خجلت لأنني رأيت علامات التعجب على وجوههم، ماذا حدث؟ هل اقترفت خطأ؟ هل هذا هو السؤال الأساسي ورسبت به؟ هل تلك علامة المجيدين من المخطئين؟ لكن لم يسخر مني أحد، لم تبد على وجه أحدٍ منهم علامة استهجان، كأنهم فوجئوا مثلي، رأيت من خجل الوجوه وحيائها أنني لم أقترف ذنباً، وتأكَّدت لأول وهلة أنني لا أستطيع أن أرفع طبقة صوتي، أن أعبِّر به عن الفرح أو الحزن، أو الصراخ به في كلتا الحالتين، يبدو أنني قلتها بطبقة واحدة، بنفس الطبقة والتون في كل المرات السابقة، مثل امرأة تنام تحت رجل لا تبالي به، هو غارق في غيِّه وهي تتفرج على التلفاز من خلفه وتصدر صوتاً واحداً كي تكتمل اللعبة.
كنا مجموعة من المعالجين النفسيين نتلقَّى دراسات الحصول على الماجستير في بولندا، كانت الدول الشيوعية هي الوحيدة التي تستقبلنا كأبنائها وتفتح لنا كل الأبواب والشبابيك، ونحن نحفظ أسماء رؤسائها ونعرف صورهم وصور لاعبي الكرة عندهم، وكانت صفحة كاملة من صحيفتنا الرسمية تكتظ في كل مناسبة بصور للرفيق ليش فاليسا أو للرفيق كيم إيل سونج نعلقها أحياناً بجانب صور القائد الخالد في غرف صالوناتنا المتواضعة، كنا نجلُّه كأبينا، لكننا بالطبع لا نجرؤ أن نحبه أو نحب أبانا أكثر من القائد الخالد.
الآن أتذكر تلك الحكاية: مذيعة شهيرة وصلت متأخرة بعد ميعاد حلقتها بدقائق بسبب مظاهرة تؤيد السيد الرئيس في ذكرى المولد النبوي، دخلت الاستديو مباشرةً، معد الحلقة كان قد ترك لها الأوراق ومضى، راحت تقرأ على الهواء مباشرة ما كتبه عن مناقب الرسول وجهاده وما لاقاه من عنت، وأنه القائد الأول للبشرية ببصيرته النافذة وشجاعته، وأن العالم كله يستمع لحكمته صباح مساء، عن رأيه السديد ودماغه الاستراتيجية، وحضوره فينا وقيمة حبنا له: “والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من أبيه وأمه“.
نحَّت الأوراق جانباً، رفعت حاجبيها بملامح متعجبة وقالت باستنكار واضح: يا الله، كأنه يكتب عن السيد الرئيس.
كنا واهمين واقعين في خطأ كبير أنها عن الرسول، لكن استخدام المذيعين والصحفيين لها وبخاصة في البرامج الوطنية ومباريات كرة القدم التي نفوز فيها، صحح لنا هذا الخطأ الفاحش كما صحح لنا أخطاء أخرى وقعنا فيها بسذاجة!
رفع البروفيسور يده وسأل بلباقة: هل هناك أحد غير بولندي؟
– أنا.
من أين؟
– من هناك.
– من أي دولة؟ بوجه باسم.
– أنا عربي.
– من أي دولة؟
– لا فرق، كلها سواء.
– قل آه.
– آه.
– اصرخ بكل ما بك من قوة.
– آه.
من الواضح أنني ما زلت أؤدي نفس الأداء القديم، وجوه زملائي تعكس الحقيقة دون الحاجة الى مرآة لأتأكد.
من فضلك انتظرني عقب المحاضرة.
البروفيسور يبدو لأول وهلة كمبعوث أخير للملائكة على الأرض، عيون مطمئِنَّة، لكن أجمل ما فيها أنها تطمئنك أنت، تحت نظارة بعيون زجاجية شفافة، كأنها ليست نظارة طيبة، بل نظارة للعياقة تكمل الوجه الوسيم، وجه رائق كأنه لا يشرب سوى الحليب والحب، وشعر فضي يليق بممثل كبر في العمر لكنه شعر حي يكاد ينطق كأنه في الصبا، بعض الرجال عندما يكبرون في العمر ويقتربون من الوداع تغيب لمعة شعورهم وتبهت كأنها إشارة، أنف منتصب بكبرياء غير محدودب، وألفة تلم هذا كله تحت ابتسامة حنون.
– سوري؟
– سوري، مصري، تونسي، كلها بلاد واحدة وكلنا واحد.
بعد المحاضرة كانت يده الطيبة على كتفي وابتسامته تحاصرني وسؤال يتيم:
هل تعرضت للتعذيب من قبل؟
أنا في الحقيقة لا أتذكر شيئاً سوى التعذيب وأشياء أخرى قليلة.
انمحت ذاكرتي تماماً. بيضاء. وكل ما أريده هو استعادتها، أحياناً يخيل لي أنني يجب ألا أستعيدها، ولكن ما بقي منها يتراءى أمام عيني طول الوقت قططاً سوداء، أسأل نفسي: ألم تكن هناك قطط بيضاء، ألم تمسني امرأة، لم لا أتذكر قصة حب واحدة؟ كمريض بالزهايمر يرى كل الوجوه وينساها.
قصة غرام يتيمة بقيت في ذاكرتي لأنني أرى صاحبتها صباح مساء، هذه المرأة هي الوحيدة التي أتمسك بها الآن كي لا يمحقني الزهايمر، هي القشَّة التي أستعيد كل تفاصيلها لأستعيدني.
لا أعرف هل فقدت ذاكرتي فعلاً أم أن هناك من تواطأ عليَّ لأمحو كل شيء، أم تواطأت أنا بفعل القهر لأنسى كل شيء وأكرس روحي لشيء واحد؟
يده ما زالت تربت وأنا انتبهت.
هل تعرضت للتعذيب؟
لا يا سيدي، تعرضت للعشق.
……………
*فصل من رواية “حذاء فيلليني”