حاوره: عبدالله الزمّاي
عزيز محمد روائي سعودي شاب، صدرت له رواية “الحالة الحرجة للمدعو ك” التي تأهلت للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العالمية للرواية العربية، والتي أعلن عنها في الحادي والعشرين من فبراير الماضي، وهي الرواية التي كان لنا حولها الحوار التالي:
ـ الرواية الأولى تضع اسمك ضمن «قائمة البوكر القصيرة».. ماذا يعني لك؟
ـ ترشحي لم يكن خارج حساباتي بصراحة حتى قبل تحققه، فمنذ أن قرأها المسؤولون في دار التنوير أخبروني أنهم سيتقدمون بها إلى البوكر، وكانوا متفائلين بوصولها. ورغم أني لم أشاركهم تفاؤلهم هذا، إلا إنني بدأت أفكر منذ ذلك الحين بمسؤولية لم أكن قبلها منشغلاً باحتمال كتابة عمل آخر، أو بالأصح لم أكن أفكر في الكتابة كهواية إلزامية، لا بد من التقدم فيها وتعضيد مسيرتها بكتب لاحقة. أما وقد ضمن العمل الأول انتشاراً فإن هذا يغير من طبيعة اكتفائي به، لأن عدم إلحاقه بآخر يُدرَج تلقائياً في باب الحذر من تحمل المسؤولية، أو كدلالة على نضوب الإلهام أو الوقوع في أسر القصة الواحدة، وغيرها من التفسيرات التي يجد الكاتب الجاد نفسه محاطاً بها؛ وأنا لست كاتباً جاداً ولا أفكر أن أكون، أعتقد أن هذه هي المسؤولية التي أحاول أن أتفاداها أكثر من مسؤولية التوقعات. إذا كتبت عملاً تحت تأثير هذه الدوافع فأعتقد أنه سيحبطني قبل أن يحبط الآخرين، وربما هذا الإحباط هو ما سيمنحني حرية كتابة ما أريد بعدها أو عدم كتابة شيء آخر إن لم أجد دافعاً داخلياً لهذا.
ـ لماذا اخترت شخصية مصابة بالسرطان؟ هل لإلمامك المعرفي به أم نتيجة حتمتها شخصية الرواية؟
ـ كان يمكن أن يكون أي مرض آخر في الحقيقة. لم أكن مهتماً بالسرطان نفسه قدر اهتمامي بالتأثيرات النفسية التي يتركها على الراوي وكيفية استجابته لها. إن الإصابة بالمرض ليست تحولاً في طبيعة ظروفه، إنما هي تكثيف لتلك الظروف ينقلها إلى مرحلتها القصوى، وبالتالي فإنه يشحن الصراعات المؤجلة التي كان يتفاداها سابقاً ليواجهها بانعكاسات جديدة. تفاصيل المرض لم تكن لتعني الكثير لو كانت طبيعة المصاب مختلفة ولا توفر حساسية مناسبة لمثل هذه الانعكاسات. لكن التنوع في مراحل تطوّر السرطان وتأثير علاجاته والإجراءات المحيطة بها كلها كانت عوامل مؤثرة في اختياري له بالذات، بالإضافة إلى معرفة تراكمية تحصلت عليها نتيجة قراءات سابقة. «إمبراطور المآسي» لسيدهارتا موكرجي مثلاً يمنح أي قارئ نظرة واسعة على سيرة السرطان منذ بدايته وحتى آخر الاستنتاجات العلمية المتعلقة به. وهو كتاب واحد من بين كتب ومقالات وسير ذاتية عدة لمصابين وأطباء وباحثين يمكن لأي مهتم أن يخرج منها بمعرفة واسعة تخوله الحديث عن المرض بالتفصيل، وهذا ما فعله جورج جونسون مثلاً حيث كتب «يوميات السرطان» بشكل علمي رصين وشبه متخصص رغم أنه لم يهتم بالمرض سوى بعد إصابة زوجته به. لكن التفاعل مع السرطان بالذات لا يستلزم أن يكون القارئ أو قريب له مصاباً. إنه مرض العصر باختصار، ويكاد لا يوجد بيننا مَن لم يفكر باحتمال تسرطنه عند شعوره بأعراض معينة أو يتخيل سيناريوهات مستقبلية مع تقدمه في السن. هذا ما يجعل الأعمال المرتبطة بالسرطان مؤثرة، لكن هذا أيضاً ما يجعلها مبتذلة في جزء كبير منها. لذا من المهم عند تناول مثل هذه الموضوعات تجنّب الجذب الرخيص للقارئ بتناول كليشيهات أثبتت تأثيرها عاطفياً في أعمال أخرى.
ـ هذا الميل والانجذاب للثقافة اليابانية ربما يذكر القارئ بالروائي الياباني هاروكي موراكامي المنجذب للثقافة الغربية دائماً دون ثقافته اليابانية، ما رأيك؟ هل تصح هذه المقارنة بينكما بهذا الشكل؟ ولماذا اخترت اليابان؟
ـ هذا صحيح إلى حد ما لو كنا نتحدث عن الراوي في العمل وليس عني، ربما هو أمر مرتبط بطبيعة الشخصية، ولعله يفسر شيئاً من الشعور العدواني الذي يكنه «المدعو ك» لموراكامي، كل كاتب هو مجموعة من الحيل التي قد تنطلي على البعض ولا تنطلي على الآخر، وحيل موراكامي تبدو مكشوفة للمدعو « ك « لأنهما يحاكيان الكاتب الأجنبي بنفس الطريقة، لكنه ربما يكرهه لهذا السبب بالذات، وهذا مثال واحد فقط على التناقضات والأحكام الانفعالية التي يندفع فيها الراوي من دون اتزان. الطابع الغربي لموراكامي يتضمن قطيعة مع إرث الجماليات اليابانية الأصيلة التي «لا يشعر المرء بأي خزي تجاهها»، الجماليات التي حافظ عليها روّادهم المعاصرون مثل تانيزاكي وكاواباتا وميشيما، بل وحتى الأسماء المشهورة من جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، كوبو آبي وشوساكو إندو وكينزابورو أوي، رغم أن أعمالهم كانت أكثر تشظياً وتشككاً بخصوص تلك الجماليات لكنها حافظتْ على انشغالها بمسائل الهوية اليابانية في تيماتها وشخصياتها. وبالتالي فإن موراكامي وحده بين الروّاد المعروفين يشكّل خيانة لمنظومة الجماليات تلك بعدم اكتراثه بها، وهو بهذا يعارض مشروع المدعو «ك» عن اليابان كملجأ خيال مثالي، ويتناقض مع تعلقه به كمكان»يتوق إليه، لكن لا يزوره أبداً» كما يقول مبكراً في الرواية: كلما كان البلد قصياً وأقل ألفة كلما زادت قابليته لأن تضيف عليه أفكارك وخيالاتك الخاصة وتشكّل صورته حسب حاجاتك؛ ربما يجيب هذا جزئياً على سؤالك الأخير: «لماذا اليابان؟» لا أعتقد أني وضعت في الراوي سوى نسبة بسيطة من الشغف الذي أشعر به تجاه هذا البلد، لأني كنت أحاول الحفاظ على منطقية تعلّق المدعو «ك» باليابان، أما تعلّقي فهو أبعد ما يكون عن المنطقية.
*توحي الرواية منذ العنوان لأثر كافكوي وأحيانا يطل بين ثنايا أحداثها الحارس في حقل الشوفان هل تتعمد هذه المقارنات؟
ـ لا أعرف عن الحارس في حقل الشوفان فقد قرأتها منذ زمن بعيد. البعض يربط الشخصية أيضاً بالغريب لكامو أو ببعض شخصيات دوستويفسكي، وكلها مقارنات نسبية تختلف باختلاف جوانب تناول العمل وما يستطيع القارئ استدعاءه من مخزون قراءاته. النصيب الأكبر كما يتضح كان لكافكا، وهذا يمكن استنتاجه مسبقاً من العنوان ثم الأسبوع الأول الذي يكتبه تحت تأثير يوميات كافكا، لكن هل هذا يختلف كثيراً عن تأثير هيمنقواي وغيره بعد أن يقرأهم في أسابيع لاحقة؟ حتى مع تقدم العمل، التناظرات التي يجدها «المدعو ك» مع حياة كافكا، كما ذكر لي بعض القراء، لا تتجاوز كونها حجة سردية، ومجرد حضور كافكا على السطح لا يعني بالضرورة أن يكون العمل في جوهره كافكوياً كما يوصف كثيراً، بل على العكس قد يكون ذلك مفارقة ساخرة تؤكد ضد -كافكويته- إن صح التعبير. أعتقد أن مصطلح»الكافكوية» عموماً يُستخدم اليوم بسخاء أكبر من الحاجة، حتى خارج مجال الأدب، وبالتالي فإنه لا يقول شيئاً محدداً، بدليل أن الكلمة نفسها تُستخدم لتعني أشياء مختلفة تكاد تكون متناقضة لدى قراء مختلفين. أدرك أن تعدد زوايا النظر هذا قد يثري العمل، كل ما أحاول قوله هو أن عقد المقارنات وحده لا يشكل أرضية صلبة للفهم وبالتالي لا يجب أن يكون في حد ذاته شاغلاً.
ـ تبدو الرواية مترجمة، ألا تخشى أن يتسبب لها ذلك بنوع من ضياع الهوية مثلاً، ما رأيك؟
ـ من المهم تفسير اللغة كانعكاس لنفسية الراوي واهتماماته، ولا يمكن الحكم عليها كمجرد شكل. والراوي هنا شخص يعاني من عدم الانتماء إلى واقعه، ويعوض هذا بمحاولة إيجاد مكان لنفسه في العوالم المتخيلة للأدب. وهكذا تصبح اللغة شبه المترجمة وسيلته لتغريب واقعه. والنظر إليه عبر حجاب الأدب. إنها لعبة ذهنية يمارسها على امتداد مذكراته، ونجاحه فيها يعني أن يكون أقرب ما يستطيع إلى هذا الخيال، خيال أن يبدو كشخصية في رواية. هل هذا يعني أن الرواية تفتقر إلى الملامح المحلية؟ في نظري، الشخصيات والأماكن التي يتم التعتيم على أسمائها وتغييب الكثير من تفاصيلها تحوي ما يُستدل به على هويتها الخليجية، وتكوين العلاقات الأسرية والاجتماعية لا يمكن أن يُفهم في سياق بيئة أخرى، وطبيعة الصراعات التي يخوضها هي من صميم تأثير هذه البيئة. ربما لم تكن التفاصيل المحلية حاضرة على السطح بما يكفي بالدرجة التي يفضلها البعض، لكن أعتقد أن هذا التغييب يقود إلى التركيز على الاهتمامات الحقيقية للشخصية، ويقصي كل ما هو مفروض عليها. فليست كل التفاصيل في الرواية تتساوى في درجة ظهورها بلغة الترجمة. إنه يختار ما يصفه بالتحديد في مذكراته وما يغرّبه أو يقصيه لغوياً، وهذا يوحي بمشاعره غير المعلنة اتجاه ما يحيط به.
ـ رغم كآبة أجواء الرواية وسوداويتها، إلا أنها احتفظت بقارئها حتى النهاية، كيف ترى هذه المفارقة؟
ـ هذا يعتمد على القارئ في النهاية، تبدو لي هذه الأوصاف نسبية وفضفاضة، مثل الكاكفوية، حتى أنها تُذكر أحياناً كمدائح أو نقاط ترويجية للعمل، ربما لأنها مقترنة لدى البعض بفكرة الصراحة أو تعرية الحقيقة. بعض القراء أعرب لي عن خيبته من النهاية لأنها تحوي بارقة أمل، مفضّلاً أن يبلغ اليأس ذروة جديدة تتجاوز كل ما سبق؛ ربما يبدو هذا له أكثر واقعية. حتى بالنسبة للقارئ الأشد حساسية أعتقد أن تردّي وضع «المدعو ك» يشكّل عامل جذب وتشويق للاستمرار في القراءة، لأن يترقّب معرفة : «حرجة» إلى أي حد؟
شخصياً أفضّل القراءات التي تنظر للعمل بصفته كوميديا سوداء، وربما رد الفعل المفضّل كان من قارئ ذكر أنه وجد في كل صفحة ما يضحكه. لكنني توقعت مسبقاً أن العمل لن يُقرأ دائماً بهذه الخفة. في النهاية لا يهم حجم السوداوية التي يجدها القارئ في أي عمل، المهم ألا تكون مفتعلة ودخيلة على السياق. وأعتقد أن المطّلع على الأدب عموماً واعٍ بهذا المعيار، ولو كان اطّلاعه مقتصراً على الكلاسيكيات، فلا بد أن يكون قد مر بأعمال مثخنة بالحروب والدمار ومختلف ضروب المآسي، ولو كان كل هذا يعيق أحداً عن إكمالها لخسرتْ معظم الروايات الروسية قرّاءها قبل منتصفها ولألقينا بأعمال كافكا بمجرد قراءة الجملة الأولى.
……………
*نقلا عن صحيفة “الرياض”