ديوان “شخص جدير بالكراهية”: غناء الجسد.. بكاء الذات

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 71
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

إبراهيم محمد حمزة *

يقدم  عزمى عبد الوهاب فى ديوانه "شخص جدير بالكراهية " حالة كاملة متوهجة، تحمل خصائص شاعريته، وامتداد مشروعه الشعرى الذى بدأ  بديوانه "النوافذ لا أثر لها" ثم  "الأسماء لاتليق بالأماكن" ثم ديوانه الثالث "بأكاذيب سوداء كثيرة" ثم صدر له عن دار ميريت "بعد خروج الملاك مباشرة" وأتبعه بديوان "حارس الفنار العجوز".. فى كل ديوان تتألق تيمة تنداح من خلال القصائد، هذا الديوان يحتله السأم بلا منازع، لكأن الإنسان فى قصيدة عزمى عبد الوهاب يعيش حياة لا يحبها ولا يتمناها، بل ينفقها مضيعا ساعاتها، خائفا قلقا نزاعا للموت.. ومن خلال هذه الحالة الرمادية تتجلى أبرز سمات قصيدة شاعرنا.

ـ قصيدة الضفدع اللزج:

يرى الشاعر الأمريكى بيتر جونسون أن قصيدة النثر نوع مستقل – genre of poetry  – ويذكر فى مقدمته لعدد من أعداد مجلة باسم ” قصيدة النثر “أنه حين أهدى كتابا له عنوانه  “قصيدة النثر” إلى أحد النقاد، ارتد كما لو أنه ناوله ضفدعا لزجا، مؤكدا: أنه لا يوجد شىء اسمه  قصيدة النثر.. يبدو أن اعتبار قصيدة النثر نوعا أدبيا هو حل ميسر تماما لاتهام دائم لهذه القصيدة، حول “عوامل وجودها ومبرراته”، ولكن نحن بإزاء ديوان تجاوز فكرة التصنيف، إلى التماهى الوجودى العميق، وإلى رصد حالات القلق الإنسانى بشكل مغاير وبسيط وصادق، وقد جعل مدخله تعبيرا عبقرىا لديستوفسكى 

)الحياة فوق الأربعين أمر بالغ الحرج (.

تكاد المرأة  تطبع القصيدة بأنوثتها الغائبة أو المغيبة، بينما مضادها الدائم – الرجل – يقضى العمر مشتاقا لرغبة مستحيلة، هذه التيمة التى تتطور عبر قصائد عزمى عبد الوهاب بداية من قصيدة “نتنام الأشياء كما تركناها بالأمس” منشدا حالة السأم  الملازمة :

“وأنت واقفة / هكذا / تمشطين شعر غيمة / توقفى قليلا / تحت سماء سوداء / بكت نجومها حتى النفس الأخير /انظرى !  الصورة ناقصة / فيها رجل / ابيض شعره فى الظلام “.

هكذا تبدو المرأة الحلم، المشتهاة، المأمولة بلا طائل، هى تصعد لسماواتها، بينما هو يضيع فى الحديقة للبيت، رجل خارج الكادر المصور، وامرأة الحلم، والسأم ثالث أركان الصورة، فأخطر ما يواجهه الشاعر ( تلك هى المأساة / أن تنام الأشياء كما تركناها بالأمس) .  هكذا يمهد الشاعر لتيمته المتكررة الموجعة عبر تسع قصائد هى  المكونة للديوان .

ـ غنائية مخنوقة بوح مستتر :

رغم الغنائية المنسابة عبر قصائد الديوان، إلا أن الشاعر يلجأ فى بعض الأحيان لخنق هذه الغنائية المترقرقة، وقصيدة ” حوار لم يكتمل ” تأكيد لوجود المرأة التام وانقطاعها التام أيضا ، هذا الحضور الشائه، بين الوجود الغياب، يمارس الشاعر هذا الخنق للبوح ولغنائية القصيدة بقصدية ذكية :

“اختبرنى يا حبيبى / اختبر المارد / هل مات فى قاع القمقم ، أم لا يزال هناك ؟”

ـ أعترف أن دموعى تتساقط / ـ لماذا تتساقط دموعك الآن؟ / ـ لأنك هنا / ومتى تتوقف عن الجريان؟ / عندما ألتقى حبيبى / لكنها لا تلبث أن تنهمرحين تقبلنى / ـ ومتى تنتهى الرغبة ؟ / لن تنتهى ولن تتحقق.

المرأة فى الديوان هى تتمة عذاب الزمن الوجودى، الذى يتسرب رغم حاجتنا لتوقفه ، يمتزج المزاج الرمادى العام الذى يقسو على الشاعر ، بآلام الشوق الجسدى غير المتحقق ، كأنها رعشة الرغبة المستحيلة  ، فإن كان هناك زمن تقدم فيه “الشعرى” على “الواقعى”  بتعبير كيركجارد – فإن هذا الفصل يذوب هنا ، فالشاعر يعبر عن موقفه ، بلغته لا تتعالى ، ولا تنحاز لمجاز ما ، ورغم حرص الشاعر على وأد لحظات الغنائية المتمردة عليه ، من خلال وقف التدفق السردى / الشعرى ، خاصة فى “حوار لم يكتمل ” فإن القصائد التالية  تنحاز للبوح البهى ، مجسدة لحالة الضعف الإنسانى بعذوبتها العامة مهما اختلف الزمان ، وفى قصيدة “حتى ترى آثار زفرتك الأخيرة” رغم شبقيتها البالغة ، فهى تمثيل لشوق الرجل للأنثى، التى تتحول إلى حلم مستحيل لا أكثر، بل يظل التذكار سيد الموقف “آه من نار أشعلتِها فى صدرى / آه من أسنانك/ وهى فى سبيلها للانقضاض/ آه من شفتيك/ وهما ترميان بقذائف اللهب / فى وجهى … “.

فهذه اللغة الرومانتيكية، ببلاغتها التقليدية عبر التكرار واستخدام صيغ تقليدية “آه من” .. بهذه الرتابة ينتقل الشاعر إلى صدمة  جديدة، عبر استخدام لغوى جديد ، حين نكتشف أن الحبيبة فى الغياب وليست فى الحضور الشبقى المثير .. (غيبى كما تشائين / فالسلالم التى قطعِتها/ درجتين درجتين/ لا تزال تحتفظ/ بدقات قلبك ..، وهذا الكرسى لا يزال / يحتوى باءة / ألقيتها على ظهره ..) ..

ـ التذويت / الفضح :

التذويت يعنى حضور الذات المبدعة بنفسها داخل نصه الإبداعى، وهى ظاهرة قديمة قدم الشعر ذاته، عبر تجليات لا مثيل لها فى الشعر الجاهلى، وقدرة جادة على التعبير عما فى النفس، لكن التذويت فى القصيدة الحديثة وفى الرواية الحديثة، يتخذ أطرا مستقلة فى طرقها عن طرق الأقدمين بالطبع، إنها لحظة التوهج الأسمى بالصدق التام، ورغم أن الصدق الفنى لا علاقة له بالضرورة بالصدق الحياتى أو الأخلاقى، فحالة التعبير عن الذات تتخذ أسمى تجلياتها عبر قصائد الجسد فى الديوان، فصورة الأرملة المتكررة، والتى يصل بها للزواج فى قصيدته الجميلة  “حبيبتى تزوجت أمس” يؤكد ذاتية الرؤية، فنفس الشاعر تقوم فى النص، كاسرة لتوهم القصيدة الناطقة بحالها، مستبعدة مبدعها، يقول: “وحبيبتى جميلة ووحيدة، وأرملة / صغيرة كما وصفتها فى قصائدى الأولى/ حبيبتى تزوجت / اغتصبها زوجها أمس / هذا أفضل فعلا”.

إن الصوت فى القصيدة لا يسعى لتعاطف، قدر ما يسعى إلى إدانة، فهو يلوم كل من على الأرض، لأن حبيبته تزوجت، واستسلمت للاغتصاب الزوجى، ثم يتلوها بقصيدة “محاولة الكتابة  عن أرملة صغيرة” فنجد فاعلية الكتابة لدى الشاعر مؤكدة بروز الذات بطرق متوالية، عبر الفعل “كتبت” أو يصل للذات  مجردة ، عبر قوله “ولأننى مغرم بالاقتراحات / منذ ديوانى ” بأكاذيب سوداء كثيرة ” / وأفرح بدخول مفردة جديدة / إلى عالمى  الصغير”.

ثم مشهد آخر لافت يَصْدَع فيه الشاعر بآلام ذاته، مصورا لحظات بداية العمل، قراءاته، صداقاته، ليصل التذويت لأقصى طاقاته الفنية الآسرة فى قصيدة “سيرة ذاتية لشخص جدير بالكراهية ” والتى تكاد تصل لنوع من رثاء الذات، والبكاء على حياة لا يستشعرها المرء ، ولا يتمتع بها ، هى حالة اللاجدوى كما حددها الشاعر:

“يذهب إلى عمله بشكل آلى / لا يفكر فى شىء محدد / يجلس إلى المكتب / يريح رأسه بين راحتيه للحظة / كما يليق بمحبط / يطالع أوراقا تحتفى بالرطانة / لا معنى لما يفعله / ولا طموح لديه فى الوظيفة “.

قدر الصدق فى طرح الشاعر يجعله قادرا على تجاوز ما اعتدناه من أطر تدور حولها قصيدة النثر، ويبدو تعمد الشاعر انتقاء مختاراته لصلاح عبد الصبور، فبعد أن وجدنا صورة الكائن الذى  يعيش رمادية الحياة ، لم يعد الشاعر لقصيدة ” عبد الصبور ” الشهيرة (يعترينى الزاج الرمادى ) وحين تحدث عن ” السأم ” مكررا اللفظ  ثلاث مرات، لم يشر لقصيدته الأكثر شهرة “موت فلاح” والتى ترصد حالة التخلص من الرطانة اللصيقة بالمقفين إلى الفلاح الذى لم يكن يستعجل الموت ، لأنه يصنع الحياة، ولم يتوقف عن (هذا زمان السأم / نفخ الأراجيل سأم / دبيب فخذ امرأة ما بين أليتيّ  رجل  ../ سأم )  لكنه يلجأ للمعانى الأكثر قسوة وتطرفا فى شعر عبد الصبور، ثم يلخص الأمر كله فى قسوة أشد، قسوة الحكم على الذات “… الموضوع بسيط للغاية/ فهو إنسان سلبى / اعتاد حياة مملة على مدى أربعين عاما / لا يحب المفاجآت ، حتى لو كانت سارة”.

ـ الجنس .. وجع التحقق :

ينداح الجنس فى الديوان بشكل يجعله تيمة أساسية من تيمات هذا العمل، لكنه يأتى فى شكل قطيعة مع المرأة وليس التصاقا واتحادا بها، لتظل هى المشتهى الذى لا يتحقق، المنى الذى يظل معذبا للمرء كأنه جرحى التشهى لدينا، وتبدو قصيدة “حتى ترِى آثار زفرتك الأخيرة” معرضا  نادرا للاشتهاء الوحشى للمرأة ليس الجسد ولكن الأنثى، عبر تدرجات روحية بديعة بالقصيدة بمخاتلة واضحة وذكية، فالمقاطع فى القصيدة  تنجز إحالات نفسية، يخادع فيها الشاعر القارئ، حيث يبدأ “عزمى عبد الوهاب ” قصيدته بإبراز الليبدو Libido، تلك الطاقة الجسدية أو الجوع الشره للمرأة  :

“آهِ من نار أشعلتها فى صدرى/ آه من أسنانك/ وهى فى سبيلها للانقضاض/ آه من شفتيك ……

لكن القصيدة تتقدم بقارئها، ليكتشف أن هذا الشوق ليس سوى تعديدة حزينة للتذكر الأسيان، ثم نكتشف فى المقطع الثانى أن هذا التذكر الذى يشتهيه، يتحول إلى (ليلة حمراء تشبه الجنون/ …..   / هى ليلة حمراء تليق بشفتيك الوحشيتين …) لكنه قبل أن يغادر المقطع، يهدمه على رأس سامعه بلفظ (ألا تفهمين) ليحيلنا إلى كون الليلة مجرد أمنية، لا واقع بها، ليظل جرح التشهى نازفا ، ثم ينتقل الشاعر إلى مخاطبة الحبيبة بصورة نادرة فى شعرنا العربى  (امنحينى امرأتى /  التى تخبئينها فى الملابس السوداء)

وتبقى الأنثى المستحيلة بارزة بين منعطفات الديوان، وعبر هذه القصيدة تدهشنا مفاجأة ينهى بها الشاعر قصيدته “غيبى كما تشائين / لكن فكرى جيدا / فى ذلك الكرسى / وتلك الستارة / والممر / والجدران / كيف احتفظت بتلك الذكريات / دون أن تئن أو تنهار”.

***

عبر هذه السطور القليلة ، لم يتسع المقام لدرس اللغة ، ومقدرة الشاعر فى تطويع اللفظ العامى للقصيدة الفصيحة بدون أن يفقد جلاله كألفاظ “العبيطة”، المكان الغلط ، إلخ

ولم نلتفت إلى المد التراثى البهى فى الديوان ، متمثلا فى صيغ لغوية قرآنية أو تراثية ، تضمخ بعطرها  الجو الإنشادى الذى احتفظ به الشاعر ، وقد نأى الديوان عن أوجاع المجموع فى سبيل آلام الذات الوجودية المقبضة، والتى  تسبق الألم الجمعى ..

ديوان جديد ينضم بقوة إلى تيار صاخب هادر، متجدد ، حتى لم يعد ينقصه سوى شىء بسيط تماما .. مجرد قارئ مخلص .

……………

* كاتب مصري وناقد

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم