و«حذاء فيلليني»، الصادرة عن منشورات المتوسط، حكايات متوالية ومتشابكة لا يملك الواحد أمامها، إلا الاستماع والاستمتاع لصوت وبصوت كل حكاية، حكايات تبدأ ولا تنتهي، تتشابك ولا تتشابه.
يأتي إهداء الرواية إلى «الذين صرخوا ولم يسمعهم أحد, إلي الذين لم يستطيعوا أن يصرخوا»، لكن ماذا يهديهم وحيد الطويلة؟
خرج «وحيد الطويلة» من عباءة «باب الليل» ولم يظل كامنًا في محيطها، فاللاعب المهارى يعرف أكثر من طريقة لإحراز الأهداف. وفيلليني إن كان دائمًا يحلم في فيلمه، وينتقل بين عالم إلى عالم آخر، ليعبر عبر المشهدية عن أحلامه، وكان يحلم بكتابة وإخراج فيلمه الواحد بعد الآخر. ووحيد الطويلة في «باب الليل» كان يبدو مغموسًا في معالجتها ما بين البحث و الرصد والتسجيل للنماذج والخيبات والتداعي، فهو في «حذاء فيلليني» يبدو أنه قد آثر الابتعاد، وأن يرى الأمور من منظور فوقي بعيد عن المفهوم الساذج للنضال والتحسر والولولة علي ما نعانيه وجر الماضي إلى الحاضر، ومحاولة إيجاد مخرج لهذا الجحيم الذي نعيشه، ولم يكتف بمجرد تسجيل تحولات، وما يقابل شخصيات أبطاله، حتي نوعية الزمان والمكان مختلف في حذاء فيلليني عما في باب الليل؛ تضارب الزمن في حذاء فيلليني ومواربة المكان عن الحضور، فضلًا عن البناء.
من البداية، يمكن النظر إلى العنوان كمدخل أو مفتاح للنص والعلاقة بين العنوان ونص المتن، علاقة متحركة باضطراد، حيث «تتقاطع وتتعامد عناوين مشاهد الرواية مع عناوين سيرة المخرج الإيطالي فيلليني»، كما يقول وحيد الطويلة في تصديره العكسي، في نهاية الرواية. وبالرغم من مكاشفة العنوان، إلا أنه لم يخل من المراوغة التي جعلته يتحرك دلاليًا ما بين التصريح والمواربة. تأتي العلاقة بين العنوان والمتن طارحةً صلة وارتباط لهما حضورهما اللافت تستحيل معها الرواية، كشريط سينمائي ساحر، متوزعة على أربعة عشرة مشهدًا، ونصف عددهم من الأشخاص هم «مطاع، أبوه، جارتهم، فيدريكو فيلليني، الجلاد، وزوجة الجلاد، مأمون».
فيلليني، الذي الدنيا كلها تعرفه، أضاف زخمًا توزع على طول الرواية ما بين حضوره هو ذكرًا وإسقاطًا وإلصاقًا ببطل الرواية حتى تسميته مجنون فيلليني»، بالإضافة لحضوره المجرد؛ حضور الفن في مقابلة السلطة، فيلليني، وفيروز، والرحباني قبالة القذافي، وبن لادن، وصدام حسين، وحضوره في المشهد الأخير من الرواية. وحذاء فيلليني، «أنت لا تعرف معنى أن تغطس إلى قعر البئر وحذاؤك كبير كحذاء فيلليني»، حذاؤه كنوع من الحماية للفن حين يطأ كل هذا الوسخ، وكمحاولة للوقوف والتعالي والسخرية تجاه كل شيء.
بدأت اللقطة الأول – مشبعةَ بالسخرية والمرارة– بمشهد واسع لمؤتمر، وصل إليه «الهر، عضو الحزب الحاكم» ثقيل الظل والرائحة. والحضور كأنهم «جنود جدد في معسكر تطوقه أسلاك شائكة وسط الصحراء». ومطاع مع غيره لا يعرف لماذا هو موجود أصلًا ولا سبب دعوته، هو مجرد معالج نفسي ولا يعرف علاقته بهذه اللعبة.
يُجر مطاع إلى السجن على ذنب لا يعرفه وجرم لا يتذكر ارتكابه. مطاع الذي يصير مطيع، وبعد كل هذا يجد نفسه معالجًا لجلاده، وزوجة الجلاد تحكي له كل ما نالها، كل ما ضجت منه وكل شوهها، وجسدها وهي كمفعول بهم ورغبتها في أن تكون فاعلًا، والجلاد يحكي كل ما هو منه كأنه يتلو مزاميره «أنتم من تصنعون الجلاد، ثم تطلبون منه أن يكون بشرًاعاديًا». ومطاع/ مطيع أمام نفسه وأمام جلاده ماذا يفعل ولمن؟ ثنائية الجبر والاختيار التي من خلالها يُعرَف الإنسان ما إن كان حرًا أم لا، يمارس حريته أم مجبور على فعل ما يملي عليها ومدفوع بكل ما حدث في الماضي أن يفعل ولا يفعل. الوهم يصنعه الواحد، أم هو الوهم يصنع الواحد، يتواجد الديكتاتور وحده، أم نخلقه؟ نقف ضده أم ننبطح أمامه؟ «هل تعرف شعور ماو،عندما تهتف باسمه ثلاثمائة مليون حنجرة في توقيت واحد.ما لا يمكن أن تراه أن عضلات الاستبداد تتورم في هذه اللحظة، تنتفخ، وإن العظمة في روحه تتمدد. في هذه اللحظة يولد ماو آخر اسمه الإله ماو. في هذه اللحظة تحديدًا يفقس الديكتاتور جلادين، يدخل في عقولهم، يبدل أمخاخهم، فيقدسونه ويسبحونه».
تأتي حذاء فيللني مُشكلِةً الجلادين والضحايا في شكل مخروطي، تشير إلي رأس المخروط وتشير إلي قاعدة المخروط. من الجلاد ومن الضحية «هل كل من عذب مجرما صار جلادًا؟ المجرم الحقيقي هو الذي يترك واحدا يعبث في مؤخرة الوطن أو حتى أنفه»، الكل أمام الكل، كل شيء مختلط، لا شيء سهل التمييز. لا شيء يسهل الحكم عليه، لا ميل إلى الجزم، إنما ميل نحو تعددية لاحتمالات أكثر. تبدأ الرواية بهذا ما حدث بالضبط وتنتهي بـعلي الأرجح، هذا ما حدث.
المرأة معادل العالم، بنص تعبير ساحر الحكي السينمائي بيدرو ألمودوفار، وحضرت المرأة في الرواية حضور كامل، حسيًا بأنوثة وجسد متكاملين، ومعنويًا بدلالة السعي للوصول إليها ورغبتها في الانتقام ورغبتها في الحب. كم وما الأجساد التي يجب أن تتواجد؟ جسد للمحنة؟ جسد للبهجة؟ جسده الذي شبع منه التعذيب كما يشبع الدود من جسم الميت، على مطاع أن يتذكره وأن يعيده ويستعيد طعم لسان جارته عليه.
اللغة تأتي متسقة مع الحدث ونبرتها تساير الحدث، تبدأ بمشهدية المؤتمر في اللقطة الأولي، وتلين في شاعرية أحيانًا، وتنتهي بصرخة فيلليني «لو كنت تريد قتلها ستفعل أفضل من هذا، أنت لست في مسرح الجريمة، أنت في سرير الحب، حتى ولو كان حبًا للانتقام يجب أن تشبعها لتشبع منها، لا تكن كالرجال الأغبياء». والشخصية والانتقال ما بين السرد والحوار وسيلة ساعدت في رسم الشخصيات. الصراع والتواتر، التوافق والتخالف. حضور السخرية كروح تحررية ملحمية في الرواية. أليست السخرية نقيضًا للموضوعية؟ كيف تشيد بناءً موازيًا للواقع، بناء كمرآة للواقع، انتقام منه، تفكيك له، هروب منه، تعالي عليه، سخرية منه؟
رواية الضد؛ ضد النضال الوهمي، والشعارات الزائفة، والهروب والتحايل. ليست مجرد رواية عن التعذيب والقهر بالرغم من وجوده في عصب الرواية، وإنما عن عالم الأعداء ضد الأعداء، حتى إن الواحد قد يكون عدو نفسه.
رواية الأحلام؛ حلم العدالة، حلم التخلص من الماضي، حلم التخلص من القهر والميراث الذي يثقلنا و«كليشيهات» الوطنية والوصاية، حلم العثور على الحب، حلم الانغماس دون خوف في هذا الحب. وربما اختيار فيلليني، السينمائي، والسينما محاولة لتسجيل الأحلام، يؤكد السعي لجلب ما حلمنا ونحلم به واقعًا. ففيلليني قد أخرج أفلامه عبر الاحلام، ووضعنا دائمًا أمام «حلمية فيللينية» صافية وخاصة به وحده.
كل شيء حلم، وعلاقتنا بالواقع ما هي الا امتداد لحلمحتى لو كان واقعًا مرعبًا. رواية عن التعذيب؟ ربما، ولكن التعذيب لم يكن سوى أساس أو دور أرضي بالنسبة إلي بناء الرواية، وربما هي لعبة الإيهام المفضلة لوحيد الطويلة.
تجميع ومونتاج وتركيب مشاهد التعذيب والرعب في مزيج بديع، لتخرج الرواية كـ«موزاييك» للرعب الممتع.