموحا لخلق فردوس جديد .
وإن كان المقتطف – الملحمة الشعرية – ” البحث عن الزمن المفقود “ يسير في اتجاه من الأعلي إلي الأسفل ، وفيما يشبه الخطيئة ، فإن ” هدوء القتلة “[1] تسير في الإتجاه العكسي ، من أسفل إلي أعلي ، وكأنها تبحث عن التكفير ، وليتكامل العملان معا في تشكيل الاكتمال ” الخطيئة والتكفير – مع الإعتذار للدكتور عبد الله الغزامي صاحب كتاب ” الخطيئة والتكفير ” – .
فالمقتطف عن الفردوس المفقود ، يتحدث فيه الشيطان إلي الإنسان وينتهي باستسلام الإنسان للخطيئة وللغواية :
{ .. وفاضت مفاتني الخلابة فأحبني أشد من عاداني ، لاسيما أنت ، إذ كثيرا ما رأيت ذاتك في ذاتي، وصورتك في صورتي فتولهت بي ، ونشدت متعة معي في الخفاء .. } [2] .
فإذا كان الشيطان قد انتشي هنا بانضمام الإنسان إلي حزبه ، بما يعني انهزام الإنسان ، فإن ” هدوء القتلة ” ,إن كانت تبدأ بالخطيئة ، بالقتل ، إلا أنها تنتهي بانتصار الإنسان علي نحو ما سنري . ولكن علينا أن نبدأ من البداية ، ونخطو أولي العتبات للدخول ، وأعني به العنوان ” هدوء القتلة ” حيث ” القتلة ” تعني الكثرة ، فالقتلة كثيرون ، وكثرتهم في مجتمع ما ، وفي القاهرة تحديدا – حيث الفضاء المكاني بالرواية – يعني وجود إضطراب ما ، والتي ربما تصل للفوضي . فإذا أضفنا إليها ” الهدوء ” أي أن القتلة يقومون بفعلهم في اطمئنان ، فهو يعني غياب الاستقرار ، وشيوع الفوضي ومن هذا نتبين التناقض الذي يجمع طرفي العنوان ” هدوء القتلة ” ، لكنه التناقض الخالق لدرامية الحركة الفاعلة للفوران الدائم – للمجتمع – وللنص في ذات الآن الذي هو الصورة الكنائية عنه ، حتي جاء النص ليرسم صورة درامية تعبر دون أن تقول ، وليظل المعني كليا لا جزئيا ، ولينحصر القول في إضفاء المتعة القرائية حيث أتي بروح الشعر أقرب منه للنص النثري . وهنا يتحدد اتجاه سيرنا إلي داخل النص – مبدئيا – وهو ما يترجم ما تطالعنا به وسائل الإعلام من انفلات ، وهو ما يعني أن طارق إمام شاب يعيش هموم بلده ، ويستطيع أن يشخص أمراضها بفنية وشاعرية يستطيع بها التغلب علي ما قد يعتري نصه من ضبابية تخبئ خلفها رؤية ووضوح .
فإذا تجاوزنا العنوان كعتبة أولي ،إلي العتبة الثانية ، وهي الغلاف الخارجي للرواية ، وعلي الرغم من عدم القناعة باستخدام الغلاف كعتبة في الكتب الصادرة لدينا ، حيث يغيب دور الكاتب في الكثير منها ، وخضوعه للناشر بالدرجة الأكبر . إلا أن الغلاف في ” هدوء القتلة جاء معبرا لحد كبير عن متن العمل . حيث يحتل مساحة الغلاف صدر إنسان – غير واضح المعالم ، فهو إنسان وكفي ، وقد انفتحت ملابسه إلي قرب المنتصف ، فإذا ما اعتبرنا أن الملابس تخبئ ما تحتها ، فقد حاولت اللوحة كشف جزء من المخبوء لدي هذا الإنسان وهو ما تؤكده الرواية علي نحو ما سنري.
وفوق هذا الجسد توجد صورة طفل ، وكأنها دمية ، إلي جانب صورة رجل كبير السن ، وكأنها تجمع مراحل الإنسان ، وكأن هذا الإنسان علي الأرض مجرد دمية ، أي أن تحركه عليها بأصابع الغيروهو ما عبر عنه حين كشف عن حالات المشي في النوم بتأثير إحدي يديه ، فيتساءل :
{ وجدت يدي اليمني قابضة علي المطواة تكيل الطعنات لأختها . كيف أتت بها ؟ ! هل تحركت بجسدي إلي الصالة وتناولتها من الدولاب العتيق ثم عادت بجسدي إلي السرير ؟
هل تقودني يدي إلي هذا الحد ؟ ……}[3] .
وفي أسفل اللوحة ، توجد ثلاثة أكف بشرية في أوضاع مختلفة ، وكأنها تعرض الجوانب المختلفة للإنسان . إذن تقودنا هذه العتبة نحو البحث في الإنسان بأوضاعه المختلفة ، ومراحله المختلفة ، وأفعاله المختلفة أيضا ، كحالات الصحو والنوم ، الموت والحياة ، في الصغر وفي الكبر ، في الحب وفي الكره .
ثم تأتي العتبة الثالثة وهي المقتطف من ” الفردوس المفقود ” والسابق الحديث عنها . وكذلك بيت شعري مقتطف من ” ابن الفارض يقول :
وخذ بقية ما أبقيت من رمق لا خير في الحب إن أبقي علي المهج
و هو يقودنا أيضا إلي أن للحب دور أساسي في الرواية ، فضلا عن إيمان الكاتب بالشعر ودوره ، ليس من حيث الدور فقط وإنما انعكس بالفعل علي إسلوب الرواية وما حواه من شاعرية جعلت منها قصيدة نثر تعتمد المجاز والكناية ، مبتعدة عن الشرح والتصريح .
وهو ما يؤكده ما نعرفه فيما بعد بأن الرواي شاعر يكتب شعره بدماء الضحايا ، وهو في طريقة لللإنتهاء من دوانه الجديد ، ويبحث عن الضحية التي بقتلها يضع السطور الأخيرة في ديوانه . فإذا كان السارد يعمل – علي أرض الواقع – عدادا في الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء ، فإن البشر في ظاهرهم – من زاوية عمله – مجرد أرقام وإحصائيات . غير أن البشر في جوانيته ليسوا كذلك – من وجهة النظر الشعرية – حيث يصبحون مشاعر وأحاسيس ، فغذا كان يبحث عن إكتمال القصيدة ، فهو يبحث عن اكتمال الإنسان ، عن جوهرة ، عن كيانه .
وإذا كانت القاهرة – الآن – تعيش العديد من حالات القتل الرخيص ، حيث كثرت حوادث القت في البيوت ، فهذا قتل طفلين بريأين من أجل الانتقام من الوالد ، وهذا قتل سيدة مجتمع من أجعل بعض الأموال لمروره بضائقة مالية ، وذاك قتل أسرة بكاملها لأن زوجته خلعته ، ومجهول قتل أكثر من اسرة للتجارة في بعض أعضائهم . كل تلك حالات قتل يعيشها مجتمع القاهرة التي يعيشها الكاتب ، فكانت فكرة القتل الواهية الأسباب ، وكانت فكرة القتل من أجل الحياة ، فاتخذ من القتل وسيلة للحياة،غير أننا لا نلبث أن نتبين أن عملية القتل هذه ، ليست إلا عملية معنوية ، حيث قد يقتل الشخص ذاته أكثر من مرة ، بل قد يقتل مرتين في يومين متتاليين . إلي جانب أن السارد ذاه يقتل باليد اليمني ، بينما اليسر تكتب الشعر ، وأن كلا منهما ( اليمني واليسري ) في حالة شجار دائم ، للحد الذي قد يوقظه من نومه . وهو ما نتبينه منذ البداية حين نراه ينزع للجانب الصوفي بجعل الناسك أستاذه ومرشده ، بل هو الجد لكل القتلة – الحالمين – الذين امتلأت بهم القاهرة :
{ .. صدقت دائما أن تاريخ الدماء هنا بدأ من حكاية ناسك ، كان يسكن قبوا قامت فوق أطلاله فيما بعد تلك البناية الزجاجية الضخمة التي صارت رمزا للمدينة الشاحبة .. } [4] .
ثم نتبين أن الناسك ظل يقرأ في مجلد ضخم يظنه الآخرون كتابا مقدسا ، بينما لم يكن سوي تاريخ غرامه السري :
{ .. كل صباح ، كان يمد أصابعه الخشبية النحيلة نحو المجلد الضخم : تاريخ غرامه السري . كان جميع من يتلصصون عليه أثناء تفحصه له بوجل – بينما تُغرق دموعُه جلبابه المهترئ – يضنونه كتابا مقدسا .. } [5] . فعلي الرغم من نزوع التفكير مباشرة عند ذكر الناسك ، وعنده يصبح القتل قتلا صوفيا ، أي القتل في الآخر ، أو التماهي في الآخر ، إلي جانب أن النظرة الصوفية تري في الموت الخلاص من متاعب الدنيا وعذاباتها :
{ إن أردت الانتقام من ألد أعدائك دعه يحيا ….. } [6] .
إلا أننا نتبين أن الحياة ، الحب ، الغراميات ، هي كتابه المقدس . وعلي نهجه سار الحالمون من أبنائه وأحفاده علي اتساع القاهرة التي أصبحت باهتة . ليصبح التماهي بالحب والعشق في الآخر ، هو السعي نحو التطهر من أدران الحياة النمطية الكابوسية ، العبثية التي نجح الكاتب في تصويرها باسلوب شاعري يحفل بالإيحاءت والكنايات والمعاني التفجرة ، من خلال مجموعة من المتقابلات التي تصنع حراكا يدخل القارئ في دوامة من البداية لا يستطيع الخروج منها قبل اكتمال ، التحقق . حيث اختلط فيها
1 – الحلم باليقظة
حين تماهت جارته ” سوسن ” بين الحلم والحقيقة ، بين الجنون والحفظ علي الذكري فبينما { بدأت تنشر كمية ضخمة من ” الغسيل ” علي حبالها .ز هي ملابس زوجها المتوفي وأ[نائها الذين لم تنجبهم } وعلي الرغم من أنها لم تنظر إليه مجرد نظرة . يفاجأ بخطاب غرامي مقذوف بمشبك غسيل في بلكونته ، مؤرخ قبل ستين سنة قبل الآن ، أرسله إليها زوجها من العالم الآخر ، مكررا فيه { لو كنت لا تزالين علي قيد الحياة } ليقوده الخطاب إلي بيتها ، وليجدها ميتة ويتحير فـ { لم أجرب قبل ذلك أن أقتل جثمانا . أي لون سيكون عليه دم امرأة ميتة إذا تجولت مطواة في جسدها ؟} [7] .
2 – الأموات بالأحياء
زحفت بيوت القاهرة إلي المقابر ، وأصبحت المقابر مساكن للأحياء ، وأصبح الموتي يتكلمون ويتعايشون ، فلم نعد نفرق بين الأموات والأحياء :
{ .. بيت ليل ليس سوي غرفة في قلب المقابر ، ويعتقد الكثيرون أن جابر ليس سوي شبح أزرق يزوره في صباحاته .ز خاصة أن أحدا لم ير جابر سوي كحامل للنعوش ………….. عرف أن قتله لجابر سيكون آمنا : إما تخترق المطواة جسده الشبحي ليتأكد أنه ليس سوي حلم يقظة .. وإما أن تنفجر الدماء مخلصة إياه من ذلك القاتل الشخصي ……} [8].
3 – الرغبة والواقع
ينشطر الإنسان بين الرغبة والقدرة ، بين التفكير والواقع . تطير الطائرات الورقية في السماء ، بينما يد ما تمسك بها إلي الأرض ، ويتطلع الرجال إلي الطائرات في السماء بينما هم مقعدون علي كراسيهم المتحركة ملتصقين بالأرض ، وكأنها الرغبة في الانطلاق ، بينما لا يفعلون ما يسمح لهم بتحقيق هذا الحلم :
{ .. بدأ سرب الرجال علي كراسيهم المتحركة يحتل الشارع . طفس يومي شاذ في نهارات الضاحية . يأتون من ناحية النادي القريب . هم أيضا ينظرون كثيرا للطائرات ، ربما لأنهم يعتقدون أن السماء ليست بحاجة لساقين سليمتين كشرط للتحليق .. } [9] .
4 – الداخل والخارج
اعتاد – السارد – أن يسجل كل شئ علي جسده حتي امتلأ جسمه :
{ فكرت منذ قليل أن أضيف وشما جديدا إلي جسدي ، غير أني اكتشفت بحسرة – في مواجهة المرآة ، بينما أفتش عن مكان خال – أنه لا توجد مساحة فارغة فيه . فبامتداد صدري وبطني وذراعيّ، والحال نفسه مع ظهري ، كانت الأيقونات وسطور الشعر التي توالت في أزمنة عديدة ……..} [10] .
غير أن سطور الشعر هذه مخبأة في الداخل ، معزولة عن الخارج :
{ .. رغم أنني أضطر لارتداء قمصان مقفولة ذات أكمام علي الدوام ، وداكنة كي لا تنجح عين فضولية في اختراقها لمشاهدة ما تخفيه . } .
في تأكيد لثنائية الحياة ، التي لابد تنعكس علي ثانية الشخصية القاهرية وتفتتها وانهيارها في النهاية.
لذا عندما تبدأ ” هناء ” في خلع ملابسها قطعة قطعة في بلكونة بيته ، وتقذف بها إلي المتطلعين في الأسفل ، وهي تتراقص ، وكأنها البجعة ، ترقص رقصة الوداع ، لتكتمل الدائرة ، وتتم الحياة دورتها عندما يتحقق التوازن ، عندما يتخلص الإنسان من قشرته الخارجية ، وينكشف علي الداخل ، فتتم القصيدة ، وبها يشعر القارئ بلذة الوصول إلي بر الأمان بعد رحلة طالت – رغم قصرها – في تيه الحياة القاهرية الصاخبة :
{ بطرف لساني بدأت أتذوق دمي للمرة الأولي .
الجرح ليس غائرا ولكنه خالد .
انحنيت والتقطت ما تبقي من ملابسها . طوحت القطعتين الصغيرتين إلي المنتظرين في الشارع ، ثم انتزعت المطواة من بين يديها بخفة ، لأكتب قصيدتي النهائية .} [11] .
ولتصبح الكتابة هي التحقق ، وهي التواؤم المشود لإنسان العصر الذي مزقته صراعات الحاضر ، وحاصرته حتي بات وحيدا وسط الجموع المحتشدة ، مشردا وسط البنايات المتعالية ، في رؤية كابوسية ، لايفيق منها القارئ إلا بالاستيقاظ والتنبه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – هدوء القتلة – طارق إمام – ميريت – الطبعة الأولي 2007 .
[2] – جون ميلتون – الفردوس المفقود .
[3] – الرواية ص 73
[4] – الرواية ص 9
[5] – ص 11
[6] – ص 15
[7] – الروايو ص 88
[8] – ص 15
[9] – ص 36
[10] – ص 27
[11] – ص 112