طيلة حياتي ، كنت شديد الحيرة في تفسير ما أراه، ولايراه غيري ، اعتدت ذلك …هكذا فجأة، انتقلت من عالم لعالم بخطوة واحدة ، لا أخفيكم أني كنت شديد الارتياع مما يحدث وكيف تبدلت كل الموجودات هكذا بلا مقدمات …أصوات كثيرة متداخلة أعرف أصحابها جيدا ، معظمها يبكي ، في البداية لم أعرف سبب بكائهم حتى أشاركهم فيه ، ولكن بعد قليل عرفت أنهم يبكون على فقدي …ياه….هو الموت إذن، ولم كانوا يخيفوننا منه؟! ..لم دائما كان رجال الدين يتاجرون به كسلعة لا يملكها غيرهم؟! ، الموت رائق جدا، صديق رقيق يحملك على ذراعيه ، يحمل موجات غضبك المكتوم و الذي تحول على مدار السنين إلى أسى محبط ، دموع متحجرة في عيون غامت رؤيتها ….
نعم هي الإجراءات الروتينية المألوفة في تلك الحالات ، سلمتهم جسدي بلا مقاومة تذكر ، كمن يلقي ثقلا ناء كاهله به دهرا طويلا ..
أرقبهم من قريب جدا ، أسمع دخيلة أنفسهم بوضوح ، لعلها قدرة جديدة يكتسبها من هم في حالتي الجديدة ، بعضهم يتحدث عن تفاهة و جودي وانعدام أثري ، عن هزائمي الكثيرة و انسحاباتي المخزية ، عن حزني الكثير غير معلوم السبب ، قد أراح نفسه و استراح ، كلهم كانوا ينهون منولوجهم بهذه العباره ” أراح واستراح !!” ..، مللت من ثرثرتهم ، فانصرفت سريعا مكتشفا هذا الوجود الجديد ، ملقيا نظرة أخيرة على جسدي الممدد، هذا السجن الذي لبثت سنين عددا بين أسواره الطينية….
وجود جديد ، نور ندي ، هواء عطري ، نهر وليد، بلا ضفاف، يتبعني كصديق حميم ، كوخ جميل جدا بلا باب ، ونافذة صغيرة تطل على حديقة غناء بكل أنواع الزهور و الورود التي أعرفها و لا أعرفها ، عود ! كيف علموا ولعي بالموسيقى وبالعود بالذات ، شكرا لهم! ، كنت دائما أتمنى أني كنت تعلمت العزف على العود ، احتضن العود ، أسحب ريشته ، أمررها على أوتاره، تصدر ألحانا بديعة ، وكأني عازف ماهر ، لم ير عالم الموسيقى مثله ..
بأي ذاكرة أعيش، لا شئ في ذاكرتي الآن سواها ، وهل صحيح نعيش بذاكرة صور حياتنا السابقة ، نعيش بذاكرة الرحم في الدنيا ، وبذاكرة الدنيا في عالم ما بعد الدنيا ..كنت دائما أرجو قربها ، هكذا أشرقت بعينيها المكتحلتين ، بحناء يديها الخضراوين ، وببسمة بين غمازتيها ، تهادت ذكريات الماضي و إشراقات المستقبل المأمول لحنا بديعا، وببسمة أخرى اندملت بقايا جراح و كأنها ما كانت يوما ..جلست بجواري تتبعها الفراشات و الطيور الخضراء المغردة ، جلست تستمع لعزفي ولحني، تومئ بعينيها، لأتوقف عن العزف ، لتكمل عوار الموسيقى بصوت أعذب من أعذب لحن كان ، تتحدث حينا ثم تعاود السماع ثم تشرع في الغناء ، وببسمة نسيت ذاكرتي الدامية ، هزائمي المتكرره ، انسحاباتي المخجلة ، نسيت كل شيء غير بسمتها ، لأفرح فرحا ما حلمت به يوما ، فرحا سرمديا جديدا غير منقطع بخوف فوت أو فقد ..جلست تشاركني الخلود بجانب النهر المتدفق ..أدركت مصدر النور ، كان إشراقة جفونها المكتحلة البديعة ، الآن فقط أستطيع أن أشعر بالحياة …