تترك العشرين بكامل نعناعها

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام


تؤمن أمي بالبعث والخلود، ولكن خلافا للفراعنة الذين احتفظوا بحاجياتهم للعالم الآخر تدَّخر أمي متعلقات تخص حياة أخرى هلامية الملامح داخل حياتنا هذه. تحت أسِرة البيت كله تتكتل ملابس وأغراض تخصني، تجمعها بدأب المؤمنين منذ أن كنت في الابتدائية مثلا، لك أن تقول منذ عشرين عامًا. وبالطبع لا مجال للحديث عن تلف بعضها ولا عن تبدل الأذواق وبوار السِلع -في نظريات أمومة المتن العام- فتحل عليك لعنة أمهات الفراعنة أُمًّا أُمًّا. .

 

تؤمن أمي بالبعث والخلود، ولا تدري وربما تغض الطرف عن جرائم الخوارج عن المِلَّة التي أقترفها من حين لآخر منذ بُلوغي ربما، فحينما تحين مناسبة لإحدى صديقاتي ولا أجد مالا كافيا أو وقتا لشراء هدية لها، أتحسس مسدسي :D أقصد ألجأ لخزانتها المسحورة و”افتح يا سمسم”. فأُخرج من مغاراتها وكنوزها ما يناسب صديقتي هذه أو تلك. لكني للأمانة العلمية توقفت مؤخرا عن تلك الوَلدنة وأفعال الشُطَّار كسلا أو انشغالا عن التكتيك لجرائمي الصغيرة. .

تؤمن أمي بالبعث والخلود، وخلال بضعة أيام سأُكمل عامي التاسع والعشرين: وهذا يعني أنني “فَاضل لي زلطة وأطلع برة”. أتساءل عن ساعة خلاصي من حسابات الأزمان، فيسألونني عن ساعتهم الموعودة وما أعددت لها، فأجيب: على حَطة يدك لا حبيب متلهف ولا غيره غير أنني أحب أشخاصًا خاطئين، مما يعني أن قصصي لا توحي بدنو أَجَل ما يصبون إليه. لا يعلم أفراد المجتمع -أو ربما لا يعنيهم- صراعات المرء الداخلية ناهيك عن صراعاته الخارجية دائرة الرحى بشِيَم الصبر الجميل وغير الجميل. .

تؤمن أمي بالبعث والخلود، ولكنها لم تعانِ من تسعة وعشرين عامًا من: “مفيش حاجة كده ولا كده؟!”. ولا تجيبهم مثلي بالرائعة العجرمية العصماء: “ما فيش حاجة تيجي كده، اهدى حبيبي كده”. تسعة وعشرون عاما من: “ارحموا أمي العيانة”، و”ماشيين بعلاج”، و”بنتشعلق في رضا ربنا” ردا على أمنيات وأسئلة ثقيلة الظل رغم حسن نية قائليها في أحايين كثيرة، أسئلة وجودية تثير شجونا كالبحث عن جدوى الحياة خارج الأنماط السائدة وسنن الحياة وفروضها في بقاع الأرض. .

تؤمن أمي بالبعث والخلود، و تحكي لي في ساعات الصفاء عن طفلتها الأولى تحبو أمامها فتتمنى من الله أن تكبر قليلا، وتقول لأبي: “نفسي تدخل ورايا المطبخ بس”. فكبرت “الفصعونة”، كبرت على دندنة الماما لأغنية سميرة سعيد صباحا في توديعها لباص المدرسة: ستو قلب ماما، دنية حُب ماما، أفرش لك عيوني عيوني سكة للسلامة” لتعود الطفلة مراهقة وشابة “شّحطة” تنفر من الوقوف في المطبخ تلبية لأمنية قديمة. .

تؤمن أمي بالبعث والخلود، وتنهرني لأنني “مش زي البنات” فأقول: أنا مفشوخة من التعب، فتَرُد: بنت … عيب! فتعود الذاكرة للأفلام الأبيض والأسود وقواميس الفتاة المهذبة التي تم تحديثها ولم تصل أمي الطبعة المنقحة بعد. أُعاجلها هذه الأيام في ملعبها بحيل خاصة قبل ميقاتي، أُذكرها –لعل الذكرى تنفع المؤمنين- أنه دنا عيد ميلادي وأنها برنسة، ففي سني كان لديها طفلين، أما ابنتها غلبانة تلعب في الطين ومُرتبها لا يكفيها لنصف الشهر حتى ولا تجيد الطبخ، فضلا عن نوبات اكتئاب متكررة -مصحوبة بشحوب في الملامح ونقصان في الوزن- تسقط بسببها طريحة الفراش وفي حاجة لقوى دفع خارجية للذهاب للعمل صباحا أو مساءً. .

تؤمن أمي بالبعث والخلود، وقد رأيته بعيني في غرفة العناية المركزة حال مرضها، أبصرته وأنا أسقيها ببطء ماءً يرطب جفاف حلقها بعد زوال مفعول البنج، كما تروي هي وردات المنزل حال قطفها لتؤجل قدرا مفعولا، وأزيد في هذه الأيام من وصلات الشحتفة السرطانية من حين لأخر لأُبرر حاجتي لسفرية ما، أو لعتق من مهام منزلية يأخذها المرء على عاتقه بِرًا بمن يستحق ومشاركة منطقية مع الإخوة في الوطن. .

تؤمن أمي بالبعث والخلود فأطبع على خدها قبلة وصوتا داخليا يخبرني أنها تشعر بما لا أشعر، وأنني لست أُمًا فأشعر بما تكنه لي ولإخوتي. أنتهز الفرصة وأخبرها بعزمي على إحياء حفل بمناسبة الزلطة الباقية في جعبة عشريناتي. لم أخبرها بالطبع بأن مهرجان “لمينا الكُفار وعملنا حفلة نار” الذي أزعجني جعيره -في الفيديو التشجيعي لعُرس ابن الجيران منذ ما يقرب من شهرين- جاء على بالي فور التفكير في قائمة أغاني الحفلة. .

تؤمن أمي بالبعث والخلود، ولكني سأكتفى اليوم بالاعتقاد بمفعول أغنيتي الراقصة الأثيرة-التي “أُّشكِّل” عليها مع أصدقائي- وسط مهرجانات المناسبات لاستقبال من نَّسم عطره بابتساماتنا ونداءات مبهجة ل”بتاع النعناع المنعنع” ورفاقه. …

 

 

 

مقالات من نفس القسم