النظريات الحديثة قدمت تصورا جديدا عن المكان رصدت فيه توسعه مع الزمن بناء على ما تم رصده من تباعد للمجرات عن بعضها البعض. وثمة مقولات ودراسات كثيرة كتبها هيغل ونيوتن وديكارت وبرادلي وكانت ولايبنتز وغيرهم.
“المكان العراقي” له صور. وها نحن نتفاعل مع صوره كلها. لكن الصورة الاخيرة ميتة مستفزة ومحرضة تجبرنا على خوض تفاعل تراجعي ارتدادي مع المكان يعيدنا الى الصورة الرحمية. الصورة الاخيرة ميتة والاولى حية، وبين موت الأخيرة وحياة الأولى لا بد من العثور على توازن في أوهن مستويات استقراره ليجنبنا الجنون.
“المكان” فاعلية متحركة تخترق إدراكنا وتسهم في تحديد نوع التفاعل والتعاطي بين حواسنا وبين الوجود وهذا التفاعل يستلزم محاولة لإعادة التوازن في مشاعرنا المهانة ويبدو أنه استدعاء واجب وطارئ ومفروض في ظل استمرار حركة المكان باتجاه المزيد من الخراب. لم يعد المكان مؤثر أحادي ثابت بل هو شبكة من العلاقات والرؤى. علاقات مكانية انتجت تفاعلا متعدد المشاعر في اتجاهاته وحركاته.
أظن أننا بحاجة إلى إعادة توازن في تفاعلنا مع موت الأمكنة ومحاولة تقديم رؤية جديدة قادرة على تقديم تفسيرات لفوضى تصادم ما يجري في الواقع مع ما تنتجه الذاكرة من إسقاط للصور الرحمية وما نستدعيه من احباط مشاعرنا بعدما فقدت الأمكنة كل ملامحها وخصائصها.
قلت في احدى رواياتي على لسان بطلها:”
لقد اعتدتُ، أنا ابن البصرة أن أرى مدينتي مهزومةً مثلي، وتحتاجُ الى معجزةٍ لفكِ خيباتِها، لذلك كلَّما قفزتْ إلى ذهني أسئلةٌ داخليةٌ جديدة، أكبَحُها مرددا:”ما جدوى تكرار هذا الهذيان؟ ما الذي تعنيه الأسئلةُ البليدةُ في دورانِها؟ فكلُّ ما سأثرثرَ به لا يعدو أسخفَ من حفنةِ كلامٍ متأخرٍ عن تحطيمِ مدينةٍ دَفنت نفسَها بنفسِها في تراكمٍ مهول”.
لم تعد اشارة الدلالة اللغوية في المعاجم للمكان تعنينا، فهل احتفظ المكان العراقي بمعناه اللغوي كموضع، تماما مثل وكنات الطير ونحوها؟ هل يعني الاستقرار والوجود والثبات في مكان ما؟
يقول شولز:”أن تكون أنت أي أن تكون مكانيا”
لنصغي الى ما قاله بطل احدى رواياتي:”كثيرا ما أذلني اليأس من مرارة التجوال، داخل أزقة غدت عزوفة عن تقبُّل أي احساس يداهمني من خارج خوائها. شاخت البصرة يا “بالاچاني”، غادرت ماضيها رسميا بلا رجعة، وتحولت نهاراتها الى مترادفات مبهمة، قبيحة الوجوه، وفاقدة للوضوح أيضا. لم يعد فيها ما يستوجب التمعن أو يستحق أيّ رثاء. لقد بدا الأمر وكأن بصرةً قديمةً تنزاح، مفسحة لمعاول الخراب رسم ركام دورة جديدة من ويلات أواخر القرن العشرين”.