تجليات الحداثة في ديوان “موسيقى مرئية”

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. محمد خليل

1

 إضاءة: نمر سعدي شاعر وكاتب فلسطيني من مواليد أكتوبر عام 1977. يقيم في قريته بسمة طبعون الواقعة شرق مدينة حيفا، وهي قرية جليلية معروفة بجمال موقعها، ومناظرها الطبيعية الخلابة، وتأثيرها الساحر على نفس الشاعر القلقة، لكنها مرهفة الإحساس والرؤية، والنازعة أبدًا إلى الحرية والجمال الكوني، مما يبقي نوافذه مفتوحة على العالم القريب والبعيد في آن. ليطل، من خلالها وباستمرار على مجالات الحياة، وفضاءات الكون كافة، لاسيما على كل ما هو إبداعي وعصري وحداثي. وعن سؤاله في موقع “القدس” هل أثّرت الطبيعة المحيطة بك في أشعارك؟ أجاب “بالطبع كان التأثير كبيرًا. هناك نزوع طبيعي لديّ واستعداد نفسي لاستيعاب كل ذرات الجمال الخارجي للطبيعة، أو تقاسم التناسق الجمالي لهذه البقعة الطيّبة، التي تمتد على جسد الجليل كله حتى بحر حيفا غربًا. قلت: إن نصف موهبتي يرجع إلى الجمال الطبيعي الذي يتصف به شمال فلسطين، بجباله وسهوله وتضاريسه المكونة لجزء من طبيعة بلاد الشام، يتميّز بغناه وصفاء هوائه وروعته. يمتد حتى أعالي لبنان مارًا بشرقي سوريا. في النهاية، كل أشعاري تستند على هذا الإرث الجمالي الطبيعي الهائل، الذي ورثته النفس وتمتعت به وتغنت بحسنه“(1).

بدأت جذوة الشعر تتوهج في قلبه في مرحلة مبكرة، ولم تخبُ إلى اليوم، بعدما أذكتها عواصف الأحلام والحب والرؤى. بدأ بنشر بواكير أشعاره، بعد اختمار التجربة ونضوجها، جنبًا إلى جنب الموهبة والثقافة، في صحيفة “الاتحاد” الحيفاوية، وكذلك في صحيفتي “كل العرب” و”الأخبار” الناصريتين منذ عام 1999. يتميز شعر سعدي بقدرة على التعبير اللغوي، والتصوير الفني على حد سواء، متكئًا، في هذا وذاك، على خيال جامح منفتح على الاتجاهات كافة. يمتح من تناصات ذات حمولات متعددة: موروثات ثقافية، وإشارات إيحائية، وأخرى رمزية وأسطورية، منها الخاصة: عربية وشرقية، ومنها العامة: أجنبية وغربية، تحيل إلى دلالات متعددة، قد تنأى عن كل ما هو نمطي أو متعارف عليه، أي وفق المنظور الحداثي. ولا يعدم القارئ في ثنايا شعره: فكرًا وذوقًا وإحساسًا ومعرفة ورؤيا.

من أهم المحاور في أشعاره: مكاشفة الوجود واكتناه أسراره، وإثارة التساؤلات بغية فهم المتناقضات المحيطة، وصولا إلى سبر أغوار الذات الشاعرة والذات الإنسانية، بوصفها وعيًا وموضوعًا معًا، إلى درجة تبلغ حد التماهي أحيانًا. يقول أدونيس “لعل خير ما نعرّف به الشعر الجديد هو أنه رؤيا. والرؤيا، بطبيعتها، قفزة خارج المفهومات السائدة. هي إذًا، تغيير في نظام الأشياء وفي نظام النظر إليها. هكذا يبدو الشعر الجديد، أول ما يبدو، تمردًا على الأشكال والطرق الشعرية القديمة”(2). ويقول كذلك “إن الشعر الجديد، باعتباره كشفًا ورؤيا، غامض، متردد، لا منطقي”(3)! والبعد العالمي محور أساسي في أشعاره، يقول في مقابلة له مع موقع “رابطة أدباء الشام” “أنا أعبِّر عمّا يحدث في كل بقعة موبوءة بالظلم في العالم بصورة مغايرة وجماعية أكثر”(4)! وتعد تلك العناصر من أهم مقومات الشعر الحداثي.

يعد الشاعر نمر سعدي واحدًا من أصحاب الأصوات الجديدة في الساحة الشعرية المحلية، لما يمتاز شعره به من: طاقة إبداعية، وغزارة في النتاج، ومخزون ثرّ من الموضوعات المتعددة. وهو يكتب القصيدة في الشعر التفعيلي الحر، ومن حين لآخر، أيضًا القصيدة العمودية. كما أنه ناشط في الحراك الأدبي، ومتابع لنشاطات الحركة الأدبية المحلية.

وعن شعره يقول هو نفسه في مقابلة له مع موقع “رابطة أدباء الشام” “في النهاية آمنت بمدرسة الشعر الحر ورأيت في شعر التفعيلة أفقًا جديدًا، رغم كتابتي لشعر النثر والقصيدة العمودية أنا من أتباع التفعيلة التي أعتبرها الوريثة الشرعية الوحيدة للشعر العربي“(5).

هنالك من يعتقد بأن الشاعر نمر سعدي لم ينل، كما يجب، ما يستحقه كشاعر

عصامي مبدع، أثبت نفسه بنفسه في مشهد أدبنا المحلي والثقافي، ولم يحظ بالقدر الكافي من الاهتمام، ولا من الدراسة أو الكتابة والبحث، كسائر أقرانه من الشعراء، لذلك بقي يواجه أو يعاني من التعتيم والتهميش الإعلامي. وبعيدًا عن الأضواء والشهرة، على الرغم من أن نتاجه الأدبي والشعري، في منظور ما، يثبت بأنه يمكن لا بل قد يستحق أن يتبوأ مكانه في درجة متقدمة بين صفوف الشعراء المحليين. تُرى، هل تجنَّى بعض شعرائنا المشهورين، باستحواذهم على كامل أضواء الشهرة والنجومية، طبعًا من دون أي قصد أو مسؤولية من جانبهم؟ وكذلك بعض نقادنا، ربما عن قصد أو بدون قصد، في ما يحدث من تجاهل وتهميش لبعض شعرائنا الواعدين؟ هل نتوقف عند شعرائنا المشهورين فقط ولا نبرحهم؟ إلى متى سيبقى ذلك الغبن، ونظل نتذكر ونردد صرخة عنترة بن شداد في معلقته: هل غادر الشعراء من متردم؟

وللمرء أن يتلمس صدى واضحًا لمثل ذلك الواقع من خلال ما عبّر عنه الشاعر نفسه، ذات مرة، من تذمر من مثل ذلك التجاهل، حين قال في لقاء خاص مع موقع “القدس” “في الداخل هناك أزمة حقيقية لشاعر موهوب، فهو إن لم تتبنَّهُ المؤسسة الثقافية إن وجدت أصلاً، فإنه في النهاية لن يستطيع أن يفعل شيئًا. لن تصدر دواوينه ولن يترجم إلى أي لغة ولن يلتفت إليه أحد… في كل دقيقة يطبعون لمن هبَّ ودبَّ، وعندما أستفسرُ عن كتابي يقولون: لا توجد ميزانية”(6)! له عدة إصدارات شعرية منها:

موسيقى مرئية 2008، وكأني سواي 2009، ويوتوبيا أنثى 2010، وماء معذب 2011.

2

 

يقول جبران خليل جبران في رائعته “رمل وزبد”: لا يكسر الشرائع البشرية إلا اثنان: المجنون والعبقري، وهما أقرب الناس إلى قلب الله(7)!

تنتمي أشعار سعدي في معظمها إلى الحداثة، وتأثره بها وبشعرائها، من عرب وغربيين، يبدو واضحًا، كذلك، نراه متأثرًا، في بعض أشعاره، بالمؤثرات الغربية، والتفاعل الثقافي مع الآخر (الأجنبي). من هؤلاء الذين تأثر بهم يمكن أن نذكر: الشاعر والناقد الأمريكي ت. س. إليوت وقصيدته المشهورة “الأرض اليباب”، ومن الشعراء العرب: محمود درويش، وسميح القاسم، والسياب، وأدونيس، والبياتي، ومحمد الماغوط، ونازك الملائكة وآخرين.

تلامس أشعار سعدي هموم التجربة الحياتية من منظور ذاتي وتزخر بالموسيقى الهادئة. إلى ذلك، فيها دلالات متحركة غير ثابتة، بعيدًا عن الدلالات التقليدية المتعارف عليها. يقول أدونيس “هكذا يؤمن الشاعر العربي الجديد أن على اللغة أن تساير تجربته بكل ما فيها من التناقض والغنى والتوتر. وهو في ذلك يفرغ الكلمة من شحنتها الموروثة التقليدية، ويملؤها بشحنة جديدة، تخرجها من إطارها العادي ودلالتها الشائعة” (8)، ما يعني بأن الشعر الجديد لا يعد امتدادًا للموروث الشعري القديم.

والشعر عند سعدي طائر محلق جناحاه إبداع دائم وخيال قوي، قد يصل بهما إلى الأعالي، إلى أقاصي الآفاق، حيث ربة الشعر، لتعانق روحه تجليات الكشف والإبداع والتطور والتمرد والنهوض معًا، بعيدًا عن كل ما هو نمطي وتقليدي أو ثابت لا يتحرك. الأمر الذي يستوقفك ليجعلك تتأمل وتفكر، فالفكر عنده يحب معانقة الأفكار، على طريقة السيوف تحب معانقة السيوف!

* أما الإجراء اللغوي في أشعاره فحداثي بامتياز، فهو متعدد الأوجه، ومتنوع الأغراض الشعرية، وشمولي التجربة، في نص مفتوح تتلاقى أو تتقاطع فيه الأصوات المتعددة، يقف الإنسان فيه محورًا أو قطبًا. فالشعر الجديد كشف للواقع بكل أعماقه وأبعاده، يلامس حياتنا بمختلف تجلياتها، شكلا ومضمونًا، ولعل أجمل ما يستثيرك، لديه، تلك التساؤلات الزاخرة، التي قد تصعب الإجابة عليها، لوقوعها تحت طائلة غموض يصل حد الإبهام أحيانًا، ما يكلّف البحث والتنقيب، علمًا أن الغموض يمكن أن يزيد في تكثيف الدلالات الشعرية. وقد أقر بعض نقاد العرب القدامى بأن “أفخر الشعر ما غمض فلم يعطك غرضه إلا بعد مماطلة منه”(9)! فالغموض، يمكن أن يعد قيمة أساسية في الشعر الجديد. يقول أدونيس “فالشعر الجديد تجربة شاملة معقدة، جديدة. وهو، ككل تجربة، يحتاج في فهمه إلى الإيجابية وإلى التعاطف”(10). من ذلك المنطلق، لم يتردد أدونيس بالقول “على القارئ الجديد أن يتوقف عن طرح السؤال القديم: ما معنى هذه القصيدة، وما هو موضوعها؟ لكي يسأل السؤال الجديد: ماذا تطرح عليّ هذه القصيدة من الأسئلة، ماذا تفتح أمامي من آفاق؟”(11). وفي الحق ليس من الضروري أن ندرك، معنى القصيدة أو كل نص آخر، إدراكًا تامًا حتى نتمتع به! هل يدرك جميعنا معنى الموسيقى وفحواها حين نتمتع بها؟!

يغلب على شعر سعدي الانزياح مع ما فيه من حمولات الإثارة والإدهاش والمفاجأة، كما يكثر لديه الخروج عن المألوف وغرابة التسميات. إلا أن أكثر ما يأخذ القارئ إليه مجازية اللغة أو إلى انزياح جمالي في صور فنية معبرة، ودلالات مبتدعة، لتبلغ درجة الإدهاش والإثارة. ومما قاله الجاحظ في ذلك السياق “لأن الشيء من غير معدنه أغرب، وكلما كان أغرب كان أبعد في الوهم، وكلما كان أبعد في الوهم كان أطرف، وكلما كان أطرف كان أعجب، وكلما كان أعجب كان أبدع”(12)! وذكر ابن رشيق ما يشبه ذلك على لسان أحدهم “قال: وأنشد رجل قومًا شعرًا فاستغربوه، فقال: والله ما هو بغريب، ولكنكم في الأدب غرباء”(13)! إذ كلما كانت الصورة أغرب كانت أعجب، وبالتالي كانت أعلق في النفس وأملك! الأمر الذي يمكن أن يحقق، كما يفترض، متعة القراءة ولذتها المتوخاة بعد جهد التأمل وإعمال الفكر في التفسير والتحليل والتأويل، وصولا إلى القيمة المضافة المشتهاة، جمالية كانت أم معرفية. وأفضل طرق التعبير في الشعر وحتى في النثر ما جاء عن طريق التصوير. يقول في قصيدته الموسومة بـ “فضاء سريالي على حافة القلب ص65“:

وروما تمدّد زنبقتين من النار

فوق الرمال… وعاشقها ينتظر

لعينيكِ وقع الندى فوق صوتي

أنا من تقلّب أمس على الحنطة النرجسية

يقبس جمر الشبق

أنا من أضاع السماء على وجهه

حين مرت فراشةُ أيامه فاحترق“!

* كذلك، يمكن أن نسوق، على سبيل المثال لا الحصر، قصيدته الموسومة بـ “موسيقى مرئية”، وهو عنوان الكتاب ذاته. يعد العنوان العتبة الأولى التي تستقبل القارئ قبل أن يدلف من خلالها إلى ثنايا الكتاب. فالموسيقى، كما يبدو تُرى، وذلك حين يجسد شاعرنا الموسيقى في صورة تُرى لا أن تُسمع فحسب، وقد تُحمل الرؤية، في ذلك السياق، على البصر أو البصيرة أو كليهما معًا! فالموسيقى، كما هو معروف، تُسمع لا تُرى، لكن حين نذكر ونتذكر بأن الموسيقى تتكلم أجمل اللغات، إذ إنها لغة العالم قاطبة، يقول بيتهوفن في الموسيقى: إنها تعلو حكمة الحكيم وفلسفة الفيلسوف! يضاف إلى ذلك، إذا علمنا بأن الموسيقى لا تصدر إلا عن مصدر، فأمكن معه أن تتطابق الموسيقى مع الموسيقي؛ مع مصدرها أو مبدعها، وتصبح هي هو وهو هي! كأن يقال مثلاً: فلان هو الموسيقى عينها، أو الموسيقى هي فلان، وفلان هو الموسيقى! كذلك يمكن القول: حضر العلم، أو رأينا الشجاعة وهكذا. وبذلك يكون الشاعر قد كسر ما هو نمطي أو متعارف عليه في الصورة القديمة. ومعروف أن الحداثة تكسر الصورة القديمة أو تفككها في أقل تقدير، ما يعني زعزعة الذاكرة وإعادة تنظيم مركباتها من جديد، الأمر الذي يتطلب مواجهتها وإعادة قراءتها مرة أخرى وفق منظور جديد. في السياق ذاته، يمكن أن نذكر الشاعر العباسي المشهور بشار بن برد وتغزله، حين استعاض عن عينه بأذنه، للضرورة، وللضرورة أحكام، في التعبير عن عشقه وهواه. من هنا، نستطيع أن نتفهم أدونيس وهو يعترف بأن جذور الحداثة العربية قديمة، منذ العصر العباسي، كما عند بشار وأبي نواس وأبي تمام وآخرين(14).

* ولا يفوتنا، كذلك، أن نشير إلى الإهداء الذي تتجلى فيه لمسة حداثية أخرى كعلامة بارزة، إذ يقول فيه (إليها، إليَّ، إلينا، إلى ما تمرد فينا علينا)! فقد يلحظ المرء على الشاعر ما يتحلى به من حركية إبداعية، وما يعتلج في داخله من رفض وتمرد. في المقابل، سوف ينعكس ذلك، بكل تأكيد، على القارئ والإنسان بشكل عام، في ما يشبه انتقال العدوى! فالشاعر، كما يبدو، يريد أن يحفِّز القارئ والإنسان كافة، على التمرد ليس على ما حوله فحسب، إنما على ما في داخله أيضًا. إنه يدعو الإنسان إلى التمرد على نفسه، أن يتمرد على واقع مزر يعيش فيه، لا أن يركن إلى الاستكانة، لا ولا الركود أو الجمود أبدًا! بكلمات أخرى، أن يكتشف أو يبتكر شيئًا ما على سبيل المثال، ثم لا يلبث أن يتقدم ويتمرد على ما أنجزه وأنتجه بنفسه، ويثور على ما صنعته يداه، في سعيه الحثيث دائمًا نحو الأفضل والأجمل، في حركة هي بنت لحظتها لكنها متواصلة ومستمرة. فعالم الإنسان يظل أبدًا بحاجة إلى الكشف والتمرد والإبداع.

* ويعبِّر الشاعر، بمنظور حداثي، عن الفكرة ذاتها، تقريبًا، في قصيدة أخرى عنوانها “الحياة كما أنا أفهمها ص5” التي تحمل في بعض ثناياها لمسة صوفية. يقول:

الحياة كما أنا أفهمها

لهفة لسماء ملونة بالنداءات

روح الينابيع تحملني مثل عطر الندى

زهوة للحصان المجنح في

احتراق الأباريق في قبة الليل

… …

والحلول النهائي للعشق في جسد الصبح

وهو يزف البياض النبيل لقلب البلاد

… …

الحياة كما أنا أفهمها

لا كما أنت تفهمها فتفسرها بالجماد!”.

3

* تركِّز الكتابة الحداثية، وتلك سمة أساسية يمكن أن نلمسها لدى الشاعر، على الذات: الأنا والآخر، أو تداخل الذات بشقيها: الذات الشاعرة والذات الإنسانية، في محاولاته المستمرة للولوج إلى أعماقها لا إلى سطحها فحسب، وذلك بغية فهم كنهها وكشف طبقاتها وسبر أغوارها، فهي ذات أشكال متعددة وألوان متحولة، نذكر منها: حالات التصدع والتشظي والبعثرة. وديوانه “موسيقى مرئية” حافل بمثل تلك الثنائيات والتناقض والتنافر والغموض، مما يعكس حالات الإنسان العصري وهمومه وأفكاره الذاتية والكونية. فتصدع ذات الإنسان مظهر حداثي بامتياز، ومثاله قوله في المقطع رقم 2 من قصيدته “موسيقى مرئية ص15“:

من ألف دهر ضائع القسمات مثلك أو يزيد

ودمي يصفّق في ربيع مرّ أو صيف بعيد

ربيته بفحيح عطرك وانحلالكِ في مساء الرُّوح

يا جسد الورودْ

ربيته بغيابكِ المملوء بالأحلام

عاريةً وحافيةً تنام على اشتعال الماء بالنارنج والدفلى

كأن دمي وليدْ

ربيته بغد يرفرف فيَّ مثل الحلم

أو بيدٍ من الشفق المجنح في فراشات النشيد

* ويقول متسائلا، بعد أن يتجاهل الكره والعداء المبطن في صراع الحضارات، في مقطع آخر من قصيدة “أغنية إلى طروادة ص23” توقًا إلى الحنين، وشوقًا إلى التماسك والالتئام، في سبيل المعرفة ولأجل الحياة والبقاء

آه يا آخري

أنا أعرف أنك تكرهني دونما سبب مقنع

لصراع الحضارات، لكنني سأجامل

حتى النهاية من أجل معنى الحنين

لأعرف ماهيَّتي… من أنا؟؟ ما أكون؟؟“.

* وللحرية عنده مكانة خاصة، إنها سؤال مركزي في شعره كما يقول، لأنها أس الحياة وأساسها بالنسبة له، لا محيد أو تنازل عنها، فهي تجري في عروقه كما الدم يجرى. يقول في مقطع آخر من القصيدة السابقة ذاتها “ص24“:

حريتي من دمي / مفرداتي من الشمع

عينيَّ (كذا) مما تغنِّي النجوم وراءَ الأبدْ

* من جديد يُرى وهو يعود إلى الذات الإنسانية المتشظية بشقيها: الأنا والآخر، في تجلياتها المتعددة وتحولاتها المختلفة. يقول في مقطع من قصيدة ((محض فم وحيد ص25)):

متشكلا منِّي ومنكِ هناك

في هذا الرخام الحيِّ

كيما أطمئنَّ إلى كياني

وأنينِ روحينا الخفيِّ اللون

يقبع في نهار قصيدة أخذت حناني

ومضت… فمن يرثي الرخامَ الحيَّ؟

لون الليلِ؟ ورد النارِ؟ سرَّ الثلج؟ عنوانَ انكساراتي؟“.

* ومن تجليات الأنا مرة أخرى: الذات الشاعرة وربما الذات الإنسانية عامة، حيث يُرى وهو محمول على الصليب من قبل صاحبيه. يقول في قصيدة “لن أبوح بسركما ص39“.

تحملاني… وفوق الصليب ألم نجوم الدجى

في الظهيرة عن ثوب فاطمَ

أنثرها في العيون لتزهر مثل دموع المسيح“!

تلك هي الذات، تارة حالمة وأخرى متصدعة أو ملتبسة، أو شهيدة مسفوح دمها، أو محمولة على الصليب لأجل القيامة من جديد، أو متمردة، مثل سيزيف، تبحث عن ذاتها وعن الحقيقة، يقول في قصيدة (موسيقى مرئية ص15):

وأنا أسير لهوة الماضي السحيقة

باحثًا عني وعن… لغة الحقيقة

سيزيف أحمله ويحملني على جبل الخطيئة والعذاب”. كذلك قوله في (محض فم وحيد ص25):

أنا المصلوب في شفق

أعانق في أعالي الأغنيات

ضباب أيامي بلا عنقٍ

عليها ختم أفعى من ثمود“!

* ومن حين لآخر نراه يطعّم أشعاره بإشارات حيوية تحيل إلى موروث ثقافي غربي عابر للقارات والحضارات الإنسانية، فعلى سبيل المثال يستحضر تلك العلاقة التي شغلت المجتمع الثقافي الفرنسي خلال القرن التاسع عشر، في ما يخص بودلير العاشق (شارل بودلير 1821-1867 شاعر وناقد فني فرنسي. بدأ كتابة قصائده النثرية عام 1857)، لتضيء الجوانب الخصوصية والغامضة من شخصيته، وهي قصة عشقه لجان ديفال، تلك المرأة التي حلمت في عالم باريس الصاخب بالثقافة والابتكار آنذاك، فعملت ممثلة وراقصة إلى أن التقاها في أحد عروضها، ليقع في غرامها ويعيشا معًا قصة حب عاصفة. يقول:

تقول القصيدة ما لا يقال

تقول لبودلير..: ديفال جسمي

وأغصان روحي وسجني

وحريتي… فمتى سوف أخرج

من سجنها/جسمها المطريِّ

متى… سوف أخرج مني؟” (تقول القصيدة ما لا يقال ص68).

4

* الشعر، عند سعدي، يمكن أن يفضي إلى سؤال مشروع: كيف يأتيه الشعر؟ الشعر، بالنسبة له، ليس مجرد حالة شعورية فحسب، إنما هو حالة كيانية ساحرة من الانفعال والتفاعل، تسير في الاتجاهات كافة، لتجمع الشعور جنبًا إلى جنب الفكر، ليس لدى المرسِل وحده إنما لدى المتلقي أيضًا، في فعالية تبادلية يقف في مركزها الإنسان، أما اللغة فهي إشارية، تلمح أكثر مما تصرح، يقول:

تقول القصيدة ما شفَّ عن جسمك المتموج فيها

فلا يسمع القلب مما تقول القصيدة

غير صراخ الجمالْ

تقول القصيدة ما لا يقالْ” (تقول القصيدة ما لا يقال ص71).

وقد يبدو شاعرنا متأثرًا بأدونيس الذي يقول “إن لغة الشعر هي لغة-الإشارة، في

حين أن اللغة العادية هي اللغة-الإيضاح. فالشعر الجديد هو، في هذا المنظور، فن يجعل اللغة تقول ما لم تتعود أن تقوله. فما لا تعرف اللغة العادية أن تنقله، هو ما يطمح الشعر الجديد إلى نقله… وفي هذا، يبدو الشعر الجديد نوعًا من السحر، لأنه يجعل ما يفلت من الإدراك المباشر مدركًا“(15)!

هكذا، أصبح الواقع العصري والجديد يكلف القارئ مئونة الارتقاء إلى مستوى تلك الأشعار بغية فهمها، وفهم دلالاتها المتعددة والمركبة، أما لو تعذّر ذلك فالتفاعل معها، في أقل تقدير، يكفي، في محاولاته إلقاء القبض عليها. فشاعر اليوم أو الشاعر المعاصر قد تخطى أو تجاوز، كما يفترض، تلك القيم الموروثة من التراث الشعري القديم، وأصبحت تفصله عنه مسافات بعيدة وأخرى شاسعة. * كذلك لغة الشعر المعاصر تختلف عن لغة شعر الماضي، والاختلاف ذاته قائم أيضًا بين شعراء الحاضر وشعراء الماضي. فحياة اليوم تختلف كليًا عن حياة الأمس، الأمر الذي يتطلب لغة مختلفة تعكس حقيقة واقعهم وحياتهم في الحاضر لا حياة الماضي، فلكل عصر لغته وأغراضه التي تشاكله وأسلوبه الذي يحاكيه، وهو ما يُعرف بـ “مشاكلة الناس لزمانهم وما يغلب عليهم فى كل عصر”. يقول أدونيس “إن الشعر الجديد هو، بشكل ما، كشف عن حياتنا المعاصرة في عبثيتها وخللها“(16)!

من ذلك المنطلق، لم يعد الشعر مجرد شعور وإحساس، أو مجرد حكمة وموعظة إنما كشف وانكشاف. أصبح إبداعًا وابتكارًا ورؤيا مستقبلية، لا تني عن التحرك والتغير والتطور التقدمي. الشعر الحديث مغامرة لا متناهية أو بلا حدود، على ظهر خيال مجنّح، إنه نشاط إبداعي لا يعرف قيدًا أو شرطًا، قد يصل أحيانًا حد الفوضوية في بحثه عن الحرية المطلقة. يقول محمد برادة “يتبوأ الشعر العربي الحديث من بين جميع الأشكال التعبيرية الأدبية، موقع الريادة والاستكشاف، واللهث ركضًا وراء الحالات القصوى في تجريب اللغة والتشكيل وتركيبية النص“(17).

 

 

 

هوامش

 

(1) موقع القدس: لقاء خاص مع الشاعر نمر سعدي أجرته امتياز المغربي.

(2) أدونيس: زمن الشعر، المقدمة ص9، دار العودة، بيروت، 1996.

(3) المصدر نفسه، ص14.

(4) موقع أدباء رابطة الشام، لقاء خاص مع الشاعر.

(5) الموقع نفسه.

(6) موقع القدس، لقاء خاص مع الشاعر.

(7) جبران خليل جبران: المجموعة الكاملة، تقديم جميل جبر، ص170، دار الجيل، بيروت، 1994.

(8) أدونيس: زمن الشعر، ص40.

(9) ابن الأثير: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، ج2، ص393، المكتبة العصرية، بيروت، 1999.

(10) أدونيس: زمن الشعر، ص21.

(11) أدونيس: زمن الشعر، ص72.

(12) الجاحظ: البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام هارون، ج1، ص89-90، دار الجيل، بيروت، 1948.

(13) ابن رشيق: العمدة، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، ج1، ط4، ص123، دار الجيل، بيروت، 1972.

(14) أدونيس: الشعرية العربية، ط3، ص86، دار الآداب، بيروت، 1985.

(15) أدونيس: زمن الشعر، ص19.

(16) أدونيس: زمن الشعر، ص17.

(17) محمد برادة: اعتبارات نظرية لتحديد مفهوم الحداثة، مجلة فصول، عدد3، مج4، ج1، ص20، القاهرة، 1984

مقالات من نفس القسم