لكن القصة القصيرة لا تفقد دورها وقدرتها الهائلة على التأثير، وستبقى شكلا مميزا من أشكال السرد، واستطاعت بعض نماذجها أن تناطح روايات عالمية وتتجاوزها أو تبقى بجوارها، كما هي الحال مع قصص تشيخوف، وأ.و. هنرى، وهنرى كورتاثر، وغيرهم من عظماء ذلك اللون الأدبي.
وسيظل العالم يقرأ قصة “موت موظف” وقصة “حكاية مملة” لتشيخوف، بينما أهمل العالم مئات الروايات. وسيظل العالم يقرأ قصة “الحرب” للويجي بيراندللو، وقصصا أخرى كثيرة “آليس مونرو” وبلاتونوف وغيرهما.
أما ضعف الاهتمام بالقصة القصيرة، فيعود إلى أسباب كثيرة معقدة ليس من بينها كفاءة ذلك الشكل وقدرته على مواصلة الحياة.
مجموعة “خط انتحار” هي أولى مجموعات أمير زكي، وهي بحق إضافة لتاريخ القصة القصيرة المصرية الطويل الذي بدأ بقصة تيمور “في القطار” عام 1916، وتشبع بإبداعات أحمد خيري سعيد، والأخوين شحاتة وعيسى عبيد، ويحيى حقي، وطاهر لاشين، مرورا بيوسف إدريس ثم جيل الستينيات، والأجيال اللاحقة وفي مقدمتها كوكبة من الكتاب المرموقين، أولهم من دون شك محمد المخزنجي، ومحمد عبد النبي بمجموعته البديعة “شبح تشيكوف” ، ومحمد إبراهيم طه، وعزة دياب، وعزة رشاد، وشريف صالح، والكاتب الموهوب إيهاب عبد الحميد ومجموعته الرائعة “قميص هاواى“.
أمير زكي آخر العنقود في سلسلة أبناء وأحفاد محمد تيمور، شيخ القصة القصيرة، وهذا يمنحه امتياز التعرف إلى كل تلك الإنجازات، كما يحمله مسئولية تجاوزها في لحظة أصبح مفهوم القصة القصيرة فيها مرواغا للغاية، وانفتحت فيها آفاق التجريب الفني بلا نهاية.
تضم المجموعة اثنتى عشرة قصة تتخللها مجتمعة رؤية خاصة للإنسان في علاقته بالعالم والمجتمع والكون. إنه بداية “الإنسان الفرد” وليس الإنسان المنخرط في الجموع، أو الذي تربطه بمن حوله وشائج اجتماعية أو قضايا كبرى مشتركة، وهو إنسان وحيد، معزول، عاجز إزاء القوى الكبرى سواء أكانت تلك القوى آلهة أو دولا أو نظما اجتماعية، مسلوب الإرادة أو حتى الإيمان بإمكانية مواجهة العالم.
سنرى ذلك في قصة “إريام” التي يفتتح بها أمير زكي المجموعة، ويلجأ فيها لأساطير الخلق الأولى، حين أقام الإله “إريام” الأرض والسماء ثم خلق عماد الإنسان ومن بعده رحمة زوجة له، وينتهي كل ذلك إلى شعور عماد بعزلته من دون إله، أو امرأة، ليذكرنا بأن الإنسان ولد وحيدا ويعيش وحيدا ويموت وحيدا.
هذه الحقيقة تصل إلى القارئ عبر سرد فني وأحداث صغيرة وحوارات ممتعة بين عماد والإله إريام. هنا يجد أمير طريقة أخرى لكتابة القصة، قد لا يكون اللجوء للأساطير اكتشافا، لكن الاعتماد عليه في بناء قصة قصيرة قليل في تجربة القصة المصرية.
في قصته الثانية “السيد يحتضر” يعود الكاتب إلى الموضوع ذاته، علاقة الإنسان بالرب، بالسيد الكبير، واكتشاف الإنسان لموت السيد، ووحدته وعزلته من جديد.
تطرح هاتان القصتان بشكل غير مباشر قضية الكاتب في المجموعة: هل يستطيع الإنسان أن يحيا من دون فكرة مقدسة؟ كيف يمكن له أن يواجه حقيقة أنه وحده، بلا آلهة؟ وأن وجوده عشوائي بلا مغزى؟
في قصته الثالثة “السيدة الأولى” يعود أمير للموضوع ذاته “قصة الخلق”، ويشير مجددا إلى الآفاق المسدودة أمام الإنسان، وذلك حين تتولى السيدة الأولى رعاية مشروع لتزواج الخنافس، سرعان ما يتكشف عن مشروع آخر مواز هو تزاوج الشباب، لكن المشروع ينهار، بحيث يتساءل القارئ: أي مشروع؟ تزاوج الخنافس أم حياة البشر؟
في قصة “في المدينة البعيدة” وهي واحدة من أفضل قصص المجموعة، سنجد موظفا شابا يحمل رسالة من رئيسه في العمل إلي مدير فرع الشركة بمدينة بعيدة، لكنه غير واثق من صحة العنوان، وحينما يصل ويسلم الرسالة للمدير يقول له الأخير: هي رسالة بعزلي من منصبي.
ثم يغادر الموظف الشاب المكان ليكتشف أنه ضل الطريق وأنه وحده في صحراء مترامية الأطراف. لقد كان العنوان ملتبسا في البداية، وأصبح العنوان في النهاية هو الخلاء. كأن أمير يريد أن يقول: ما من شيء لنتجه إليه، وما من شيء لننتهي عنده. هذا المعنى ذاته السعي نحو المجهول هو مغزى القصة المسماة “مجهول” والتي تتألف من صفحة واحدة.
انتظار ما لا يأتي، ما لا يحدث، سواء أكان الجنة الموعودة، أو الحب، أو الدفء الإنساني. سنجد هذه التيمة ذاتها في قصة “لاكي” حيث يتداخل الواقع والوهم، والخوف من انتهاء العرض المسمى حياة الإنسان القصيرة.
هناك قصتان اثنتان فقط في المجموعة يظهر فيهما الإنسان “إرادته”، ويخرج إلى الفعل الإيجابي هما: “أول تجربة”، ثم قصة “ثلاثة كتب”، في الأولى يحاول الإنسان أن يقع في الحب، لكنه يرتطم بأن من تعرف إليها هي مجرد فتاة ملتاثة، وفي الثانية حين يخايله العشق فإن الموت سرعان ما يختطف محبوبته، وهكذا فإنه حتى عندما يبدي الإنسان حماسة للتفاعل مع العالم فإن العالم يصدمه بالحقيقة.
قصة أخيرة أتوقف عندها هي “المريض الأبدي” لأن الكاتب يخرج في هذه القصة من “الإنسان الفرد وعلاقته بالعالم” إلى مستوى آخر أي: علاقة الكتلة البشرية الضخمة بالسلطة. وفي القصص الثلاث الأخيرة ينتهى أمير زكي إلى النتيجة ذاتها: العزلة قدر الإنسان.
يقدم لنا أمير زكي في مجموعته البديعة “خط انتحار” صوته الخاص بامتياز، وعالمه الأدبي المستمد بالكامل من داخله، من قناعاته، من حيرته، من الأسئلة التي تؤرقه فعلا، وليس من الأسئلة التي يفترض أنها مؤرقة، ولهذا كله تصبح المجموعة إضافة جميلة لتاريخ القصة القصيرة. ولسوف ننتظر من الكاتب المزيد من الإبداع والإخلاص للفن ولموهبته
ــــــــــــــــــــــــــ
نقلا عن بوابة الأهرام