في حب العقاد.. قيم خالدة في ذكرى رحيله الرابعة والخمسين

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

إبراهيم مشارة

إذا شيعوني يــــــــــوم تقضى منيتي

وقالـــــوا أراح الله ذاك المعذبـــــــا

فلا تحملوني صامتين إلى الثرى

فإني أخاف اللحد أن يتهيـــــــــــبا

وغنوا فإن الـــــموت كأس شهية

ومـــــــــــازال يحلو أن يغنى ويشربا

ولا تذكروني بالبـــــــــــكاء وإنما

أعيدوا على سمعي القصيد فأطربا

وصية العقاد لمشيعي جثمانه

 

رحل العقاد الجبار في آذار من عام 1964 ومن عجائب الأقدار أن يكون يوم دفن جثمانه بمسقط رأسه أسوان هو يوم 13 مارس، هل غلب الرقم 13 العقاد الذي تحدى مظاهر الشؤم ومنها الرقم 13 نذير الشؤم والنحس؟ العقاد الذي يعيش بعقل الناقد والممحص وبروح الاستعداد والمواجهة بارز حتى هذا الرقم لا مبارزة دونكشوت لطواحين الهواء لكن بفروسية أبي زيد الهلالي فسكن في البيت رقم 13  بشارع السلطان سليم بمصر الجديدة واختار يوم 13 لإعادة بناء بيته القديم بأسوان هل هزمه هذا الرقم ؟ كلا وإنما هي محض مصادفة.

يعلمنا العقاد كيف نحب الحياة ونتفاءل خيرا لا بالكلام بل بالفعل ومرة أخرى يتحدى  الشؤم ممثلا في شخص ابن الرومي ذلك الشاعر المغبون   الذي كان هو ذاته من أشد المتشائمين  بالناس فما كتب عنه أحد إلا ونالته مصيبة حتى تحاشاه الكتاب جميعا لكن العقاد المعجب بالشاعر قرر أن ينصفه وأن يظهر فرادة هذا الشاعر الكبير وعبقريته في التصوير فكتب عنه كتابه الشهير “ابن الرومي  حياته من شعره”  ومرة أخرى تغالبه الأقدار  ويدخل  السجن بعد صدور الكتاب بسبب العيب في الذات الملكية وكلمته المدوية في مجلس الشعب آنذاك  لما حاول  الملك العبث بالدستور فقال :إن الأمة على استعداد لأن تسحق أكبر رأس في البلد يخون الأمة ويعتدي على الدستور” فدخل السجن تسعة أشعر وكتب عن تجربة السجن كتابه  “عالم السدود والقيود”.

 

وقال بعد خروجه من السجن وهو يزور قبر سعد زغلول :

وكنتُ جَنينَ السِّجنِ تسعةَ أشهُرٍ

فهَأنَذَا في سـاحةِ الخُلْدِ أُولَدُ

وفي كلِّ يومٍ يُولَدُ المرءُ ذُو الحِجَى

وفي كلِّ يومٍ ذُو الجَهَالةِ يُلـحد

عداتي وصحبي لا اختلاف عليهم

سيعهدني كل كما  كان يعهد

 

وفي دخوله السجن رأى كثيرون أنه شؤم  ابن الرومي حل به  لكن العقاد في تجربة السجن بالذات يبين دور المثقف في الدفاع عن القيم : العدالة، الحرية ، المساواة ، القانون فوق الجميع بمن فيهم الملك ولو اقتضى الأمر السجن والتشريد فكم هم  المثقفون العرب اليوم الذين   يجأرون بالحق في وجوه الفساد والاستبداد؟ لا يعني هذا مطلقا إنكار وجودهم لكن الإشارة إلى قلتهم.

ومرة أخرى يجأر الكاتب برأيه مدافعا عن طه حسين لما أصدر كتابه الشهير” في الشعر الجاهلي” والذي أدى إلى محاكمته وفصله عن عمله وتهديده في حياته يدافع العقاد عن حق طه حسين في التعبير وحريته في التفكير على الرغم من الخلاف الشديد بينهما  ويثبت أن المثقف دائما في ساحة المعركة نصيرا للعدل والحرية والمساواة.

الجهر بالرأي سمة الكاتب المفكر  ولو كان  يؤمن به  لوحده ففي محاربته لتيار الشعر الحديث قام متمسكا برأيه يقارع الخصوم بالكلمة المكتوبة والمنطوقة وبالقرار وحين كان مقررا للجنة الشعر بالمجلس الأعلى للفنون والآداب  كان يحيل قصائد الشعراء الشباب على لجنة النثر  للاختصاص  مقررا أن ما يكتبونه هو نثر لا شعر وهاجمه  وتهكم منه من تهكم ولكنه صمد في موقفه وأمضى قراره  والمحصلة أن المثقف يجهر برأيه ولا يبالي رضي من رضي وغضب من غضب فقد كان بإمكان الكاتب أن يحابي ويداجي على حساب قناعاته ويربح هذه الفئة الشبابية الجديدة ويريح نفسه من وجع الدماغ لكنه كعهده مدافعا عن مثله العليا وقيمه الأخلاقية وقناعاته الفكرية.

الدفاع عن الفكرة التي يؤمن بها ديدن الكاتب فقد كتب كتابه عن هتلر في أوج صعود النازية  حتى إنه لما دخلت جيوش هتلر إلى  إفريقيا هرب العقاد إلى السودان إنقاذا لنفسه من جيوش هتلر ونفس الموقف اتخذه من الشيوعية فقد كان الفكر اليساري المتطرف منتشرا وبضاعته رائجة كذلك  هاجم  الشيوعية كتابة وحديثا وأصدر كتابه الشهير” أفيون الشعوب” رادا على الشيوعية بضاعتها حين اتخذت من الكلمة المشهورة لماركس” الدين أفيون الشعوب”  فجعلها الكاتب هي أفيون الشعوب وشفع ذلك بكتاب تالي “لا شيوعية ولا استعمار”.

لكن موقف العقاد من المرأة هو الجدير بالذكر فمن المعروف عن العقاد أنه كون رأيا عن المرأة اختص به لوحده ونشره في مؤلفات عديدة أشهرها” المرأة في القران الكريم “و”هذه الشجرة” في الوقت الذي كانت فيه الجمعيات النسوية رائجة في الدعوة إلى  مساواة المرأة بالرجل وفي حرية التصرف وكان المثقفون يكتبون متحمسين مناصرين جهر الكاتب  مرة أخرى برأيه فكتب أن مملكة المرأة بيتها وأن الطبيعة قائمة على مبدأ الاختلاف وأن الرجل لا يمكنه أن يقوم بدور المرأة والعكس صحيح مسؤولية المرأة في البيت في التربية للجيل الناشئ ومسؤولية الرجل خارجه في العمل ولم يخف إعجابه بدعوة قاسم أمين من أجل تعليم وتربية المرأة.  موقف دقيق خاف الكثيرون من الجهر به خوفا من تبعاته لكن العقاد جأر به مرة أخرى.

بل أعلن العقاد الشاعر  أراء صادمة عن المرأة من نوع( تخون وتخدع وتنسى في لحظة واحدة عشرات السنين).

وأوصى الرجل:

خـل الملام فليس  يثنيها

حب الخداع  طبيعة فيها

هو سرها وطلاء زينتها

وطبيعة للنفس تحييهـــا

وهو انتقام الضعف ينفذهامن يصطفيها أو يعاديهــــا

أنت الملوم إذا  أردت لها

ما لم يرده قضاء باريهـا

خنها ولا تخلص لها أبدا

تخلص إلى أغلى غواليها

 

وسواء أكان رأي العقاد هذا رأيا علميا دقيقا أم تحت تأثير هزيمته في حلبة الحب فهو يشكل إثباتا لقولنا أن الكاتب يعلن آراءه لا يبالي ولا يداهن.

في قضية المرأة بالذات قال العقاد في مقالاته وفي صالونه  أن المرأة لا تنافس الرجل لا  في مواهبه و ولا في قدراته ودلل على ذلك بشواهد عديدة الرثاء ، الطبخ، الأزياء  فإذا كانت هذه الأشياء من اختصاص المرأة فإن الرجل بذها فيها مستشهدا برثاء أبي العلاء بالقياس إلى رثاء الخنساء ومصممي الأزياء وكبار الطهاة الذين هم رجال وليسو نساء.

ما زال العقاد يعلن أراءه المناقضة لما يؤمن به الناس ويتكالب عليه المثقفون من غير  مداهنة ومرة أخرى حين أعلن موقفه من المذاهب الحديثة الفكرية والفنية فتهكم من الوجودية ومن سارتر وعبد الرحمن بدوي ومن مسرح اللامعقول ومن السريالية والدادية والتكعيبية ورأى أنها مذاهب هدامة  نذير انحطاط ونهاية. فالفنان يعقل الأشياء وينظم الفوضى  ولا يزيدها غموضا إلى غموض وفوضى إلى فوضى  وهذا كله تحت تأثير النزعة العقلية التي يتسم بها فكره  فهو منطقي وعقلاني حتى في شعره.

رفض العقاد المذاهب الشمولية وحاربها لا نتهاكها الحرية الإنسانية مؤمنا أشد  الإيمان بخصوصية الفرد وفرادة الكائن البشري  كما رأى أن العظماء لازمون للتاريخ في صناعته كما أنصف من اعتقد أن ضيما لحق به  من هنا كانت كتاباته الإسلامية عن عظماء الإسلام بدء بمحمد عليه السلام وخالد وأبي بكر وعثمان وعمر وعمرو بن العاص وانتهاء بعظماء العالم كبنيامين فرانكلين وصن يات صن  وغاندي وشكسبير وجوته  وغيرهم .

إنما تجدر الإشارة إلى المنهج الفريد الذي اتبعه  فهو منهج لا يهتم بالسرد التاريخي النمطي بل منهج نفسي يغوص في أعماق المترجم له ويكتشف سره أو مفتاح الشخصية كما أسماه مستثمرا تلك الكتابات التاريخية عنه في إضاءة  جوانب شخصيته ودهاليز نفسه

ناخلا تلك  المعطيات التاريخية مميزا بين الحب والزؤان.

وحتى إنه إيمانا بقناعاته الفكرية نصب نفسه مدافعا عن قيم الإسلام مبينا وهجه السماوي وألقه الإنساني ضد حملات التشويه من قبل مثقفي الغرب ورعاة الإمبريالية في مؤلفات  دقيقة مثل “حقائق الإسلام وأباطيل خصومه” “ما يقال عن الإسلام”…….

على أن أثمن  قيمة للعقاد-رحمه الله- هي إعلاؤه من شان الفكر وهو صاحب كتاب “التفكير فريضة إسلامية ” ولقد صرح لأماني ناشد قبل وفاته بشهرين  في الحديث التلفزيوني الشهير بترتيب أنيس منصور إجابة عن سؤالها ماذا أضاف للثقافة العربية نثرا وشعرا وفكرا؟ فكانت إجابته أنه  أولا حطم الألقاب وجعل  التفكير قيمة مستقلة عن اللقب  فالعقاد حامل الشهادة الابتدائية ناطح جبابرة الفكر وألف أكثر من ثمانين كتابا وخاض معارك أدبية وفكرية مع كل رجال الثقافة الحديثة وما وهن منه عظم أو تعب منه  ساعد  حتى قال عنه لويس عوض “صورة العقاد عندي لا تختلف عن صورة هرقل الجبار الذي يسحق بهراوته الأفاعي والتنانين والمردة وكل قوى الشر في العالم”. إن هذا معناه أن الإنسان بجهده وكفاحه وإخلاصه يمكن أن  يثقف نفسه وتكون له شخصية ثقافية  دون الارتكاز على اللقب العلمي أو الاستناد إلى  الشهادة الجامعية وليس معنى هذا بخس الجامعيين شهاداتهم وإنما التنديد بالاعتماد على اللقب وحده وجعله سلطة لا تطالها كلمة ولا يصلها نقد دون إضافة لميدان الفكر ولا دفاع عن حق مهضوم أو حرية غائبة   إنما الاجترار والتيه على الناس باللقب والارتزاق منه في الصالونات والأحاديث التلفزيونية والإذاعية  التي لا تعني شيئا كثيرا  ونظرة على واقعنا  المتأخر جدا والمتسم بالظلم والاستبداد والعبث بالمال العام والتخلف والنفاق والدجل  والانتهازية  ما ذا فعل حملة الشهادة لتغيير هذا الواقع  فلو قاموا بدورهم التنويري والتثويري ما كنا في ذيل دول العالم من حيث الصناعة والنهضة والحداثة؟ وهذا لا بعني المس بنضال الكثيرين وبسالتهم وبلائهم الحسن في ميدان الكتاب والتنوير إنما الإشارة الضمنية إلى الحضيض الذي صرنا إليه  بولوعنا بالشكل على حساب المضمون والتكالب على مائدة السلطة بشكل مريع.

إن مأساتنا تكمن في امتثال بعض المثقفين  لأوامر السياسيين  ومداهنتهم للجماهير وتحولهم إلى مرتزقة يجرون وراء ريع السلطة  أو يتقون بطشها أو يكتفون باللقمة والتواطؤ بالصمت غير المبرر.

لقد طلق العقاد الوظيفة في سن الشباب وغامر مغامرة خطيرة في العيش من قلمه وكتاباته  لكن قلمه لا يرائي ولا يداهن لا يمدح بل ينور يفضح ويعلم  وعاش عيشة عفيفة قانعة زاهدة في رياش الدنيا التي قال قيها المعري  الذي  تخيله الكاتب بعث من قبره وساح في أوربا مبديا نظرته إلى العالم الحديث   في كتابه البديع رجعة أبي العلاء :

 

ألا إنما الدنيا كجــــــــــيفة ميت

وأصحابها مثل الكلاب النواهس

 

ومن الصعب على مثقف يكون هذا قراره أن يحتفظ بمسافة بينه وبين السلطة  لا يطمع في عطاياها ولا هي تجرؤ على مساومته حتى كلمته أمام الرئيس جمال عبد الناصر في حفل تسليمه جائزة الدولة التقديرية  شكر الشعب الذي أعطاه  الجائزة  ، ونسحب هذا الموقف على عصرنا ونقارنه بموقف الكثيرين من السلطة  ومناصبها وقصور الثقافة وجوائز الأدب والثقافة. وتهافت الكثيرين عليها تهافت الفراش على النور.

 

ناهيك عن انفتاحه على الثقافة الغربية والإنسانية وتبحره فيهما بشكل أسطوري دون أن ينال ذلك من اعتزازه بعروبته ومصريته وإسلامه كما تدل على ذلك مؤلفاته الكثيرة في هذا المضمار.

وختاما لهذا المقال الذي كتب من وحي الذاكرة دون الرجوع إلى مرجع لبيان تأثير الكاتب في كاتب المقال لأكثر من ثلاثين عاما إن ضرورة الوفاء لروح العقاد تقتضي نقد العقاد ذاته فلئن كان موقفه من الشعر الحديث فيه شطط ومغالاة  ولقد تنبأ بأن حركته ميتة فلقد رأينا ازدهار سوقه  وعدم موته لكن الحركة بشروط السياب وعبد الصبور ودنقل وغيرهم لا بتسيب الكثيرين ، كما أن موقفه من المرأة صادم خصوصا في وسمها بميسم الخداع والخيانة  وأعترف بان هذا الموقف العقادي شكل زلزالا فكريا  ونفسيا.

كما أن في موقفه من الفنون التشكيلية وحملته على المذاهب الحديثة كالسريالية والتكعيبية  فيه  مبالغة  كبيرة فالفنان لا يحاكي الطبيعة بل يعدلها وفق رؤيته ومزاجه ومنظوره العقلي والنفسي  أوليس الفن رؤيا ذاتية خاصة جدا.؟

في المتنبي شيء من نفس العقاد وفي العقاد شيء من نفس المتنبي  على الرغم من أن بين عصريهما أكثر من ألف عام وأعني القوة النفسية والخصوصية الفردية في أرقى  تجلياتها في طماحها إلى الذرى  حتى وحدهما الألم إذ قال المتنبي:

 

يا سَاقِيَيَّ أخَمْرٌ في كُؤوسكُما     **            أمْ في كُؤوسِكُمَا هَمٌّ وَتَسهيدُ؟

أصَخْرَةٌ أنَا، ما لي لا تُحَرّكُني       **             هَذِي المُدامُ وَلا هَذي الأغَارِيدُ

إذا أرَدْتُ كُمَيْتَ اللّوْنِ صَافِيَةً        **              وَجَدْتُهَا وَحَبيبُ النّفسِ مَفقُودُ

ماذا لَقيتُ منَ الدّنْيَا وَأعْجَبُــه     **               أني بمَا أنَا شاكٍ مِنْهُ مَحْسُودُ

 

وقال العقاد:

حيران حيران لانجم السماء ولا

معالم الأرض في الغماء تهديني

يقظان يقظان لاطيب الرقاد يدا

نيني، ولا سحر السُّمَّار يلهيني

غصان غصان لا الأوجاع تبليني

ولا الكوارث والأشجان تبكيني

أسوان أسوان لاطب الأساة ولا

سحر الرقاة من اللأواء يشفيني

سأمان سأمان لاصفو الحياة ولا

عجائب القدر المكنون تعنيني

أصاحب الدهر لا قلب فيسعدني

على الزمان، ولا خِل فيأسوني

يديك فامح ضنى يا موت في كبدي

فلست تمحوه إلا حين تمحوني

 

وعلى الرغم من عدم استساغة الكثيرين لشعره واعتباره عمارة منطقية إلا أن في كثير من قصائد العقاد غنائية شجية  وتجديد لا يجحد في دواوينه الكثيرة  “يقظة الفجر” “وهج الظهيرة” “أعاصير مغرب” و”أشجان الليل”  و”عابر سبيل “أوليس هو القائل:

والشعر من نفس الرحمن مقتبس

والشاعر الفذ بين الناس رحمن

وفي كلمة (رحمن )التي ليست من مستلزمات التقفية  يبوح العقاد بسره وأعني ربوبية الإنسان الصغرى الشاعر، المتفرد ،العبقري التي هي جزء من ربوبية الله  الكبرى ألم يخلق الله آدم على  صورته؟ فاعجب لبعض مثقفي اليوم وقد ابتذلهم رغيف الخبز و أرهبتهم عصا العسكري ومسخهم التقليد ليعيشوا  في شروط غير إنسانية وينتجوا فكرا مشوشا  وأدبا ناقصا بالقياس إلى منتوج رجال التنوير الذين كان العقاد فارسهم الأول.

……………………

*كاتب من الجزائر

مقالات من نفس القسم