إن كنت تخشى حزم وحسم مدير تحريرك مثلي، فلسوف تبحث في الكتب وفي الدائرة العنكبوتية لرأسك وللإنترنت عن علاقة الملابس بالمناخ، فلسوف تمر على ملابس الطوارق، وتطاردك أجوبة عن أسئلة لا تنتهي: لماذا يغطي رجل الطوارق وجهه، وسوف تنسى بسرعة أن ذلك اتقاءً للغبار وخداعاً الرياح أو خيانتها، لتستقر بروحك في طقس آخر تتحرك فيه المرأة على حريتها لا يوجد عند الأوروبيين ولا في التاريخ، وستعرف أي مناخ يمكن للدنيا أن تزهزه فيه في ظل حكم المرأة.
ستمر بالطبع على ثياب الموريتانيين وعلى الثوب الذي حيك بعناية رسمية كأنه ثوب الاستقلال، لكن بهجة الأزرق سوف تنتصر على المناخ، لكنها ستحيلك بالطبع إلى ملابس الأفارقة التي تتقافز ضحكاتهم منها، ملابسهم الضاجة بكل ألوان الفرح، وستعرف معنى أن تلبس امرأة سمراء فستاناً من السيمون لتغيظ به الشمس التي حرقت بشرتها وستعرف كيف يهرب قيظ الشمس على وقع طبولهم وجنون رقصاتهم.
في قريتي البعيدة غير الموجودة على موقع البحث «جوجل»، غير الموجودة ربما إلا في خيالي، نال أحد جدودي قطعة قماش لماعة تصلح كعباءة من نوع كان يسمى «إمبريال» لا أعرف إن كان هذا اسم ماركة القماش أم أن الاسم أطلق عليها هكذا لورودها من البلاد الإمبريالية، المهم أنه أعطاها للخياط الأوحد في منطقتنا ليحيكها عباءة ضد الزمن على مقاسه، ومرت الأيام على الحائك الذي اقتربت سنواته من السبعين بعينين تبصران بالكاد وصنعة ماهرة، وحين حين ميعاد استلام العروس صادف ذلك عز شهر بؤونة الحجر، عز قيظ الصيف، جدي الذي أوجعه ألا يرتديها وهو عائد على حماره إلى القرية، وضعها على قفا الحمار فسالت زاهية من الناحيتين، وحين بادره أحدهم قائلاً: عبايتك حلوة يا عم الحاج، باغته والحسرة تكسو وجهه: آه والله، بس إيدك على البرد.
ولأن جدي لم يكن يأمل في عمر سنة جديدة فقد لبسها فوق ثيابه في عز الحر وكلما سأله أحد يجد الجواب جاهزاً: «اللي يحوش البرد يحوش الشرد».
طاقية مكيافللي كانت تحمل دلالة كبيرة على الطقس، أمضى الليالي بملابس قليلة يشتغل على كتابه الأشهر «الأمير» عانده البرد كثيراً، كان يضربه في رأسه فتطير منه الأفكار، لبس طاقية ولم يجد وقتاً من البرد ليغسلها فعششت فيها البراغيث وراحت تقرصه في رأسه فهرب البرد إلى غير رجعة، لعل الألم الذي اجتاح رأسه من القرص هو الذي دفعه إلى صك مقولته الخالدة للأسف «الغاية تبرر الوسيلة» لتلعب في رؤوس ومناخ العالم كله من بعده.
لعله لم يك وحده في هذا المصير، إذ إن سلفادور دالي كان يلبس «بوطه» الضيق جداً بصعوبة شديدة، ليضغط على أصابعه وعلى عظام قدمه يكاد يفتك بها، وحين يصعد الألم إلى رأسه يكاد يفتتها يمسك ريشته ليفض بها عصارة الألم ويسكبها ألواناً على صفحته البيضاء
كان لنا نحن العرب نصيب أيضاً، ولكن في أغطية الرأس، في الطواقي تحديداً، ابن الرومي لعن اليوم الذي فكر فيه لحظة أن يلبس طاقية من الصوف، إذ اكتشف أنها تنحل رأسه وتغيب شعره، لعلها إشارة للعنة تعادل لعنته التي أصابت الجميع.
حديث الطواقي ممتد، انتشرت اللبدة في مصر وغيرها لتقي الرؤوس من البرد، لكنها استطالت في طاقية المخبرين الذين مازالوا يعملون بكفاءة في أجهزة البوليس العربية، واحتار الكثيرون في مبلغ استطالتها وأسبابه وإن توصلت الأبحاث إلى أن ذلك الطول الذي أضحى علامة مميزة لهم يشكل علامة على علو كعبهم على المتهمين أمثالنا أو على قرنائهم، لكن أحد الباحثين انبرى وقال: لكي يخبئوا فيها الممنوعات التي يدسونها بخفة وغلظة لمن تقع عليه القرعة ليصبح متهماً بين أيديهم وبالدليل الحي، ولعل ذلك أحد أسباب بداية انقراضها، كما ورد في كتب المؤرخين الجدد.
لكن لا بد للطاقية من صفحة بيضاء، في الرقصات الصوفية «الإشراقية» سترى تنورة المولوية بدائريتها التي تلملم نتف الضوء من الأرواح، تجمعه وتصره ثم تلقي به إلى الطاقية المخروطية العالية لتكون بوابة للصعود، بوابة للاختراق وللمس السماء، بوابة للوصل، تدور كطبقة واحدة بعيون في كل الاتجاهات، وحين يطير بك الوجد تحفظ لك تهدجك ورجاءك حتى تبلغ العتبات.
لم تنج الملابس من السياسة، وقد نال الرئيس السادات نصيباً هائلاً بسبب مواقفه السياسية، وهي معركة استخدم فيها سلاح الملابس بضراوة شديدة، فانتقده الشاعر أحمد فؤاد نجم وآخرون على ملابسه العسكرية الفخيمة وعلى الصرف على أناقته في الوقت الذي كانت الحالة الاقتصادية ليست على ما يرام، الذي تابع صور السادات منذ كان ضابطاً يجد تلك اللمحة الأنيقة في اختياره لكل تفصيلة في ملابسه، لكنه بز الجميع في ارتداء كل أنواع الملابس من البدلة الفاخرة حتى العباءة والجلباب.
في كاريكاتور للفنان الكبير صلاح الليثي، كان الملك فاروق ملك مصر الأخير يقف في شرفة قصره إلى جانب زوجته الأخيرة ناريمان، والشعب يناديه أسفل الشرفة لحل مشاكل المأكل والملبس، والملك يقول لزوجته المهندمة: ادخلي جوه الشعب عريان.
لعل المعركة الأخيرة التي استخدم فيها سلاح الملابس كانت عندما حاول البعض في تونس فرض الحجاب على النساء، إذ أخرجت السلطات سلاح «السفساري» من الماضي القريب وهو لباس يقترب من «الملس المصري» وأقل أنوثة من الملاءة اللف، وإن كان لا يعدمها ولا يعدم التدلل به، وراحت تضرب به بقوة، وأنه الملبس الحقيقي والتاريخي للمرأة التونسية، التي كانت بجسارة قد تخلت تماماً عن الاثنين.
لا أريد أن أعرج على الأمثال الشعبية لأكرر على المسامع: لبّس البوصة تبقى عروسة، ولا جملة أن فلاناً «رجل ملو هدومه»، لكنني لا يمكنني أن أغادر قبل أن أمر على الأغاني التي حفظت الملابس وأظهرت قيمتها، «يابو الطاقية الشبيكة والحزام» للمطرب القوي فهد بلان و«غازلاله يامه بايدي الطاقية» لفايزة أحمد وغيرها من الأغاني، خاصة التي تقاسمها لبنان مع مصر وعصام رجي يغازل وهو يغني: هزي محرمتك هزي، لكن كل ذلك يتجلى ويصل للمقام العالي حين تغني صباح ملكة الفرح بكل الفرح وهي تتغنج عن فستانها فتقول: فستاني يا فستاني، هوا شو قليل الذوق بيطير لي فستاني.
لكننا في مصر نضعها بحق بكل السخرية في مقام لا يحتمل السخرية، كانت فرقة حسب الله الشهيرة هي القاسم المشترك في الأفراح الشعبية – وهو ما تكشفه الأفلام المصرية القديمة – وكانت قيمة أهل العريس تقاس بعدد أعضاء الفرقة، وكلما كثر العدد كان ذلك مدعاة للفخر والنسب والحسب، ولما كان العازفون الحقيقون في الفرقة لا يتجاوزون أصابع اليدين في أفضل الأحوال فإن المتعهد كان يلجأ إلى حيلة بارعة، إذ كان يذهب إلى المقاهي لينتقي منها العاطلين عن العمل، يقدم لهم الملابس المعدة لأعضاء الفرقة، وكذلك يقدم لهم الآلآت الموسيقية، ويدخلون في الفرقة ويقومون بتمثيل أدوارهم، يمسكون على الأغلب آلات النفخ والطبل ويرتدون ملابس ملونة مقاساتها غير مناسبة لأجسامهم، لا يعزفون شيئاً ولا يقدمون نغمة لكن دورهم أصبح أساسياً ومعترفاً به، لكن الناس كانوا يعرفونهم، ويقولون فلان لابس مزيكا، ليس موسيقياً، لكنه فقط يرتدي ملابسها.
وانتشر التعبير في قاهرة المعز حتى أصبح يطلق تندراً على كل من لا يعمل عملاً حقيقياً، ولكنه يمثل دوره فقط، فيقال فلان لابس مزيكا.
منذ فترة كان عندنا نقاد مزيكا وانتشر في الهواء مطربون وسياسيون يلبسون المزيكا وعلماء أيضاً، لكن الأنكى أن التعبير أصبح يطلق على رؤساء بعض الدول فيقال: فلان رئيس مزيكا.
كل ما أخشاه الآن أن يقرأ رئيس التحرير أو مدير التحرير مقالي فيقولون: مقال مزيكا.
ربنا يستر من الملابس والمناخ.