حاوره: أحمد عبد اللطيف
يلعب الروائي طارق إمام في روايته الجديدة” الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس” لعبة خطيرة، لا يكتفي فيها بخلط الواقعي بالخيالي، بل يكتب التاريخ ويزيف ما هو موثق فيه. إنها لعبة يختلط فيها بورخس، الذي اشتهر باختراع التاريخ، بساراماجو، المشهور بتفكيك التاريخ ومساءلته وتزييفه أيضاً خاصة في روايته “عام موت ريكاردو رييس”. غير أن صوت كليهما يبدو خافتاً، مجرد خلفية بعيدة، في مواجهة بصمة إمام التي تهجر كل الطرق التي سارت فيها الرواية التاريخية من قبل، لتسير في طريقها الخاص. تصنع رواية قسطنطين كفافيس، كذلك، قطيعة مع الروايات العربية التي تناولت التاريخ الرسمي بالتأكيد عليه، خاصة الرواية المحفوظية والستينية، متخلياً عن فكرة الإسقاطات التاريخية التي صارت مذهباً في هذا النوع من الرواية، ليكون مذهب الشك والتحريف هو العقيدة الحقيقية التي تحرك الأحداث.
حاوره: أحمد عبد اللطيف
يلعب الروائي طارق إمام في روايته الجديدة” الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس” لعبة خطيرة، لا يكتفي فيها بخلط الواقعي بالخيالي، بل يكتب التاريخ ويزيف ما هو موثق فيه. إنها لعبة يختلط فيها بورخس، الذي اشتهر باختراع التاريخ، بساراماجو، المشهور بتفكيك التاريخ ومساءلته وتزييفه أيضاً خاصة في روايته “عام موت ريكاردو رييس”. غير أن صوت كليهما يبدو خافتاً، مجرد خلفية بعيدة، في مواجهة بصمة إمام التي تهجر كل الطرق التي سارت فيها الرواية التاريخية من قبل، لتسير في طريقها الخاص. تصنع رواية قسطنطين كفافيس، كذلك، قطيعة مع الروايات العربية التي تناولت التاريخ الرسمي بالتأكيد عليه، خاصة الرواية المحفوظية والستينية، متخلياً عن فكرة الإسقاطات التاريخية التي صارت مذهباً في هذا النوع من الرواية، ليكون مذهب الشك والتحريف هو العقيدة الحقيقية التي تحرك الأحداث.
يقدم صاحب “هدوء القتلة” رؤية جديدة للرواية التاريخية في عمله الجديد، فيتناول حياة كفافيس ومن خلاله تاريخ إسكندرية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، بطريقة لا يمكن فيها فصل الحقيقي من المحرّف، طارحاً سؤالاً حول معني “الحقيقي” في الأدب. غير أن السؤال الذي يصعب الإجابة عنه معرفة إن كانت الشخصيات الأخري التي صاحبت كفافيس وجدت بالفعل أم هي محض خيال؟ تثير الرواية كذلك عدداً من الأسئلة حول الأدب، واللغة، والتقنية، وتعدد الأصوات بشكل كثيف، وتخلي إمام نفسه عن عوالمه الضبابية ولغته المزخرفة من أجل عالم واضح وملموس ولغة بسيطة لا تخلو من الشعرية، ولعل السؤال عن تأثيرات أدب امريكا اللاتينية في كتابته يأتي مناسباً لطرحه في عمله الجديد.
في البداية سألته: لماذا الكتابة عن الشاعر قسطنطين كفافيس؟
لأن الكتابة عن شخصية وجدت بالفعل تشترط، في رأيي، أن تكون مستفزة فنياً بالدرجة الأولي وأن تكون قادرة علي طرح أسئلة عميقة فيما يخص صراع الفرد مع العالم والوجود. لذلك، رغم حبي لكفافيس، إلا أنني لم أكتب عنه لأنه أعظم شاعر مثلاً، بل لأنه استفزني علي أكثر من مستوي ومنذ فترة طويلة. أنا مفتون بالشخص القادر علي كشف مدينة من خلفه، وبدورها المدينة القادرة علي كشف عالم. لهذا استفزني في “هدوء القتلة” مثلاً، سالم غير الموجود في الواقع، لكنه القادر علي كشف القاهرة في سياق المدينة الفنية التي بوسعها أن تكون صورة العالم. في كفافيس، الموضوع فيه هذا التشابه، حيث كشف الإسكندرية، المدينة الخاصة جدا، والقادرة علي تجاوز نفسها في الوقت نفسه لتصبح صورة للعالم.. ثانياً، لأن كفافيس كشخصية روائية كان رهاناً كبيراً ومثالياً لفكرة الشخصية التي تناديني لإعادة كتابتها وتأويلها حتي لو وجدت، لأن حياته الحقيقية هي في الحقيقة حياته السرية غير المعلنة. والبحث عن كفافيس هو البحث عما لم يقله أحد عن كفافيس. العتمة والسر هما مفتاحا شخصية الشاعر السكندري كما رأيته، وهما مفتاحان في لعبة الكتابة كما أراها وكما أحبها. من ناحية أخري، سؤال “الهوية” يجد هنا لنفسه ملعبا مثالياً، هذه رواية عن الإسكندرية بقدر ما هي رواية عن أحد شخوصها الاستثنائيين. ما الذي يمكن أن تقدمه لك مدينة علي ذلك القدر من الاتساع والتشوش والسؤال عن الطبيعة الأصيلة لها؟ كيف تري المدينة نفسها من خلال شاعرها الذي لا تنتمي لغته لها، وكيف يراها شاعرها ومراياه؟
كفافيس الموثّق يبدو غائماً في مقابل كفافيس الذي كتبت عنه، حيث الحياة الكاملة المحاطة بأحداث وشخصيات ومواقف ومناسبات لكتابة القصائد. ما بين روايتك والمعروف تاريخياً، أين كفافيس الحقيقي؟
كفافيس الحقيقي هو شعره، هذا هو الشيء الوحيد الذي أنا متيقن من وجوده. لقد قرأت سيرته في أكثر من مصدر، وفوجئت بأشياء مذهلة، منها أن أغلب التواريخ المفصلية في حياته غير متفق عليها: موت أمه(وهي شخصية محورية) له خمسة أو ستة تواريخ. تاريخ ميلاده أيضاً مختلف فيه، بعض المصادر تقول إنه 17 إبريل وأخري تقول 29 إبريل، أي يوم وفاته نفسه. لذلك، علي المستوي الدرامي، أنت مضطر للبحث عن تاريخ يناسب رؤيتك، وبالتالي اخترتُ أن يكون يوم ميلاده هو يوم رحيله. هكذا، جزء من لعبة الوهم جاءني من اللحظة الأولي، من معطيات سيرته ذاتها. أضف إلي ذلك أن التاريخ المحدد لعمله في البورصة أو الصحافة كان مختلفاً فيه طول الوقت.
لهذا كتبت في آخر الرواية “لكني أيضاً مدين لهذه المراجع، لأنها أعانتني في الحقيقة، وبالقوة نفسها، علي تحريف وقائع أخري أو اختراعها في النسيج التخييلي للعمل”؟
بالضبط. من المثير أن حياة كفافيس، وهي تنتمي للتاريخ الحديث حيث عاش في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، تشهد كل ذلك اللغط الكبير حول تاريخه الخاص، ما منحني فرصة ذهبية لأحقق طموح الروائي لإعادة كتابة حياة أخري تحققت في الواقع.
القاريء لأعمالك السابقة ولروايتك الجديدة يلاحظ اختلافاً كبيراً في اللغة، لقد تخليت عن الزخارف اللغوية بشكل كبير لتصير لغة أكثر نعومة ووضوحاً، تشبه إلي حد ما لغة قصائد كفافيس نفسه. أيمكن تفسير ذلك بأنه سؤال اللغة المستمر عند الكاتب؟
هذا هو الفرق الجوهري بين الروائي والشاعر، أسلوب الشاعر في ظني يتحقق بالدرجة الأولي في لغته، في حين أن أسلوبية الروائي تأتي من العالم الذي يرصده والقدرة علي النطق بأصوات شخوصه ووعيهم. لهذا، فالروائي ليس له لغة واحدة، بل قابلة للتغيير من عمل إلي آخر. ومن هنا أري أن الأسلوب الحقيقي للروائي هو رؤيته للعالم وقدرته علي البناء السردي وتحريك الشخوص وتعميق الجدل بين الأصوات. بخصوص لغتي في “الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس”، فرأيي أن الشكل لا ينفصل عن المضمون، إنها ثنائية وهمية، فالحكاية تُخلق مع بذرة اللغة الخاصة بها. هكذا، حاولت تحقيق أكثر من مستوي، منها التناص مع لغة الشاعر نفسه، فأنا ملتبس بلغة شاعر وعالم شاعر، ومحاولة أن أجد لهذه اللغة الشعرية موازياً سردياً كان رهاناً صعباً، لذلك هناك مناطق شهدت لغة شعرية واضحة، لأنني تبنيت فيها لغة توازي وجود كفافيس وفق تصوري، ( كيف تستحضر شاعراً في حكاية، بلغة قادرة علي بعثه روائياً كشخصية وشعرياً كفضاء؟). هناك مناطق أخري فرضتها أيضاً طبيعة الرواية أقترب فيها من لغة المؤرخ وأحاكيها في حياديتها المتوهمة، وفي عريها من الجماليات والزخرفة. لكن الصعوبة الكبري كانت في تعدد الضمائر والرواة، فكل شخصية أيضا لها صوتها، ووعيها بالعالم، وموقفها الثقافي والطبقي من كفافيس ومن الإسكندرية معاً، وهذا كان تحدياً آخر للغة.
تبدو تقنية الرواية معقدة، هناك السارد الضمني الذي يكتب روايته، هو المؤلف نفسه، وهناك ألكسندر سينجوبوليس الذي يكتب مسودة رواية عن كفافيس في الخفاء، وكفافيس يقرأها في الخفاء أيضاً ويبدي آراءه النقدية فيها، وقصاصات ألكسندر التي هي المادة الخامة لمسودة الرواية، وهناك الشخصيات التي تسجّل بصوتها كتابات أخري وانطباعات تصب في كشف وجوه كفافيس الأخري. كل هذا خلق مستويات متعددة في اللغة وفي السرد، هل كان المقصد منه سد ثغرات قد يتسرب منها الملل للقارئ أم أن هناك ضرورات فنية أخري؟
مستويات اللغة نابعة أولاً من مستويات السرد، ف”الحياة الثانية” هي في الحقيقة رواية داخل رواية داخل رواية.. أي ثلاث روايات متداخلة، تفض الواحدة منها لتواجهك الأخري.. والحكاية هي التي فرضت علي هذه البنية، فهناك حكاية إطارية، تتبع كفافيس وهو يتلصص علي المخطوط الذي يكتبه عشيقه ألكسندر عنه، ثم: هناك مخطوط عشيقه نفسه الذي نقرأه مع كفافيس داخل الرواية، والمخطوط بدوره يقوم علي مستويين، مستوي يبدو حقيقياً، يفكر فيه ألكسندر في الرواية التي يطمح في كتابتها، بمنطق تأملي، ومستوي تخييلي هو الرواية التي يكتبها.. هذه البنية المركبة تفترض أكثر من لغة.. خاصة وأنني لجأت إلي الكتابة علي الكتابة، أو تعرية الكتابة، أو الكتابة عن الكتابة، لأنني رأيتها الطريقة المثلي لما أردت أن أفعل.. ولعلك تلاحظ أن الرواية فيها أربع مستويات طباعية علي مستوي “البنط”، هي في الحقيقة أربعة مستويات لغوية.
تقدم الرواية أيضاً رؤية نقدية من داخلها، تقوم فيها بدور الكاتب والناقد في نفس الوقت. ألا تري أن ذلك قد يضر بالنص؟
هناك من يفترض ذلك، ظناً أن الرواية تكون أفضل كلما خفتت الأفكار المجردة. رأيي مختلف، فشخصية مثل كفافيس لا يمكن أن أقاربها دون مقاربة ذهنها ووعيها المجرد بالوجود والفن وتأملاته. كل هذا جزء من العمل الروائي ولا يقع خارجه. لم تكن لهذه الرواية أن تكتمل دون الصوت النقدي: كفافيس يقرأ رواية مكتوبة عنه، وبالتالي، لا يمكن أن يفعل ذلك دون تقديم رؤيته الجمالية والثقافية. وكانت إحدي رهاناتي في الرواية ليس تقديم كفافيس وهو يكتب، بل كفافيس وهو يقرأ. ما الذي يمكن أن يقوله كفافيس عندما يجد نفسه متورطاً في لحظة في نص لابد أن يقرأه؟ ما ملاحظاته الفنية والنقدية الممكنة؟ بتقديم كفافيس القاريء، طرحتُ سؤالي: هل يمكن أن تكون الرواية التي يكتبها عشيقه عنه حقيقية؟ وهل تصلح كمرجع عنه؟ نفس السؤال يطرحه كفافيس الفرد، بينما كفافيس الشاعر يسأل سؤالاً أعمق عن وجود شيء حقيقي من الأساس، وهو ما يبرر الصراع المستمر بينه وبين ألكسندر، كاتب المسودة، ومحاولات إيذائه والسعي لتغيير أدواره من عشيق لخادم لشاعر مبتديء لابن صديق قديم، بحيث كلما صارت مسودة رواية ألكسندر عن كفافيس متجسدة، كلما خفت وجود الكسندر نفسه.
لكن كفافيس لم يلجأ لتمزيق مسودة رواية ألكسندر، ولا طرده، بل كان يمده بمعلومات تساعده علي الكتابة؟
لكنه يمده بمعلومات مزيفة، أحداث لم تحدث، ومكاتبات لم يرسلها، مثل مراسلاته مع فورستر. إنه لم يمنحه شيئاً من حقيقته. كفافيس وجد نفسه في لعبة لا يستطيع الفكاك منها. لو مزق مسودة عشيقه فسيكتبها العشيق مرة ثانية، لكن لو وجد لنفسه دوراً في اللعبة، فقد ينتصر.
إحدي المشكلات التي قد تواجه القاريء فضوله في معرفة الشخصيات الحقيقية التي وجدت بالفعل والشخصيات المتوهمة، وإلي أي مدي حدث تحريف للشخصيات الحقيقية؟
قرأت اسم ألكسندر سينجوبوليس (في شذرات نادرة لم تقل عنه إلا أنه كان عشيقاً متأخراً لكفافيس).. فورستر بالطبع شخصية وجدت وعاش في الإسكندرية وكان صديقاً لكفافيس، كذلك أسرة كفافيس، ومترجمه فالسوباولو، وكريستينا صاحبة كافتيريا إيليت، وبعض الشخصيات الأقل حضوراً في الرواية من مثقفين ومترجمين.. كل هذه الشخصيات لها جذور في الواقع.. بقية الشخصيات متوهمة، وهي عبد الفتاح وفتنة وكلوديا وثيوفوليس وديمتري. والغريب أنني بعد بنائي للشخصيات بفترة لم أعد أفرق بين الحقيقي والمتوهم، فكلها دخلت مجمرة الشخصية الروائية، والشخصية المختلقة صارت تناضل لتبدو حقيقية، مثل الشخصية الموجودة بالفعل. لذلك أعتبر كل الشخصيات روائية، فكريستينا مثلاً لا يُعرف عنها غير أنها كانت صديقة لكفافيس ومالكة إيليت، وكان عليّ أن أخترع لها حكاية، لا وجود لها من الأساس، تبدو حقيقية. أما فورستر فاعتمدت علي بعض المعلومات واختلقت معلومات أخري، لكني وأثناء بناء شخصيته الروائية تخيلته مصاباً بفوبيا النار ولديه هاجس الموت حرقاً، والغريب أنني عثرت بعد ذلك علي خطاب أرسله لكفافيس يتحدث فيه عن كتابه “الإسكندرية تاريخ ودليل” الذي حرقت طبعته الأولي كاملة، وأتت النار علي كل ما أنجزه عن الإسكندرية. هذا الاكتشاف أوصلني لحقيقة أن التخمينات أحياناً قد تؤدي إلي الحقيقة، والخيال قد يكشف المجهول.
نصف الشخصيات التي اعتمدت عليها، إذن، مختلقة. ماذا لو اعتمدت فقط علي الشخصيات الحقيقية.. كيف سيكون شكل الرواية؟
لا يمكن الجزم بأن الشخصيات المختلقة لم تكن حقيقية، فلابد أن هناك شخصيات شكّلت عالم كفافيس. شاعر مهم في هذه المدينة يفتح الباب، مثلاً، لشاعرة مصرية تتردد علي بيته. لو وجدت في تاريخه هذا النموذج لاشتغلت عليه، لهذا وجدت ضرورة فنية لاختراع فتنة كشاعرة مصرية. هناك سؤال شغلني وأنا أحاول مقاربة كفافيس: ماذا لو أن هناك امرأة تري في كفافيس المثلي الرجل الذي تريده؟ هذا السؤال بدأت علي أساسه تكوين شخصية فتنة. هي أيضاً شخصية ملتبسة بمفردة، كنت أريد تعميقها في الرواية لتشبة الترام، رمز المدينة، فتتحرك به، ولما تقرر الموت تمشي بموازاة خطيه. الشخصية المفترضة هنا تختلط بأفكار الرواية، دون أن تتحول لمحض فكرة: أن تكون مجسدة وفي نفس الوقت حاملة أفكار. أما عبد الفتاح فقد قرأت في إحدي الكتب اسم توتو، كان شاباً تربطه علاقة بكفافيس في فترة ما، فاستبعدت أن يكون اسمه توتو في الحقيقة وأسميته عبد الفتاح، وخلقت الشخصية الروائية المختلقة لأنه كان يمثل قطاعاً بعينه. كفافيس كان يلتقط الشباب المصريين من المقاهي الرخيصة، وكان توتو نموذجاً لهذا العالم. بهذه الشخصية أكشف صراعاً من نوع آخر، صراع طبقي بين فقير معدم وثري مرفه، وصراع ثقافي بين شخص أمي وشاعر، وصراع حضاري في نهاية الأمر بين مصري سكندري وأوروبي أبيض من السادة. بهذه الطريقة نفسها يمكن قراءة ديمتري كشخصية مختلقة تعكس يهود إسكندرية في تلك الفترة، وكلوديا كامرأة إيطالية مريضة بالشاعر، شاعرها المفضل، ومريضة بوجودها علي مستوي أعمق.
داخل الرواية أيضاً هناك إعداد لمسرحية عن كفافيس، يقوم فيها ديمتري بدور الشاعر بينما تقوم كلوديا بدور أمه، وفي الوقت نفسه تؤدي فتنة دور الأم في حياة كفافيس في الواقع الروائي. ما كل هذه الأقنعة؟
المقصود من بنية الرواية في الأساس أن يكون كل شخص هو كفافيس ما بمعني من المعاني. لذلك فكل الشخصيات أقنعة أخري لكفافيس ومرايا له. كنت أريد، كما كتبت في مكان ما من الرواية، أن يتفرق وجهه علي وجوه من يتصلون به، كأنه موزع علي برك ماء صغيرة متماسة.. ألكسندر يكتب عن كفافيس، وهو يتقمصه. فتنة تتقمص دور أمه، كلوديا تمثل دور أمه، ديمتري يمثّل كفافيس علي خشبة مسرح. ومن خلال كل هذا نكتشف كفافيس. ومع كل هذا، نجد هيليني (أخته التي ماتت قبل أن يولد) التي جاء الشاعر إلي الحياة بديلاً لها، لو لم تكن هيليني ماتت، ما جاء كفافيس للحياة. هيليني أيضاً، التي تقدمها الرواية كشبح، تحمل وجه كفافيس العجوز رغم أنها تظهر كرضيعة.. لهذا أيضاً، هناك مشاهد داخل الرواية لكفافيس في حفلات تنكرية، لاحظ أيضاً أن كفافيس كان يتنكر في زي سيدات ليصطاد عشاقه. هناك طول الوقت تنكر وأقنعة، وأنا أكتب عن شاعر لا أري سوي أقنعته المتعددة. لهذا فعنوان الرواية هو “الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس” هذه الحياة المقنّعة والخفية.
الكتابة عن كفافيس بهذا الشكل تثير سؤالاً آخر حول الرواية التاريخية، فأعمال محفوظ التاريخية مثلاً وكذلك “الزيني بركات” للغيطاني وروايات أمين معلوف، لم تهدف هدم التاريخ الرسمي ولا حاولت الخروج عليه بقدر ما اهتمت بتقديم رؤيتها له أو استخدامه كقناع لإسقاطات علي ما هو راهن. كيف تري الرواية التاريخية في تعاطيها مع التاريخ الرسمي؟
رأيي أن الشك هو المفتاح الأساسي الذي يجب أن يستخدمه الفن الروائي عند تطرقه للتاريخ سواء من خلال شخصية تاريخية أو حدث تاريخي. التاريخ وهم ينبغي أن نجيد اختراعه، والتخييل في الحقيقة هو ابن الشك. بهذا لا أتصور أي عمل فني قائم علي خطاب جمالي ورؤية فردية يقترب من التاريخ ليتصالح معه، أو يقول ما قد قيل بالفعل، أو ليؤكد ما هو مؤكد تاريخياً. وهذا هو مدخلي للرواية التاريخية كقاريء وككاتب. أما الإسقاطات فهي، في رأيي، ترجمة بسيطة أنا ضدها في الفن، وأري أن مشكلة الرواية التاريخية العربية أنها تعاملت مع التاريخ باعتباره نصاً مقدساً. وأنا بدوري أسأل: عندما يكون تاريخ شخص مثل كفافيس أو سيرته المثبته علي كل هذا القدر من التناقضات والتشوشات وغياب الحقائق والفجوات.. فأي أمانة، بالمقابل، يمكن أن نطلبها من الروائي أو الفنان؟! وكذلك أسأل: إذا كان التاريخ هو في نهاية المطاف وجهة نظر المؤرخ المرتبطة بإيديولوجيته وأفكاره وانحيازاته، ألا يكون من حق العمل الفني أن يجادل وجهة النظر تلك حد دحضها إذا لزم الأمر لتقديم تصور آخر؟
في إحدي الروايات الإسبانية الجديدة، تناول خابيير رويث الحملة الفرنسية علي مصر بناءً علي ليلة قضاها نابليون داخل الهرم الكبير، وهي الليلة التي لم تتوافر معلومات عنها تاريخياً. هل تعتقد أن غياب المعلومات يفتح مجالاً أوسع لكتابة الرواية التاريخية؟
الأمر يختلف من كاتب لآخر طبقاً لرؤيته للفن. أنا شخصياً أميل لمزج الميتافيزيقي بالفيزيقي، أميل للخفي والسري وغير المعلن وما هو قابل للتأويل.. وبالتالي فغياب المعلومات يساعدني علي التحريف الضروري في خطاب فني، والقادر علي الإقناع الفني، وأعترف أن نقص المعلومات منحني فرصة ذهبية لتخمين ما قد حدث. في “كفافيس” مثلاً أدهشني أنه قضي في لندن سبع سنوات مع أمه وإخوته، وهي فترة مهمة لأنه ظل ينطق بلكنة إنجليزية لآخر حياته كما ظل يرتدي ملابسه علي النمط الإنجليزي متأثراً بهذه الفترة، مع ذلك لم تُسجّل أي معلومة واضحة عن سياقات كفافيس في هذه الفترة. هكذا وجدت الفرصة سانحة لإعادة تخمينها. خاصة وأن هذا حدث رئيسي جاء بعد إفلاس أسرته في إسكندرية، كما كانت فترة تكوينه(سافر وهو في التاسعة وعاد في السادسة عشرة) وهي الفترة التي قرأ فيها وتأثر بالثقافة الإنجليزية، وتكشف كيف غادر الإسكندرية طفلاً وعاد اليها مراهقاً، وبالتالي فهي فترة مهمة لربط كفافيس بالإسكندرية. كذلك الثلاث سنوات التي عاشها في الآستانة، حيث مارس علاقته المثلية الأولي وكتب قصيدته الأولي، إنها محطات لم يؤرخ لها أحد، فكان من الضروري أن أسلط عليها الضوء في الرواية. بشكل عام، الخفي في حياة كفافيس يغوي الروائي لكتابته. لهذا كانت فكرة الرواية داخل الرواية ضرورية، فهذه الأجزاء مضمنة في مسودة ألكسندر الذي يخمّن، والقاريء بالتالي يعرف أنه يقرأ رواية داخل رواية، وليست الحقيقة المثبتة. إنها لعبة الشك.
تبدو أعمالك السابقة وروايتك الجديدة خصوصاً متأثرة بأدب أمريكا اللاتينية، ما بين واقعية ماركيز السحرية وتزييف بورخس للتاريخ وارتياب ساراماجو في الثوابت وتفكيكها.. كيف تري ذلك؟
لا أنكر حبي وتأثري بأدب أمريكا اللاتينية، لكن حضور بورخس وساراماجو في رواية “كفافيس” ليس إلا حضور التصور، تصورهم هم عن التاريخ الذي يتفق معي وليس عوالمهم المعروفة. وللدقة، فبورخس راح في مدي أبعد مني بكثير، إنه يكتب تاريخاً لم يوجد البتة إلا في مخيلته، إنه الوهم الكامل. بينما وهمي ملتبس بالحقيقة، لهذا فساراماجو أقرب لي في هذه المنطقة، حيث الخلط بين الوهم والواقع من ناحية، ووجود فيوض تأملية من ناحية أخري، وحيث الذهنية ومساحات التأمل الواسعة، وهو ما لم يصنعه بورخس، صاحب الحكاية المغلقة القصيرة. كلها طرق في تعاطي التاريخ فنياً، تختلف عن طريقة أمين معلوف، التي لا أميل لها رغم اعترافي بقيمته. لكن في النهاية لكل كاتب أسرته التي يشتبك معها ومع ما تركته من تراث بقدر ما يشتبك مع ذاته.
أخيراً، ما تصورك لما يمكن أن تكون عليه الرواية المصرية في السنوات القادمة وهل من تأثيرات للثورة عليها؟
ربما تتصل الرواية أكثر بالواقع السياسي بعد أن ظلت كثيراً تلف وتدور في سياق الواقع الاجتماعي فقط وكأن السياسة غير موجودة وغير مؤثرة في ما يعانيه الفرد، وذلك المأزق وقعت فيه بالذات الرواية الواقعية حتي عند بعض الكتاب المسيسين. سؤال “السلطة” في ظني هو ما يحتاج التفاتاً واضحاً من الرواية في الفترة القادمة، لم نسمع برواية عربية كبيرة تمحورت حول الديكتاتور مثلا كما هو الحال في آداب أخري. أتمني أن نلتفت لذلك، وأعتقد أن الرواية المصرية ستلتفت لتفتيت كلمة “الثورة” إلي تفاصيل ومفردات وشخصيات إنسانية قادرة علي مراجعة ذلك السياق بالفن، بحيث تصبح الثورة موضوعاً روائياً يبطن الأفراد، وليس أفراداً علي هامش الموضوع. الرواية في نهاية المطاف عالم يحكيه فرد، ويحكي أفراداً.