عقب هذه الأحذية التى ذخر بها التاريخ كلها، جاء وحيد الطويلة فكتب روايته الجميلة «حذاء فيلليني» وهى رواية ما بعد حداثية بامتياز، فيها يتبنى تقنيات التأمل، والانعكاس على الذات، قلب الأدوار وتبادلها، وكذلك التهكم، والإرجاء والنهايات التى لا تجىء، ويكون دخول فيلليني، فى كل مرة، قادرًا على تغيير مسار الأحداث، وعلى دخولنا نحن ايضا فى عوالم لانهائية من الحكي، والحكى المضاد، تقوم بذلك أصوات متعددة واصوات متقاطعة معها ايضا، إنها عوالم مفعمة بالأحلام، والازاحات، بالتوق إلى الحرية، والسعى اللاهث أيضًا وراء بدائل لانهائية لعالم قام الطغاة بتضييقه وبتحويله الى جحيم ارضى. يعيد وحيد الطويلة، هنا، النظر فى تلك البنيات الخاصة بالقمع والتعذيب وضياع الروح وكذلك الحب والفن والوعى الإنسانى بشكل عام، وهو يقوم بذلك من خلال اليات السرد المكثف والتكرار والتهكم والارجاء وغيرها من الاليات.
فى هذه الرواية، يصبح غير المألوف مألوفًا، يتم العلو والتجاوز للمستوى الحسى المادى المخيف المفعم بالتسلط والتوحش والوحشية ليصبح بنية جديرة بالتأمل والتهكم والهدم، هكذا يبدو السارد الرئيسى هنا وكانه قد توحد، من خلال ارادة مسلوبة، مع عدوه، فأصبح صنوا له، وقرينا، قِسما من ذاته، ما ان ينفصل عنه حتى يعود ويتحد به، وكأنه، هنا، يعيد التجسيد العرض، مرة اخرى لـ«متلازمة ستوكهولم» تلك التى تقع الضحية خلالها، و بسبب هول ما قد وقع عليها من ألم وتعذيب، فى حالة إعجاب وتوله بمعذبها؛ تتماهى معه، أو تتعاطف معه، وقد تلتمس له الأعذار ايضا.
قلنا إن هذه رواية ما بعد حداثية بامتياز، ؛ حيث تتبنى الحداثة السرديات الكبرى حول التاريخ والثقافة والهوية القومية والتقدم؛ بينما تشكك ما بعد الحداثة فى هذه السرديات، وتتبنى، عوضًا عنها، تلك الأفكار الخاصة بالسرديات المحلية والشعبية، كما انها تحرص ايضا على التفكيك المتهكم من تلك السرديات الكبرى والطرح كذلك لأساطير مضادة حول أصل الثقافات. كذلك ترى ما بعد الحداثة ايضا أن الإنسان، فى جوهره، منقسم، غير متمركز حول ذاته، له هويات عديدة متصارعة، على عكس الحداثة التى تتبنى تصورًا مغلقا يتعلق بفرد واحد، أو مجتمع واحد، موحد الخصال، متمركز حول نفسه، وله هوية واحدة؛ هكذا تؤمن ما بعد الحداثة، بالتشظي، والتعدد، وسقوط الأنظمة المركزية. سياسيًا واقتصاديًّا وإداريًّا. والقيم والمحتوى والمدلول؛ كما انها تتبنى تفضيلا للعب بالسطح، بالصور، بالدوال، بتعدد التأويلات ووجهات النظر، بالتهكم، والبناء والهدم، الفن فى الحداثة موضوع فريد مكتمل فى ذاته، أما ما بعد الحداثة فتهتم بالفن بوصفه عملية متطورة من الأداء والإنتاج وإعادة الإنتاج والتناص والتهجين.
هكذا يبدو لنا الراوي/ السارد – فى هذه الرواية – متهكمًا من السرديات الأممية والقومية الكبرى، ومتبنيًا ايضا آليات التفكيك لها، ومجسدًا حالة إنسانية فردية وجماعية منقسمة، وذات هويات عدة متصارعة. هكذا يبدو لنا مطيع/ مطاع، الشخصية المحورية فى الرواية منقسمًا فى ذاته، ولذاته، وبذاته، وكأنه صورة أخرى من صور الجلاد/ الكعب العالي، وصورة أخرى كذلك من صور مأمون «الواشي» ومن صور الشيطان، ذلك الذى يشعر بالخجل من أفعال البشر، وأيضًا من صور فيلليني، صانع الأحلام والأفلام، انه وكما لو كان، هنا، ومن خلال التكرار، يبقى ويستمر، ويواجه الموت والفناء، وكأن وجوده الفعلى يعتمد فى جوهره على وجود ذلك الآخر الموجود هناك. هكذا تتشظى الذات الإنسانية وتنقسم، هنا، وتتعدد مع تعدد الأنظمة المركزية، وتعدد خلخلة بنيتها الراسخة الراكدة وسقوطها، هذا على الرغم من أن هذه الانظمة تحاول العودة دومًا من جديد ولو من خلال أقنعة أخرى جديدة، مجرد أنبذة قديمة فى قنانى جديدة، لا تخدع إلا كل من هو قابل للانخداع.
تبدأ الرواية باحتفال حزبى حاشد، يجلس الجميع خلاله فى وجوم حتى يصل عضو الحزب الحاكم الممثل الأعلى للسلطة، وقد كان له ذلك الحضور الخفى الشبحى حيث «يمكن لك أن تستعير عين الشيطان، تحاول أن تختلس نظرة إليه لكنك لن تراه، هو بين رهطه حراسًا وخدامًا ومعاونين، لن تراه، لكنك ستحس به، ظله الثقيل يخنق المكان، رائحته الثقيلة أيضًا تتمدد فى الهواء».
يتلقى المعالج النفسى «مطاع» دعوة لحضور ذلك المؤتمر الحزبى الحاشد الذى هيمن عليه الصمت والخشية والخوف بسبب ذلك الحضور الكثيف الثقيل الخانق للسلطة وممثلها الأعلى، «وكنا خائفين وجلين نخشى أن تتحرك أصابعنا فى أحذيتها». هكذا تتم الرؤية للعالم، عبر هذه الرواية من أسفل ومن أعلى، من المستوى الأرضى الخاص بالأقدام والأحذية، إلى المستوى الأعلى الخاص بالحرية والأحلام والأفلام. وتتطور الأحداث خلال الحفلة «حيث كان الجميع يسكر ويكتب عن الجميع»، ويتم القبض على ذلك المعالج النفسى اثر وشاية، ويتم تعذيبه بقسوة حتى يتحطم أنفه، وبعد الإفراج عنه تدخل امرأة عليه عيادته وهى تسحب وراءها «تروللي» يحمل رجلا ضخمًا وقد التوى عنقه فى وضع ثابت ناحية اليسار، هنا تبدأ الرواية الحقيقية، هنا نعرف أن ذلك الراقد كجثة أمامه هو من كان قد عذبه، وأهدر كرامته وسرق روحه، عرفه من صوته الذى عاش عمره يدرب نفسه على ألا ينساه «كنت أستعيده فى كل ساعة، أردد كلامه بصوت عالٍ، ثم أقول جُملى بنفس الصوت، أقلده، رحت أحكى الحكايا بصوته حتى نسيت صوتي». يتعذب مطاع، والذى تحول اسمه الآن فأصبح «مطيع» يتعذب، بتذكره الدائم لجلاده، وكذلك بتقليده، ومحاكاته، وتكرار كلماته، وجمله، باستعادته دائمًا وتذكره واستحضاره، كأنه أمامه، ويتعذب كذلك بمحاولاته اليائسة للتغلب عليه، ولو على المستوى التخيلى الاستيهامي، لكن دون جدوى، وكأنه أصبح ملازمًا له كظله أو قرينه أو شبحه الذى ما إن يختفى حتى يعود. والآن وقد جاءته الفرصة، فهل ينتهزها؟ تتسارع أنفاسه عندما يرى ذلك الراقد أمامه وينادى على ممرضه ليست موجودة أصلا، يراقب المرأة التى أحضرت ذلك الرجل، يحاول أن يتأكد أنه ليس فى حلم، ويرى جملة فيللينى الخالدة التى علقها على حائط عيادته: «لا شيء أصدق من حلم، الأحلام آخر ما يموت».
يبدأ فى سرد حكايته الحقيقية، حياته بعد إلقاء القبض عليه وتعذيبه ثم إطلاق سراحه، وكيف عاش يعانى الأرق والكوابيس، كيف كان يصحو ولا يفيق ويقيم فى أرقه وينظر هنا وهنا بحثًا عن كوابيس تطارده ويطاردها، وكيف كان ينام والنوافذ كلها مغلقة، أو النوافذ كلها مفتوحة «لا أنام قبل أن أفتح كل الشبابيك، لا أنام قبل أن أغلق كل الشبابيك»، هذه هواجس ووساوس شخص وقع فى هذا التكرار الأبدى للأقوال والأفعال.
وتتوالى عمليات التذكر، وحيث نواجه نوعًا من التركيب البنيوى المعقد، عبر الرواية، وهو تركيب يقوم، فى جوهره، على نوع من الإرجاء الزمنى داخل النص، مما يجعلنا فى حيرة من أمرنا، فنكون غير متأكدين مما إذا كان ما نقرؤه سردًا حقيقيًّا، أو سردًا متخيلا، أو هو مزيج من الواقع والخيال. وهكذا يكون لفعل الإرجاء للحدث الأساسي، هنا، قدرة على إضفاء المعنى على السرد، وهو معنى يتم من خلاله الكشف التدريجى عن مصائر الشخصيات، عن سماتها ومشكلاتها، وكذلك عن تلك البنية المحركة لها والمحركة للواقع بشكل عام.
يقوم وحيد الطويلة من خلال خلقه لشخصية مطاع/ مطيع، وكذلك معالجته لها، ولعبه، أيضًا، وتلاعبه بها؛ بتجسيد هذه المعاناة والتعذيب. إنه يلهو، يسخر ويتهكم، يتفكه ويتندر، ويطرح توريات عديدة تتعلق بالطغاة والطغيان وايضا بسيكولوجية المسحوقين، «لابد من قتله»، هذا ما يقوله مطاع/ مطيع عندما يرى جلاده راقدًا أمامه: «هذا الرجل لابد من قتله وبوسيلة مقنعة لا تسمح له بأن يرى ملامح ملك الموت، ليظل مصعوقا فى قبره إلى أن تحين الساعة»، ثم إنه يستغرق أيضًا فى تخيل لحظة القتل هذه بل فى الارجاء المتكرر لها مع تعدد تفكيره فى اليات الانتقام منها وعجزه ايضا عن تنفيذ اى قرار. هكذا تتواصل تخيلات مطاع/ مطيع وتصوراته لعملية قتله لجلاده، لكنه ما إن يستقر على طريقة حتى يبدلها من حيث ديمومتها الزمنية، أو من حيث نوعيتها «الصعق السريع، أو القتل البطىء وارتسام علامات الفزع على وجهه» وتتوالى صيحات تتردد فى أعماق ذاته الضائعة عبر فقرات زاخرة بالتفكير بالتمنى والتفكير المفعم برغبات القتل للجلاد، لكن القتل ابدا لا يتم، وكأن ما استغرق فيه من تخييلات استيهامية وتعبيرات بلاغية قد اصبحت ساترا او قناعا يتخفى خلفه حتى لا يقوم بأى فعل حقيقي، بينما الجلاد ينظر إليه نظرة مفعمة بالسخرية منه والتعالى والبرود. «اقتله…. تقدم منه الآن، اقضِ عليه بطريقته الخاصة.. اجعله يذوق طعم الموت فى عينيك.. عذبه إذا.. عذبه حتى تتغير ملامحه أيضًا، حتى ينظر فى المرآة فيراك، يرى وجهك مرة ووجوه ضحاياه على التوالى واحدًا بعد الآخر.. فكر فى مائة طريقة لتعذيبه، وانتق منها الأبشع والأبطأ.. عذبه فقط حتى ينكر صوته، ويعى أصوات الآخرين.. عذبه.. حاول أن تعذبه».
هكذا استغرق مطاع/ مطيع فى هواجس وتهويمات تتعلق بالتعذيب والقتل – وهو يدرك أنه هو المعذب والمقتول – وأن قاتله لا يزال أمامه يعذبه ويقتص منه مرة، بعد أخرى – على الرغم من وجوده هذا الماثل أمامه – والذى يجسد سلطة شاخت وينبغى دفنها، لكنها سلطة تقوم دومًا من بين الأموات، تعود كشبح أو جثة – كرعب ماثل دائمًا لا يريم. طغاة يتجلون على أنحاء شتى، كلما مات منهم واحد قام آخر، و كل واحد منهم قرين لمن سبقه، ظل لآخر، صورة مرآوية منعكسة على متاهة مرايا تعددها وتحرفها على نحو لا نهاية وشيكة له. جسد ذلك «كوبولا» فى فيلمه الشهير «نهاية العالم الآن» بطولة «مارلون براندو» واعتمادًا على فكرة جسدها قبله «جوزيف كونراد» فى روايته الشهيرة «قلب الظلام». لقد انسحقت روح مطاع فتحول الى شبحٍ مطيعٍ، شبح يتحدث الى اشباح. لا تتحدث الاشباح إلا مع من هم أقل علمًا وأكثر اضطرابا من الناحية العقلية والوجدانية، ومطيع/ مطاع، فى اضطرابه وخلله، يظهر ويختفي، لا يكف ولا يتوقف عن تداعياته البعيدة والقريبة، ولا عن استغراقه فى مونولوج متدفق سيال يستمر يتواصل منذ بداية الرواية حتى نهايتها على الرغم من تعدد الاصوات بداخلها، وهى اصوات متعددة شتى لصوت واحد فريد.
.. يكتب وحيد الطويلة هنا عن الروح الإنسانية حين يصيبها السقم، ويعتريها الاعتلال، عن العدالة الغائبة، وعن ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، عن التوحش وتحول البشر إلى مسوخ، عن الخلل والعطب اللذين اصابانا، وعن التهكم، عن قوة الإرادة وصلابة الروح، عن الإرجاء الذى يجعلنا نتأمل هذه الروح، وتلك النفس الإنسانية أكثر فأكثر، عن الفن وعن التسامح والخيال، «أنت تعرف فيللينى وتقرأ قصص أجاثا كريستى يا ابن الكلب» هذا بعض ما كان يقوله الجلاد لمطاع/ مطيع أثناء تعذيبه، ويتوالى عبر الرواية الاستشهاد بمقولات لفيلليني، وتتوالى الإشارات كذلك إلى مقاطع من أفلامه، وإلى طريقته فى صناعة الأفلام، إلى ربطه بين الأحلام والأفلام، كما فعل كيروسادا بعده، وإلى إشارته الذكية البارعة إلى القتل «القتل واحد لكن يجب عليك ألا تتحول إلى خروف مفروم أو فروة ساخنة تحت الأحذية».
من الذى كان يحكى هنا، هل مطيع؟ هل مطاع؟ هل شخص ثالث هجين مسخ من هذا وذاك؟ ويظهر الشيطان لمطيع ويشجعه على تعذيب جلاده: «تعذيبه هو الحل الوحيد كلما قطعت جزءًا منه انطفأ، جرح فيك وانغلقت بوابات صبت الجحيم عليك. ويستدعى مطاع/ مطيع الشيطان كما يستدعى الجلاد وزوجته، ويستدعى فيللينى أيضًا، وتدور حوارات لانهائية متخيلة بينه وبين الكعب العالي/ الجلاد، وبينه وبين زوجته، ثم بينه وبين مأمون الواشي، ويخرج الشيطان ويدخل فيلليني، وكأننا فى مسرحية متخيلة يتم خلالها تبادل الادوار، وكأننا أيضًا أمام هاملت جديد، يقول فيلليني، لمطيع إنه قد ساعده كى يصل إلى حقيقة روحه، وانه قد سامحه فى موضوع الحذاء بل فرح به لأن خياله كان أقوى من الواقع، ويقول مطاع/ مطيع لفيللينى إنه حاول أن يكون نسخة أخرى منه، وأنه صار يرتدى قبعته وملابسه التى انتهت موديلاتها بل إنه أيضًا ابتكر له حذاء «قلت إنه الموديل الذى تفضله، مدبب من الأمام، رغم أن قدميك صغيرتان، على جسمك المهول وقدميّ كبيرتان»، ويحدثه فيللينى عن أهمية الأحلام ومغالبة نوازعه الفطرية التى تأكله، أن يدع الجلاد لحاله ويتقدم فى حياته وأن يحلم وإنه «إذا كان واجبًا أن يقتل أحدًا، فاقتل مطيعًا» يطلب منه أن يؤمن بنفسه، وأن يتخلص من خوفه، وأن يستمتع بالحب والحياة، والفن، وأن ينظر إلى الأحلام والمخاوف والهواجس والكوابيس باعتبارها جزءًا من الطبيعة البشرية: «أنا أؤمن بالعلامات وأعيش بالأحلام، حاول أن تصنع من القصة قصة أخرى».
يحاول مطيع أن يلتمس أعذارًا للجلاد، أن يبحث عن الانسى فى الوحشى وعن الادمى فى المسخي، يتهكم من ذاته ومن العالم ومن الاخرين والتهكم هنا له، على الاقل، معنيان، الأول: الاستهزاء، وهو معنى يضم التعرض للآخرين بقصد الهزء معهم وجلب كل ما هو شر لهم وضار بهم، والترفع عنهم والسخرية منهم؛ والثاني: الهدم: وهو تغيير كل ما هو قائم فى صورته وفعاله، ومن ثم إحالته إلى صورة مغايرة، فى بعض الأحيان يقوم التهكم بدور السخرية، فيدمر الشخصيات الأخرى، ومن ثم يشعر المتهكم، فى رأى نيتشه، بالتفوق المصحوب بالارتياح، لكنه، فى النهاية، من الممكن أن يصبح مثل الكلب النهاش، وقد كان مطيع يشعر بالتفوق المصحوب بالارتياح، وهو يتهكم من الجميع، ومن ذاته ايضا، من الافكار القومية والاغانى الوطنية والانتصارات الوهمية فاصبح، تدريجيا، مثل كلب نهاش، اصابه سعار، فلم يعد قادرا عن التوقف عن مواصلة النباح أو العواء، فى فضاءات روحه، تلك التى اصابها الخراب والخواء.
هنا نوع من الأغنية المضادة، إذا استخدمنا لغة ليندا هتشيون، فيها تحولت الرغبة فى الانتقام من الاخر، الى نوع من الانتقام من الذات، بل الى نوع من الاحتفاء بذلك الاخر، ذلك الموجود هنا، والموجود كذلك هناك. وفى فيلم تم تصويره، كى يشهد عليه، حضر كل من عذبهم الجلاد، كما تم الاستحضار لفيللينى نفسه كى يخرج مشهدًا طويلا كان أشبه بحفلة «ساتريكون» الايروتيكية المفعمة بالشهوات والرغبات، والتى جسدها فيللينى فى احد افلامه، لكن هذه الحفلة قد تحولت، هنا، ومن خلال اللغة والتهكم والارجاء الى عملية حفر مؤلمة، فى اعماق النفس الانسانية، فجسدت عذابات الروح والجسد معا، الفرد والجماعة معا، الماضى والحاضر معا، كما جسدت ايضا، محاولة ما، للشفاء من هذه الجروح.
لا ينبغى ان نتوقف اثناء قراءة هذه الرواية عند مستوى الحكاية، بل عند مستوى النص؛ فهنا نوع من البحث عن الذات من خلال الآخر، محاولة للسيطرة عليه من خلال الرمزى «اللغة» اذا استخدمنا لغة «لاكان»، ومحاولة ايضا لجعل ذلك الآخر اقل قدرة على احداث مشاعر الخوف والتهديد لدى الذات، محاولة للتظاهر بالألفة فى مواجهته، وتعبيرا ايضا عن شعور هذه الذات بالافتقار للشعور بالوجود الحقيقى والمعنى الحقيقي. وليس ما يجسده الكعب العالى هنا امرا جديدا؛ فقد تم تجسيده فى روايات وافلام كثيرة من قبل؛ الجديد هو انه يكشف، مرة اخرى، عن ان كل شيء فى حياتنا قد اصبح مخيفا ومهددا.
قد خضع جسد مطيع/ مطاع، وكذلك روحه، لتأثيرات قوى عديدة معلومة ومجهولة، قامت باختزال وجوده الإنسانى الحقيقي، فتحول إلى ما يشبه جثة تسعى ولا تسعى؛ جثة تتحرك وتفكر من خلال آلية شديدة الغرابة بالغة الجمود. وهكذا كان المونولوج الذى استغرق فيه مطيع/ مطاع وغرق اشبه باعتراف طويل زاخر بالهذاءات «الافكار المتسلطة المتكررة» وكذلك الهلاوس «الادراكات لوجود اشخاص وكائنات غير موجودة» فأصبح مريضا وهو المعالج اصلا، يحتاج الى علاج، صار روحا شقية تشبه ارواح دانتى الموجودة فى الجحيم. وهكذا استغرق فى نوع من اللعب بالكلمات، أو بالاحرى اللعب على الكلمات، وقد جسد هذا اللعب، على نحو لافت، اضطراب ذاته، ومحاولتها ايضا للانعتاق من كل ما هو مخيف ومرعب فى اعماقها. هكذا حاول ترويض ما يخيفه، من خلال النطق به، والسخرية منه، والتهكم، وارجاء المواجهة معه، كما لو كان، ذلك الآخر المخيف، وحشا، لا يمكن ترويضه الا بالكلمة والحب والفن والاحلام. والوحش الموجود هنا ليس هو الطاغية وحده، بل القارئ ايضا، ذلك الذى لم يعد يقنع بأية كتابة سهلة او مباشرة او متاحة. وقد حاول وحيد الطويلة ايضا ان يروض قارئ روايته هذه، وان يمتعه ايضا، فكانت كتابته اشبه بتمتمات السحرة والعاب البهلوانات والحواة.