حاورها: محمد شعير
منذ ربع قرن تقريباً، قررت إيمان مرسال الانتحار. سافرت ذات ليلة شتائية إلى إحدى المدن الساحلية، مصطحبةً معها مسودات ديوانها «ممرّ معتم يصلُح لتعلّم الرقص». في الطريق الطويل، كانت تسأل نفسها: أليس مضحكاً أن تسافر فتاة كل هذه المسافات لتغرق في بحر هذا البرد؟ ثم ماذا؟ هل سأترك مسودة الكتاب على الرمال مثلاً؟. لم تجد إجابة لهذه الأسئلة، لكنها قررت أن تؤجل قرارها لبعض الوقت. تضحك عبر الهاتف: لم تكن المرة الأخيرة، لكنها استبعدت الفكرة تماماً بعد تجربة الأمومة! اختارت مرسال (1966) الانتحار المؤجل كبداية لسيرتها الذاتية التي تعاقدت على نشرها بالإنكليزية (دار سيغال) هي ليست سيرة ذاتية بالضبط.
تقول: «إنها اصطياد عشوائي للحظات تحوّل داخلية من طفولتي وسنوات المنصورة والقاهرة وأجوائها السياسية والثقافية». السيرة الذاتية ليست المشروع الوحيد الذي تعمل عليه صاحبة «المشي أطول وقت ممكن». هناك أيضاً كتابها «أمريكا في كتابة الرحلة العربية» الذي كان موضوع أطروحتها للدكتوراه عام 2009. قبل أسابيع، صدرت الترجمة الفرنسية لـ «مختارات» من قصائدها عن دار «أكت سود» أنجزها المترجم والناقد ريشار جاكمون. «أفرح بالطبع بوصول قصائدي المترجمة بالبريد لكن سرعان ما يحل التوتر محل الفرح. مَن سيقرأ هذه القصائد؟ هل سيكون لها معنى مختلف؟ وأسئلة أخرى لمدة يوم أو اثنين ثم يُنسى الموضوع كله في انشغالات الحياة». تتنقل إيمان مرسال بين الأشكال المختلفة للكتابة، القصيدة، والدراسة النقدية، والنص المفتوح على احتمالات متعددة أو ما تسميه «التجول بين أشكال سردية مختلفة». هي لا تعتبر الكتابة «مهنة»، وإنما «ورطة» تختارها بكامل إرادتك. هي الفعل الوحيد الذي نمارس من خلاله «حريتنا الكاملة»، أو «الحرية الوحيدة التي نعمل من أجلها بإخلاص، ذلك أننا نستحقها. إنها أكبر من الحُريّة التي حصلنا عليها أو حتى طالبنا بها داخل الأسرة والمدرسة والعمل والصداقة والحب». عندما اتفقنا على هذا الحوار، اشترطت: «لا أسئلة حول قصيدة النثر». ولكن الفضول دفعنا لكسر الاتفاق، لتكون البداية بسؤال: لماذا تتحفظين على الإجابة عن أي سؤال يخص قصيدة النثر؟ أجابت: “لأن الأسئلة المطروحة عن قصيدة النثر في ثقافتنا تخص النوع الأدبي، كأن قصيدة النثر ما زالت في حاجة للدفاع عن مشروعيتها. لماذا نستمر في الحديث عن مشروعية قصيدة ساهمت في تطويرها أجيال وأصبحت مشهداً شعرياً أساسياً في ثقافتنا. هناك تعدد مثير في قصيدة النثر العربية؛ مناقشة هذا التعدد أهم من الدفاع عن قصيدة النثر كأنها قصيدة واحدة”.
■ كيف ترين هذا التعدد داخل قصيدة النثر العربية؟
– من متابعتي لمشهدنا الشعري العربي ــ وكلامي هنا لا يخلو من اختصار بسبب طبيعة الحوار ـــ هناك قصائد متميزة بالفعل، يكتبها شعراء من أجيال مختلفة وتسهم الشاعرات العربيات فيها بشكل لم يحدث مع أي من الأنواع الأدبية الأخرى. إذا اهتممنا بمصادر الحوار مع الشعر العالمي؛ فهناك قصيدة نثر أميركية وثانية أوروبية وأخرى تخصّ الأطراف (قصيدة في حوار مع نصوص عشوائية مثل شعر الباشتون، الهايكو، وكتب الحكمة، وحتى مع نصوص روائية). هناك أيضاً قصيدة سركونية وأخرى ماغوطية في ما يخص نبرة الصوت، وهناك قصيدة متعثرة، لكنها تبحث عن صوتها الخاص. هناك قصيدة نثر غنائية، قصيدة عامة ممتلئة بالتفاصيل التي تقف معاً ككتلة تشبه كتلة المجاز في قصيدة التفعيلة. يمكننا مثلاً أن ننظر إلى قصيدة النثر العربية حسب انتمائها للسنتمنتالية الشديدة أو لموقفها العنيف ضد السنتمنتالية. هناك أيضاً قصيدة نثر غاضبة تتوالد بإعادة إنتاج موضوعات مطروقة مثل «الوحدة»، من دون أن تعرف ما هو الاختلاف الأخلاقي بين الغاضب وما يغضبه، إنه غضب طفيلي. هذه الأنواع ليست متجاورة بل متقاطعة. والقصد أن هناك مداخل كثيرة لقراءة التعدد داخل المشهد الشعري العربي.
■ بالنسبة إليك، كيف تأتي القصيدة؟
– ربما تأتي من نقطة غامضة داخلنا، أتخيلها نقطة تتقاطع فيها خبرات ولغات وصُدف وذاكرة ونصوص كتبها آخرون وعلاقات أخرى مبهمة. القصيدة الجيدة عزيزة، ولا أحد يعرف شروطها، ولكن بمجرد كتابتها تصبح عرضة للاستبعاد والاختيار وللعب أيضاً.
■ هل الشعر هو «خلاصة الروح» كما قلتِ في قصيدة لك؟ ماذا تعنين؟
– كنتُ في الخامسة أو السادسة حين أخذتني جدتي معها لزيارة قريب مريض. جلست بجانبها في غرفة مضاءة بلمبة غاز والمريض كان محاطاً بنساء متّشحات بالسواد وفي حداد بالفعل. بدا لي ضعيفاً جداً على السرير العالي حتى إنّني لم أكن أرى إلا صعود وهبوط صدره وهو يحارب من أجل الزفير والشهيق. ظلت النسوة هائمات حوله في ترقب وانتظار حتى زفر بعمق وأنين كل ما في رئتيه من هواء. كأن تلك الشهقة تحمل كل ما هو مدين للحياة به. قفزت النساء بجانبه وأحطنه وسمعت للمرة الأولى تعبير «خلاصة الروح». لم يصرخن إلا بعد تغيير ثيابه ونشر العطر في الغرفة ثم نظرن إلى بعضهن بعضاً كأن بينهن شفرة سرية للصراخ الجماعي. قد يكون الشعر هو خلاصة الروح بنفس غموض هذا التعبير عندما سمعته للمرة الأولى.
■ منذ «اتصافات» (1990)، ما المراحل التي مرت بها تجربتك الإبداعية للوصول إلى «حتى أتخلى عن فكرة البيوت»؟
– بأمانة لا أعرف المراحل بالضبط، ولكن هناك قصيدة تكون حدثاً في حياتك، تعرف بعدها أنك كنت تسعى إليها وتنتظرها. مثلاً أتذكر عندما كتبت قصيدة «جغرافيا بديلة»، شعرت أنني أقبض بشكل أفضل على حيرتي بين أكثر من جغرافيا. أسئلتي عن الهوية، وأيضاً طريقتي في تكوين مشهد سرديّ. بدا الأمر كأني أعبر عتبة حقيقية، كأن عليّ أن أنظر خلفي وأبتسم.
■ نقدياً، عندما تتأملين تجربتك الإبداعية، ما الثوابت التي بقيت معك منذ ديوانك الأول؟ وما المتغيرات؟ هل تغيرت رؤيتك إلى الكتابة الآن، عن رؤيتك لها في البداية؟
– من الأسهل أن أتحدث عن تغيرات في وعيي بفضل التحولات الشخصية والقراءة والزمن أيضاً، ولكن لا أعرف ما تأثير هذه التغيّرات على الكتابة بالضبط. ربما في بداياتي، كان تصوري عن الصدق أخلاقيّاً والآن أراه أكثر تعقيداً من ذلك. هناك أشياء لم تتغير رغم ذلك، منها أنني لا أفرق بين المضحك والمأساوي لا في الحياة ولا في الكتابة، وما زال يهمني للغاية أن يكون للقصيدة بناؤها الخاص بها. أيضاً، ما زالت الدقة تأسرني أكثر من تعدد الدلالات.
■ من الأقرب لك شعرياً: أساتذتك أو أصحاب الأثر الأكبر عليك؟
– أظن أن كل ما نقرأه يؤثر علينا. نتكلم عادة عن تأثير الأدب العظيم، لكن لا يوجد ما يُثبت أن الكتابات المتواضعة أقل تأثيراً. التأثير الفعّال ليس إعادة إنتاج ما قدمه الآخرون، إنه خطوة ضرورية لإيجاد صوتك الشخصي، وبالتالي هناك دائماً عملية معقدة من التفادي والاشتباك والإحلال والإزاحة مع كل نص. قد يكون هناك نص أهم في تأثيره في لحظة ما من هذا الأرشيف من النصوص، لكني أشك أننا واعون به.
■ لكن هل ثمة تحولات في نظرتك الى الشعراء بمرور الزمن. هل هناك من اعتبرته أستاذاً شعرياً في البداية، والآن تغيرت نظرتك له؟
ـ لا، لأنك تتعلم مع الوقت أن تحب قصائد أكثر مما تحب شعراء. تظل القصيدة التي أنارت بداخلك شيئاً مرتبطاً بلحظة في حياتك، حتى لو اكتشفت عيوبها مع مرور الوقت. أنا أشعر بالامتنان تجاه قصائد كثيرة أثرت فيّ قديماً وشكلت تنويراً ما منها مثلاً «غريب على الخليج» للسياب، أو بعض قصائد كفافي بترجمة بشير السباعي، وغيرها الكثير. لقد أعدت قراءة توفيق صايغ وبسام حجار و«منزل الأخت الصغرى» لناظم السيد و«صمت قطنة مبتلة» لفاطمة قنديل في الصيف الماضي وشعرت كأني «بعمل دماغ شعر». الشعراء الذين نحب قصائدهم، يصبحون أصدقاء لنا ولو كانوا قد ماتوا منذ قرون، حتى لو كنا لا نقرأهم بلغاتهم. من لم ينجحوا في أن يكونوا أصدقاء، يصبحون أساتذة أو آباء أو شيوخ طُرق أو قصاصي أثر أو قطاع طرق أو مجرّد عابرين.
■ كيف تتصورين أن تكون شكل قصائدك في المستقبل؟
– ليس عندي تصور، ربما يكون التصور الوحيد المحتمل هو الصمت.
■ الصمت؟ ماذا تعنين بذلك؟ ألا يزعجك التفكير في مجرد التوقف عن الكتابة؟
– احتمال الصمت قائم طوال الوقت ما دمت مشغولاً بإيجاد صوتك. لا أظن أن ذلك مزعج على الإطلاق. الكتابة ليست مهنة، إنها ورطة تختارها بكامل إرادتك. عندما تكون مشغولاً بالصفحة البيضاء أمامك، أو حتى بجملة قلقة داخل نص، يبدو ذلك كأنه كل ما تريده من العالم. كأن كل ما بعده صمت.
■ في شعرك ثمة ولع بالحكاية/ السرد، ما سرّه؟
– أعتقد أنه ولع بالسرد لا الحكاية. سرد القصيدة مفتوح عادة ومليء بالثقوب، إنه شذرات من مشهد، مشهد يطفو في فضاء أكبر منه. سرد القصيدة له زمنه الداخلي ولو كان يشير إلى الماضي أو الحاضر أو المستقبل. الحكاية مسألة أخرى، ليس لأنها نوع أدبي آخر، لكن لأن زمنها منطقيّ حتى لو لم يكن لها بداية ووسط ونهاية، حتى لو كان زمنها أسطوريّاً.
■ ألا يقودك هذا الولع إلى التفكير في كتابة رواية؟
ـ قطعت شوطاً مرة في مشروع كتابة رواية، لكني صرفت النظر عن هذه التجربة تماماً. أعتقد أنني مفتونة أكثر بالقصيدة وبحرية السرد خارج الأجناس الأدبية المستقرة.
■ لكن هل الافتتان بالسرد، هو الذي يقودك إلى ما يمكن تسميته تعدد الأنواع الأدبية داخل النص الواحد، تحديداً في كتابك «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها» الذي كان خليطاً من الدراسة الأكاديميّة والسيرة والقراءات والتجارب؟
– التجول بين أشكال سردية مختلفة هو ما نفعله في الحياة من دون قصد. يشغلك موضوع ما، تتحدث عنه مع صديق، تكتب عنه في يومياتك، تبحث عنه في قراءاتك ومشاهداتك فتتولد أسئلة جديدة. إنه أشبه بتعدد اللغات في ذهن مشوّش. هذا النوع من الكتابة يكون رحلة، يتطور وعيك من خلاله وأنت تكتب، كأنك لا تسبق القارئ بخطوة.
■ الصورة المركزية في نصّ «الأمومة» هي الصورة الوحيدة التي جمعتك بالأم قبل رحيلها. لكن الصورة غائبة في الكتاب؟ هل كنت تعنين ذلك؟ لماذا؟
– نعم، لأن صورة أمي لا تعني للآخرين إلا صورة أخرى ضمن متن الأمومة العام، مجرد صورة لأمهات الآخرين.
■ في هذا الكتاب تحديداً، تبدو الكتابة كأنها نتاج جرح ما.. يلتئم بالكتابة؟
– أظن أن «كلنا مجاريح» كما يقول جورج وسوف، أو أن «في حياة كلّ منّا شرخاً ما»، كما يقول سكوت فيتزجيرالد! الجرح وحده لا يخلق كتابة، كما لا تخلق المعاناة وحدها شخصاً أكثر إنسانية. الكتابة نشاط بشري ينشغل بالمعنى. إنها رغبة في إيجاد معنى للحياة نفسها. ما يفرق كاتباً عن آخر، ليس حجم الجرح ولا تاريخه، بل الزاوية التي يراه بها، الطريقة التي يكتبه بها.
■ هل الجرح مرتبط بالرحيل والغياب؟ رحيل الأم يبدو هو المركز – منطلق الكتابة؟
– قد يكون رحيل الأم مبكراً هو أول شرخ بالنسبة لي، أول سؤال شخصي لا يجيبني أحد عنه. لكن هناك أسئلة لا تقل أهمية تنفتح في رحلة الحياة. نحن أبناء أول أسئلتنا، بمعنى أنها تشكل وعينا المبكر وتصبغ كل سؤال جديد بلونها.
■ هل يمكن اعتبار «كيف تلتئم» استكمالاً لاهتمامك القديم بقضايا النسوية، لكن من وجهة نظر معاكسة أو نقيض لها؟
– أعتقد أن مساءلة الأمومة لا يمكن أن يتفادى الحوار مع ما قدمته الخطابات النسوية عنها، لكن ذلك لم يكن هدفاً بحدّ ذاته وإلا لكنت خرجت بدراسة أكاديمية.
■ لكنك جئت إلى الكتابة من خلفية يسارية، وسنوات من النضال في قضايا المرأة في الجامعة. كيف تنظرين الآن إلى اليسار والنسوية؟
– أعتقد أن التيارات اليسارية العربية لعبت الدور الأكبر في تشكيل الثقافة والوعي والكتابة والفنون عامة في ثقافتنا العربية الحديثة. كلمة «تشكيل» تنطوي على إيجابيات وكوارث بالطبع. ولا أقصد بذلك أنها أسست مشاريع ثقافية كبرى ومؤسسات وأتاحت الفرصة لمن هم مثلي أن يهتموا بالعالم من حولهم فحسب، بل أن يختلفوا أو ينفصلوا عنها أيضاً. بهذا المعنى، كلنا مدينون لليسار العربي بنوع من المعرفة. لكن في هذه اللحظة، لم أعد أفهم ماذا يعني أن تكون يساريّاً، لقد حدث فرز هائل مع الربيع العربي وما تلاه من أحداث وسقط الكثير من اليساريين في اختبار الحريات والطبقات بانحيازهم إلى العسكرة وإلى فكرة الدولة التي تنجو على جثث مواطنيها.
■ وماذا عن اهتمامك السابق بقضايا النسوية؟
– أعتقد أن قضايا المرأة مركزية في كل خطاب يدعو إلى التغيير سواء كان سياسياً أو قانونياً أو اقتصادياً أو تعليمياً، مما يعني أن قضايا المرأة لا يجب تأجيلها بدعوى أن هناك ما يفوقها أهمية. كما يعني أنها لا تخص فقط الخطابات النسوية. هذا بديهي، لكن أظن أيضاً أن نقد الخطابات النسوية نفسها ضروريّ. وحركة «مي تو» مثال على ذلك.
■ ماذا تقصدين بذلك؟
– كانت حركة «مي تو» ضرورية لإعطاء صوت لمن لا صوت لهم، لكشف قصور المؤسسات القانونية – حتى في أكثر البلاد احتراماً للقانون – عن معاقبة من يقوم بالاعتداء أو التحرش الجنسي. لقد نجحت هذه الحركة في توسيع معنى استغلال السلطة، وفي لفت الانتباه لميراث العار الذي يُسكت الضحايا. مع ذلك، يجب نقد هذه الحركة حتى لا تتحوّل إلى شرطة جنسية أو أخلاقية خارج العدالة. لقد أعجبتني مقالات مارغريت أتوود في هذا الصدد، وخصوصاً مقالتها الأخيرة «هل أنا نسوية سيئة». ترى أتوود أن الشفافية والحق القانوني مهمان للمرأة وللرجل بالدرجة نفسها. وتتساءل لماذا تعد المرأة أضعف دائماً بعد كل ما أنجزته. أليست عندها حرية اختيار أيضاً؟
■ العمل الأكاديمي، هل ينال من الإبداع أم يضيف إليه؟ هل الأكاديميا ضد الشعر؟
– لا نشاط إنسانياً ضد الشعر سواء الأكاديميا أو الصحافة أو حتى العمل السياسي. السياق الأكاديمي الراكض والاستسهال الصحافي والفساد السياسي ضد الإنسانية وليس الشعر وحسب. معظم الشعراء الذين يعجبونني في هذه اللحظة يعملون في الأكاديميا ولكن أي أكاديميا؟ ما علاقتهم بالمؤسسات التي يعملون فيها؟ هناك اختيارات شخصية في كل هذا. أنا أستمتع بالتدريس وأحب عملي. أتعلم من الطلبة مثلما يتعلمون مني وأستمتع بالوجود مع أفراد في هذا العمر الصغير. إنه عمر الأوهام والاكتئاب والأحلام الكبيرة أيضاً. العمل الجامعي يسمح لك بأربعة أشهر صيف، بالتفرغ للبحث سنة واحدة كل سنوات عدة. نعم أحياناً، لديك انتقادات للمؤسسة وقد لا تجد الوقت الذي تتمناه. ولكن هناك أيضاً حياة يومية منظمة لك فيها مكتب خاص ومكتبة عظيمة على بعد خطوات منه، وزملاء يشتركون معك بالانشغال بالأفكار.
■ تعاقدتِ مع «دار سيغال» لنشر سيرتك الذاتية؟ أليس مبكراً كتابة سيرتك الذاتية؟
– لا أظن، لأنني لا أكتب قصة حياتي، إنه اصطياد عشوائي للحظات تحوّل داخلية من طفولتي وسنوات المنصورة والقاهرة وأجوائها السياسية والثقافية. هذا المشروع عبارة عن شذرات سردية لا يزيد أطولها عن ٨٠٠ كلمة. لدهشتي، كانت تجربة العمل عليه ممتعة، جعلتني أكثر فهماً وتسامحاً مع سياقات وشخصيات، حتى أنني كنت أقهقه أحياناً وأنا أكتب.
■ لماذا اخترتِ الانتحار بداية للسيرة؟
– لأنها اللحظة التي تكتشف فيها أن لديك حياة حقاً، حتى أنك يمكن أن تتخلص منها.
■ كم مرة فكرت فيها في الانتحار؟
ـ مرات عديدة، كلها قبل أن أصبح أماً.
■ ستصدر السيرة في ترجمة إنكليزية أولاً، قبل العربية. هل لأسباب تتعلق بالاتفاق مع دور النشر أم أن فضاء اللغة الإنكليزية – اللغة الأخرى يتيح لك حرية أكثر؟
– بسبب مبادرة دار النشر وشروط التعاقد.
■ ماذا عن كتابة قصيدة باللغة الإنكليزية بشكل مباشر؟ هل فكرت في الكتابة بها؟
– نعم، أفكر في حالتين: عندما أتعطل كثيراً في مشروع، ينتابني إحساس بأنّ لدي مشكلة مع لغتي الأم، بأنّ صراعي سيكون أسهل مع اللغة الغريبة لأنها في النهاية ليست لغتي. أحياناً يكون نوعاً من الغضب، أشبه بمراهقة تريد أن تترك البيت وتهرب وليحدث ما يحدث.
■ من جمهورك إذن؟ هل يعنيك الجمهور؟
– كل كاتب يظن أن لديه ما يستحق ويتوقع قارئاً يأخذه بجدية. بدون ذلك، سيكون فعل النشر وصناعة الكتاب عبثاً. هناك كتابة تحظى بجمهور وكتابة تستحق قارئاً. كلاهما له وجاهته. في شعرنا الحديث، هناك جمهور لمحمود درويش وجمهور لمحمد الماغوط وجمهور لأدونيس وهناك قارئ لسركون بولص أو أحمد يماني. يمكن أن تجد أمثلة موازية في الرواية. يصبح القارئ أحياناً عضواً في جمهور أو آخر. هناك تقاطعات لا حصر لها. تحدث المشكلة عندما تُقيّم القصيدة بوجود جمهور من عدمه. عندما يكون طموح الكتابة هو التواصل، والتورط، فعدد القراء لا يُعرّف الكاتب ولا يجب أن يؤثر في اختياراته. في السنوات الأخيرة، يمكنك أن تدخل إلى موقع مثل «غود ريدز» وترى ما يكتبه جمهور وما يكتبه قارئ فرد عن كتاب يهمك. عندما أعادت «مكتبة الأسرة» في ٢٠١٣ إصدار ديوانين لي، نزل تقييم هذين الديوانين درجة على الأقل. هناك من يتساءل إذا كان هذا شعر أصلاً. هذا جيد ونحن محظوظون لأننا نعيش في هذا العصر. تحميل الكتب «بي دي اف» ووجود «غود ريدز» وغيره من المواقع، تضعك في اختبار أمام قارئ جديد لم يكن ليسمع عنك بدونها. أيضاً يجعلك تتواضع لأنك لست محميّاً بالنخبة التي تقرأ الشعر.
■ يلاحظ اهتمامك خارج الشعر بقضايا المنفى/ الهجرة/ الغربة… اخترت ترجمة وجيه غالي و«ذبابة في الحساء» مذكرات الشاعر تشارلز سيميك وهو أيضاً مهاجر/ منفي… حتى موضوعك في الدكتوراه عن «صورة أمريكا في كتابة الرحلة العربية». وبين الحين والآخر تقدمين حوارات صحافية مطولة مع مهاجرين مثل حوارك مع كليمنت ليبوفتش لمجلة «أمكنة» ومع الموسيقيّ إميل باسيلي لـ «معازف»، وجميعهم شخصيات خارج مكانها. هل تبحث إيمان مرسال عن إجابات عن أسئلتها الخاصة وسط هذه الاهتمامات؟
– أكيد. يشغلني سؤال وجود الفرد «في غير مكانه». كيف يرى نفسه وكيف يصنع الحيز الضروري ليعمل على مشروعه الذي يعطي معنى لحياته. وفي سياق آخر، كيف يتصور المثقف العربي نفسه؟ وما الذي يحمله معه في رحلة الهجرة إلى الغرب؟ وما الذي ينتقيه من الغرب في رحلته العكسية لوطنه.
■ بالنسبة لك، هل الخروج من مصر منحك إحساساً أكبر بالحرية؟
– بالتأكيد، اسأل أي امرأة عربية زارت الغرب مرة وستحدثك عن حرية الملابس وإحساسها بجسدها في الفضاء العام للشارع مثلاً. بعد تجربة التدريس الجامعي لسنوات طويلة هنا، لا أتخيل نفسي قادرة على العمل في جامعة مصرية. مع ذلك، أشعر أن علاقتي بالحرية تأسست في مصر، في سياق اجتماعي تدفع فيه ثمناً باهظاً لكل سنتيمتر من الحرية الشخصية. الأسبوع الماضي توترت لأن رجل بوليس كان يقف في طابور خلفي ليشتري قهوته. لقد تعجبت أنني ما زلت أخاف من الشرطة رغم أنني هنا ولست هناك.
■ ماذا لو لم يكن هذا الخروج؟ هل سيتغير شيء ما في تجربتك؟ هل الغربة أكثر تأثيراً في تعميق تجربتك الشعرية/ الأكاديمية؟
– الغربة وضعية إنسانية يعيشها الفرد الذي لا يقبل بهوية واحدة صلبة (دينية أو قومية أو جنسية) تتميز عن أو تتعارك مع هويات أخرى. هي وضعية من لا يستطيع التكيف مع ما هو متوقع منه. لهذا قد تكون «الغربة» مصدر إلهام أساس للكتابة في القرن العشرين، لأن معناها أوسع من مجرد البعد عن وطنك، فكثيرون يعيشون غربة متوحشة في أوطانهم. مع ذلك، أنا لا أعرف كيف ستكون الكتابة العربية الحديثة بدون خروج الكثير من منتجيها إلى الغرب. أظن أن الغربة تفتح أبواباً للمعرفة وللجحيم، وتعلمك أن تتفاوض مع كل شيء، حتى مع لغتك الأم.
■ منذ أكثر من 20 عاماً، يروج بعض النقاد أننا نعيش عصر الرواية، وهي بالفعل صاحبة النصيب الأكبر من الجوائز العربية، بينما لا يحظى الشعر بجوائز ذات قيمة. الجائزة الوحيدة «التشجيعية» التي يسيطر عليها كهنة الشعر في مصر تذهب دائماً إلى القصيدة العمودية، كيف ترين الأمر؟ هل إهمال الجوائز للشعر مفيد له أم مضر؟ وهل هذا التجاهل يمكن أن يؤدي يوماً إلى اختفاء الشعر؟
– نحن نشأنا في بلاد لا يحصل فيها أغلب أهالينا على حقوقهم في التعليم أو الأمان أو الرعاية الصحية. سيكون من العبث الحديث عن ظلم أدبي أو نقدي، نحن محظوظون لأننا اكتشفنا الكتابة وهي مكافأة بحد ذاتها. بصراحة أنا أظن أن الشعر يزدهر بعيداً عن أسر الجوائز ومؤسسات الدولة الثقافية. الشيء الوحيد الذي يظلم الشعر منذ عقود هو نشره وتوزيعه. لقد أرسلت مجموعة شعرية رائعة لشاعر مغربي غير معروف ـ وأنا نفسي لا أعرفه في الحقيقة ـ لأربع دور نشر مصرية مختلفة منذ عامين ولم يردّ عليّ أي من هؤلاء الناشرين إلى الآن.
■ ما هي طموحاتك في الكتابة؟
– إكمال المشاريع التي قطعت فيها شوطاً، وتوترني على شاشة الكمبيوتر وبعدها ربنا يفرجها.
• ما الكتاب المؤجل في حياتك؟ لماذا؟
– كتاب عن الصداقة. عندي قصيدة لا أعرف كيف أكملها منذ ٢٠١٣، تبدأ بأن صداقاتي عاشت في القرن الثامن عشر. كلما رجعت إلى هذه المسودة، أتركها وأكتب شذرات سرديّة عن الصداقة.
• لو لم تكوني كاتبة/ شاعرة، ما المهنة التي كنت تتمنين أن تكونيها؟
– لو لم أكن كاتبة، لتمنيت أن أكون عضواً في فريق بحثي في جامعة محترمة يستقصي كيف يعمل العقل الإنساني وكيف يتطور ويُصاب بأخطاء التفكير والجنون والاكتئاب. أتخيل نفسي في رحلة الذهاب اليومية للمبنى حيث كتب ملونة وشاشات عرض ومجسمات طرية لعقول بشرية يمكن أن تلمسها بأصابعك. أتمنى أن تكون هناك غرفة للقهوة والتدخين لأن الشتاء طويل جداً.
■ لماذا الجنون والاكتئاب وأخطاء التفكير، هل باعتبارها أشياء ملازمة للكاتب دائماً؟
– ملازمة للإنسان الحديث في ظني.
……………………………….
في عام 1988، غادرت الشاعرة الشابة إيمان مرسال (1966) مدينة المنصورة حيث درست الأدب العربي في جامعتها إلى العاصمة الكبيرة القاهرة. كانت تحمل معها حقيبة كبيرة، وصوراً عائلية وديواناً مخطوطاً من شعر التفعيلة بعنوان «اتصافات»، واسماً موسيقياً يليق التوقيع به على قصائد موزونة. لم تكن القاهرة رحيمة، ولم تكن أيضاً بلا قلب، مدينة «يجب أن تدرب نفسك على الاستغناء عنها، أن تتحرر منها حتى وأنت تعيش فيها».
بعد عامين في القاهرة، أصدرت ديوانها الأول «اتصافات» (1990)، لتتوقف عن الكتابة خمس سنوات، لــ «ترميم الروح» كما تقول، قبل أن تعود بديوانها «ممر معتم يصلح لتعلّم الرقص» (1995). كان الديوان تجربة جديدة مختلفة عن السائد. لغة جارحة، محايدة، قصائد تهجر الموسيقى الصاخبة، وتؤرخ للذات والوحدة والجسد وبعض خيبات الحياة!
في فترة قصيرة، أكدت مرسال فرادة تجربتها بديوان ثان «المشي أطول وقت ممكن» (1997)، قبل أن تقرر الهجرة إلى كندا حيث تعمل أستاذة مساعدة للأدب العربي ودراسات الشرق الأوسط في «جامعة ألبرتا». كأن حياتها مجموعة من الهجرات الدائمة، هجرة فنية بحثاً عن أسئلة جديدة، وهجرة مكانية أيضاً. في هجرتها الثانية، توقفت عن الكتابة قبل أن تعود بديوان «جغرافيا بديلة» (2006)، ثم ديوان «حتى أتخلى عن فكرة البيوت» (2013)… فضلاً عن كتاب «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها» (2017). كما قدمت ترجمة لرواية المصري وجيه غالي «بيرة في نادي البلياردو»، ومذكرات الشاعر تشارلز سيمك «ذبابة في الحساء». وتعمل الآن على الانتهاء من إعداد أطروحتها للدكتوراه لتصدر في كتاب بعنوان “صورة أميركا في كتابة الرحلة العربية”.
…………………….
*نقلاً عن “الأخبار”