سياسات البوح السردي: بين صوت السلطة وصوت الفرد المقهور في حذاء فيلليني

وحيد الطويلة: نحن الكُتّاب غلابة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

بن علي لونيس 

لقد أُلِّف عن التعذيب كتباً كثيرة، إلاّ أنّ كتاب ” حيونة الإنسان ” لممدوح عدوان من أهمّها و أخطرها؛ فهو لا يُقدّم لنا عملا أكاديمياً مسلّحا بترسانة من النظريات والمصطلحات المتخصّصة في هذه الظاهرة، بل صاغ تأملات إنسانية حول تجربتي السجن والتعذيب، انطلاقا من أعمال روائية ومذكرات من عاشوا التجربتين.

فللأدب القدرة على الكشف عن الأبعاد المختلفة لتجربتي السجن والتعذيب، لاسيما في ظل الأنظمة القمعية والاستبدادية (01). ولعلّ أهم الخلاصات التي انتهى إليها عدوان في كتابه، أنّ الاستبداد بكلّ أجهزته القمعية والقهرية قام بإعادة صياغة مفهوم الإنسان، وذلك عبر تجريده من أبعاده الإنسانية، وإنزاله منزلة الحيوان.

اتّفقت جلّ التجارب التي استعرضها عدوان بأنّ السجن والتعذيب يهدفان إلى تخريب مقومات الرغبة في الحياة عند الإنسان، وتعطيل جميع حواسه، وتدمير علاقته بالعالم. يقول: ” تاريخ الإنسان المقموع، وهو الغالبية العظمى من البشر، هو تاريخ الإنسان المتحوّل إلى شيء آخر غير الإنسان. هو تاريخ تشويه الإنسان وتزويره”(02)

الرواية وامبراطورية الاستبداد

تتأسس رواية وحيد طويلة “حذاء فيلليني” على الوعي بالصراع الاجتماعي والسياسي داخل المجتمع الاستبدادي، من خلال إبراز ذلك الحضور الكلي لأجهزة الدولة في حياة الأفراد، وفي لاوعيهم، وكذا من خلال إبراز حضورها الطاغي داخل الخطاب؛ وما قامت به هذه الرواية أنها وجدت الصيغة الأدبية لإبراز طبيعة الصراع بين السلطة و الفرد من جهة، وبين السلطة والفن من جهة أخرى، كأحد أقدم الجدليات التي مازالت تهيمن على الكتابات الإبداعية ( السلطة/ الفن).

الرواية هي نتاج هذا الوعي العميق بأصل الصراع الأبدي بين السلطة والوعي المتمرد عليها، وقد وزعت سرديتها على ثلاثة أصوات أساسية: صوت مطاع (الطبيب النفسي والمولع بالسينما وبالفن)، صوت الضابط/ الجلاد وهو الصوت الممثل للدولة الأمنية الاستبدادية، وصوت زوجة الضابط وهو الصوت الأنثوي المقهور. وهناك الصوت الخفي لفيلليني.medium_2017-07-12-a6b08da87a

والمشترك بين هذه الأصوات المتنافرة هي حاجتها إلى البوح والاستبطان والمكاشفة والحفر في دهاليز الذاكرة من جهة، وفي دهاليز الأحلام المخفية من جهة أخرى. يتساوى الجلاد مع ضحيته في هذه الحاجة إلى اللغة، بما هي نافذة للمكاشفة العنيفة عن أعطاب ممكنة، وعن رعب متجذر، وعن رغبات في الانتقام أو في الحلم والتجاوز.

شبح فيلليني: الفن أصل التهمة

يحضر شبح المخرج الإيطالي فيديريكو فيلليني (1920 -1993) في رواية وحيد طويلة، فإسمه يتصدّر عنوان الرواية ” حذاء فيلليني “. و أذهب إلى اعتبار هذه الشخصية السينمائية الفريدة من نوعها مفتاحا أساسيا لتأويل الرواية؛ فلا يظهر فيلليني فقط بوصفه مخرجا سينمائيا اشتهر بأفلام سريالية، ولا بوصفه نموذجا للفنان الذي يتحدى السلطة ، بل بوصفه الإطار المرجعي للسرد في الرواية ككل.

تتضح علاقة الرواية بهذه الشخصية المرجعية، حين يجد بطلها، وهو معالج نفساني نفسه متهما بالتآمر على أمن الدولة، فيلقى داخل زنزانة، ويتعرّض للتعذيب الشديد والمهين. ومع مرور الأحداث يكتشف أنّ تهمته هي علاقته المريبة بشخصية تدعى ” فيلليني”.

يُعذّب مطاع بسبب ولعه بأفلام هذا المخرج، وبأفكاره، ففي مكتبه كان يحتفظ ببعض الجمل العظيمة التي قالها، منها أنّ الأحلام هي آخر ما يموت. وهذه الجملة بالذات كانت كافية لتجلب له المشاكل مع حرّاس النظام. نكتشف أن من مهام النظام الاستبدادي مراقبة حتى الخطابات، والنبش في كلماتها وحروفها بحثا عن دلالات مريبة، أو عن رسائل مشفرة قد تسبب لها المتاعب.

كان فيلليني أكبر من مخرج سينمائي، بل كان شاعرا أيضا، ولدلالة الشعر ما يحيل على السلطة الرمزية للكلمة الاستعارية التي هي قريبة إلى لغة الأحلام، إنها المنطقة العصية على السلطة القمعية لبلوغها. وليس من المفارقة أنّ أفلام فيلليني كانت تصنّف ضد فكرة الالتزام السياسي، بل كان ضد حشر الفن في دهاليز السياسة، لأنها تفقده طابعه الحُلمي، وطابعه التمردي والثوري. الفن عنده هو الصوت الخصوصي للفرد، عكس السياسة فهي خطاب معادي للفرد، بل يقوم على تذويب الأصوات الفردية في بؤرة واحدة هي الصوت الجمعي الذي يغرد تحت سماء النظام الاستبدادي.

Director-Federico-Felliniقال فيلليني في مذكراته ” أعتبر السياسة، أقصد الرؤية السياسية للحياة، التي تطرح وتواجه مشاكل الحياة، باعتبارها مشاكل جماعية، أحد أشكال التقييد. عليّ الاعتراف بأني أبتعد بشكل غريزي، عن كلّ ما قد يؤدي إلى محو أو إخفاء أوتشويه الفرد وقصته الشخصية، من خلال رسم صورة واقع مجرد، رسم بياني في الفهم والتعرّف والمشاركة بهذا الحاجز دائما، الذي لا يمكن تجاوزه”. (03)

إنّ ما يهم في الفن/السينما هي هذه القصص الشخصية التي تختزن التجارب الذاتية المختلفة والمتنوعة عن الحياة، فهي تبرز الطابع الديموقراطي في الوجود ككل، حيث لا أحد يمكن أن يعيش تجربة غيره، بل التاريخ نفسه هو تاريخ كل تجربة ذاتية. لهذا تقف السلطة دائما في وجه الاختلاف والتنوع، بل تجد أن محاربة الفن ومحاصرته هي أفضل طريقة للحد من توغل هذا الوعي الفردي في المجتمع.

السياسة بهذا المعنى، هي مشروع عزل الأفراد، ونفيهم داخل الخطاب الأيديولوجي الذي هو صوت المنظومة السائدة. فإذا كان الفن هو خطاب الذكاء الفردي، والابداع غير المقيد، فإنّ السياسة هي الخطاب الذي يخلق البلادة واللامبالاة. إنّ الفن ضد السياسة، لأنه يقظة الفرد.

يمتلك الفن قوة الاختراق والتجاوز، فقد تتمكّن السلطة من الفنان، لكنها لا يمكن أن تقتل الفن، أو أن تزج به في الأقبية المظلمة. صوت الفن، هو صوت الاحتجاج المزعج للسلطة.

إنّ سبب تعلّق مطاع بفيلليني أنّ هذا الأخير كان يحلم بأفلامه، وكان يؤلفها في رأسه دون اللجوء إلى كتابتها على الورق، وهي طريقة مثالية للتحايل على سلطة الرقابة، وتجنب مقص الرقيب. فلا يمكن للسلطة تعديل نص غير مكتوب، أو حذف فقرات منه أو تشويهه. هو بهذا الأسلوب الفريد من نوعه، يضع سلطة الرقابة أمام وضع حرج.

يبدو أن الضابط في الرواية قد وعى الخطورة التي يشكلها هذا المخرج، ما جعله يطلق كلمات التهديد والوعيد:” لو كان هذا الفيلليني عندنا لسحلناه “(04) إنه – أي فيلليني – النموذج المناقض للمخرج/ الفنان الوطني، الذي يبدع تحت مظلة السلطة، ويقبل بشروطها. الفنان الوطني هو الذي رضت عنه أجهزة الدولة، وباركت أعماله الفنية.

التعذيب تقنية للمواطنة الرشيدة

تقوم الدولة الأمنية على سياسة الخوف؛ فهي أفضل وسيلة لإدامة عمر نظام سياسي، ولعل اللجوء إلى معاقبة الخارجين عن الطاعة أو المشتبه في نقص وطنيتهم هو لأجل إفشاء هذا الجو المريب، والسيطرة على الشعب.

إنّ جوهر التعذيب هو إلغاء الإنسان داخل الإنسان، وإهدار كرامته الإنسانية، أو أسطورته الشخصية، ” ذلك أننا لا نكون بصدد إيذاء شخص بل بصدد تدمير أسطورة شر وسوء، من وجهة نظر الجلادين” (05)

فمن أهداف التعذيب النيل من كرامة الإنسان وتدميره من الداخل، وفوق ذلك، زرع بذور الخوف في الرعية، وهي رسالة لمن تسول له نفسه للخروج عن الطاعة. إنها “حفلة الجلاد ” التي يرقص فيها تحت جثث رعاياه.

تصف زوجة الضابط المكلف بتعذيب مطاع الخوف بأنه ” سرداب عميق في الروح “(06). تعريف مهم، فقد جعلت الخوف مفهوما ميتافيزيقيا يتجاوز علاقته الآلية بمثيره، وهنا ترسم المعالم الواضحة لفلسفة الدولة الأمنية، والتي يجسدها زوجها الضابط، وهي فلسفة تقوم على تحويل الخوف إلى حالة ملازمة لوجود الأفراد، بحيث يصير الفرد مرعوبا طيلة حياته من كل شيء، أي من أي شيء له علاقة بالدولة.

حين سُئل الماغوط ذات مرة إن كانت تنتابه حالات من الخوف، كان رده سريعا وبمسحة من السخرية السوداء: صرت أخاف حتى من فاتورة الكهرباء حين أصادفها أمام باب البيت. إنه الخوف المطلق من الدولة، تصير الدولة ظلا للرعب الذي يلازم الأفراد، فيتسلل إلى داخل حياتهم، بل إلى دهاليز أحلامهم.

والخطر أن يتحول التعذيب إلى هوس حقيقي، وإلى حالة ارتياب مزمن من المواطنين؛ في الرواية ، يعذّب مطاع دون أن يعلم السبب الحقيقي، وإن كان فيما بعد يكتشف الأمر وهو علاقته بالمخرج الإيطالي المشبوه، وشخصية أخرى تعذّب لأنها أطلقت اسم بن لادن على مولودها الجديد، فأصبحت بسبب هذا الاسم متهمة بنشر الإرهاب والتآمر ضد الأمن القومي. وبالنسبة لفلسفة الدولة، فإن مكافحة الإرهاب تبدأ من الأسماء. نفهم من هذا، أنّ الدولة الأمنية تراقب حتى الأسماء، وتبحث عما يدينها. وبسبب هذا الهوس بالأسماء، تحوّل مطاع إلى مطيع.

من أبسط تعريفات التعذيب أنه إلحاق الأذى بالأجساد، لكن أخطر أبعاده أن يطال البناء النفسي للإنسان، كأن يصل التعذيب درجة كره الذات. تكره الذات نفسها حين تدمّر علاقتها بالعالم. ” هذا الرجل حطم ما بيني وبين العالم “(07)

في الرواية، يتحول التعذيب في وعي الجلاد إلى تقنية لمواطنة رشيدة، وكل مواطنة لا تتدخل الدولة في سبكها، هي مواطنة ناقصة أو مشكوك في هويتها. إنّ أكبر ما تصبو إليه الدولة الأمنية هو خلق فجوة عميقة – تتسع باستمرار – بين الفرد والعالم، وبين الفرد وذاته.

إنّ شخصيات الرواية تعيش داخل دهاليز الخوف، وتعاني من تفكك نفسي، ومن تشظي في وعيها بذواتها وبالعالم الاجتماعي الذي تنتمي إليه. إنها شخصيات اغترابية بامتياز، بمن فيها الجلاد نفسه؛ فهذا الأخير لم يعد يتعرّف على نفسه، ومن يكون، بل أن جهازه العاطفي و الأخلاقي معطل، ومن هذه الزاوية فإنّ ” الجلاد ذاته يتحوّل إلى مجرد أداة أو أسطورة” (08) هذا ما جعله في الأخير يلجأ إلى معالج نفسي وهو الشخص نفسه الذي كان يعذّبه، إنه يبحث عن طريقة لترميم ذاته. هو أصلا يدرك أنه مجرد أداة في يد رؤسائه.

ومن هذه الناحية، تسربت الرواية إلى المناطق الخفية في داخل نفسية الضابط من خلال الكشف عمّا يُعانيه من ضعف جنسي، وعجز عن ممارسة العملية الجنسية بسبب “العنّة”. وهذا النقد يبرز الأبعاد النفسية للتعذيب ليس من ناجية الضحية فحسب، بل من جهة الجلاد؛ وبالنسبة للضابط، فإنّ نشاطه الجنسي يزداد أثناء عمليات التعذيب، إذ يجد فيها تعويضا عن ذلك العجز. ولا يعدو نشاطه الجنسي أن يكون مجرد استيهامات جنسية، تدفعه، وبقوة إلى الاستمناء. تكتمل رجولة الضابط بصراخات ضحاياه، بتوسلاتهم، وبآلامهم القاتلة.

الجلاد يرسم صورته النمطية

الجلاد هو صورة تمثيلية عن الديكتاتور/ الحاكم، وهو يده التي يبطش بها. وباعتراف من الضابط في الرواية، فالذي يصنع الجلاد هو الشعب. يفقس الجلادون في عقولهم. ” الرعاع هم مطيته ووقوده “(09)

آلية الاغتراب في الرواية هي كالتالي: الرعاع يصنعون الديكتاتور، ثم يقدسونه ويعبدونه، ثم يخافون منه. إنها نفس آلية صناعة الآلهة من التمر أو من الشمع أو من الصلصال. يرتعد منها صنّاعها.

تفكك الرواية، إذن، رؤية الجلاد لمهنة التعذيب، ففي تصوره فإنّ الدولة في خدمة الرعاع، أما السجون ومراكز التعذيب فهي أداوت لضمان الأمن، فهي موجودة ” من أجل أن تسعد كل عين وتنام هانئة “.(10)

الجلاد هو بطل قومي، وما يقوم به هو في سبيل الوطن، وفي سبيل حماية الرعاع من أنفسهم ومن الآخرين. وأهم صورة يبنيها عن نفسه أنه ” أب” الجميع ” أنا مثل أبيك” (11)

تعذيب مجرم ليس جريمة؛ الفقهاء أفتوا بقتل ثلثي الرعاع لأجل أن يعيش الثلث الآخر في سعادة. إنّ تعذيب من يهدد أمن الدولة ليس جريمة، بل واجب شرعي ووطني وإنساني فوق ذلك. ليس الجلاد شخصا مريضا، إنه مواطن فوق العادة. إنه شخص نزيه، يصون هيبة الدولة، فما معنى للدولة إن فقدت هيبتها، لهذا وُجد “شيء يسمى الردع العام” (12)

وظيفة الجلاد، هكذا يقول الضابط ليس إقناع أحد بل ترويض الجميع. الترويض بمعنى إعادة تشكيل الإدراك والأفكار والقناعات والعواطف، وامتلاك الإنسان من الداخل. ومن آلياته حسب الباحث مصطفى حجازي: الاقتران الشرطي، إيقاف التفكير، التنفير من السلوك وأفكار التمرد.

يتم تربية الرعاع على عدم المساس بالدولة ولو داخل أحلامهم، فالدولة مزروعة في كل مكان، حتى في دهاليز الأحلام، تصبح الدولة “كلية الحضور ” في وعي ولاوعي الرعاع.

مأزق الكتابة عن التعذيب:

في لحظة مفارقة، تساءل مطاع: ما الحاجة إلى الكتابة عن التعذيب وفضح أساليب الدولة القمعية؟ فقد كُتبت المئات من الكتب والروايات، ومع ذلك مازالت الأنظمة تقمع من يخالفها، بل أن مراكز التعذيب مازالت تشتغل، والتعذيب مازال متواصلا، بأساليبه التقليدية و الجديدة.

ثم من سيدافع عن الكاتب الذي يفضح سياسات الدولة والتي تلقي القبض عليه وترمي به لعفونة السجون؟ فيلليني وجد الإجابة عن هذه الأسئلة، كان يقول دائما أن هذه الجموع لا تستحق أن يدافع عنها الكاتب، لأنها ستتركه يتعفن في سجنه، وسيرجع الجميع بعدها إلى منازلهم، ليمارسوا الجنس من شدة الرعب. الفنان غير معني بقول الحقيقة للجميع، فالشعوب تعشق الكذب: ” لا تنتظر أحدا يصدقك مهما كنتَ صادقا “(13) هكذا قال فيلليني.

البناء الفني للرواية:

تنتظم الشخصيات في الرواية عبر نمطين من العلاقة السلطوية: السلطة السياسية التي يمثّلها الضابط، والسلطة المعرفية والفنية التي يمثلها مطاع، والسلطة الذكورية التي تخضع لها زوجة الضابط. وتتوزّع علاقات السلطة في الرواية داخل فضائها السردي.

تتهندس الرواية عبر إدراكها لأبعاد هذا الصراع بين القوى الاجتماعية، وهي لا تساهم فقط في تحريك عجلة السرد، بل تجسّد الإطار الفني لرؤية الرواية للعالم. ما يهمّ في هذه الرواية، هو توزيعها للأصوات السردية بين الأطراف الفاعلة في هذا الصراع، لكن من خلال اللجوء إلى تقنية التداعي النفسي الحر؛ فكامل اللعبة السردية قامت على هذه المكاشفات النفسية التي قامت بها شخصياتها بدءا من زوجة الضابط إلى الضابط المكلف بالتعذيب وصولا إلى مطاع وهو الشخصية المحورية في الرواية.

وبالعودة إلى هذا الأخير، فمطاع يؤدي وظيفتان، وظيفة المتلقي لمكاشفات الضابط وزوجته، ووظيفة المكاشفة الذاتية عن تجربة التعذيب التي مرّ بها، وعلاقته بهذا الضابط نفسه الذي كان مكلفا بالتحقيق معه.

قابلت الرواية إذن بين الجلاد والضحية في لعبة سردية قائمة على المكاشفات النفسية والاستبطان العميق لأعطاب الذات؛ إذ تبدو هذه الشخصيات تعاني من أعطاب كثيرة، وهي تشترك في كون تلك الاعطاب من نتاج منظومة سياسية قهرية؛ فلا يوجد فرق بين الجلاد والضحية، لأنّ كليهما ضحايا جهاز هائل هو الدولة.

لقد انتهى مآل الضابط إلى مصحة نفسية بعد إحالته على المعاش، فقد انتهت صلاحيته في نظر الدولة، وانتهت وظيفته بأعطاب كثيرة منها عجزه الجنسي.

ولقد أشرنا فيما سبق، أنّ الجهاز الجنسي عند الضابط مرتبط عضويا بعملية التعذيب. أما زوجته فتعاني من الرعب المزمن، من اكتشاف أنها ذهبت ضحية وهم، وأنها كانت تتعرض لاعتداءات جنسية من قبل زوجها العنيف، وهي تبحث عبر لجوئها إلى مطاع إلى تجاوز محنتها وإيجاد طريقة مثالية للانتقام. أما مطاع فكان يبحث عن إجابة عن سؤال مؤرق: ما الذي فعله حتى تعرّض للتعذيب؟

تقنيا تنتمي هذه الأصوات السردية إلى ما يسمى بالراوي أو السارد الحاضر؛ أي سارد وشخصية فاعلة داخل الرواية، ومن خصوصيات هذا النوع من السارد أنه يحكي قصته فيحلل ويُسقط المسافة بينه وبين ما يروي” (14). فالسرد يتميز بطابعه الذاتي، والحميمي، والجريء أيضا، حيث تسقط الحواجز بين الشخصية وقصتها التي ترويها.

إنّ بناء الرواية على هذا التوزيع الصوتي لفضائها السردي هو نوع من المعارضة الذكية للخطاب الأحادي للسلطة، فنحن إزاء استراتيجية سردية ديموقراطية، تمنح للجلاد كما للضحية نفس المساحة الخطابية للبوح، دون أن تقصي طرفا من الأطراف، ودون أن يتدخل الروائي في الحكم على إحدى هذه الأطراف. ترك المهمة في اعتقادي للقارئ.

…..

إحالات المقال:

1. يمكن أن نحصي عددا كبيرا من الأعمال الروائية عالمية وعربية والتي اشتغلت على موضوع الاستبداد والديكتاتورية وتجارب التعذيب، وسنذكر أمثلة على سبيل التمثيل لا الحصر: رواية ‘السيد الرئيس) لميغال أنجل أستورياس، رواية (أيام قوس قزح) لأنطونيو سكارميتا، رواية (خريف البطريرك) لغارسيا ماركيز، رواية ( المستلبون) لدورالي يلماز، حسام الدين خضور في روايته (العودة من الأبدية)، سمير قنوع (أنشودة البرد والحرية)، عبد الرحمان منيف (شرق المتوسط)…إلخ

2. ممدوح عدوان، حيونة الإنسان، دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع سوريا، ط06، 2016، ص96.

3. فيديريكو فيليني، كيف تصنع فيلما؟ تر: ناجي رزق و سهيلة طيبي، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث كلمة، ط1، 2010، ص265.

4. وحيد طويلة، جذاء فيلليني، منشورات المتوسط إيطاليا، ط01، 2016، ص120.

5. مصطفى حجازي، الانسان المهدور ( دراسة تحليلية نفسية اجتماعية)، المركز الثقافي العربي، بيروت والدار البيضاء، ط1، 2005، ص129.

6. الرواية، ص32.

7. الرواية، ص58.

8. مصطفى حجازي، الانسان المهدور، ص153.

9. الرواية، ص94.

10. الرواية، ص 94.

11. الرواية، الصفحة نفسها.

12. الرواية، ص100.

13. الرواية، ص43.

14. يمني العيد، تقنيات السرد الروائي (في ضوء المنهج البنيوي)، دار الفارابي بيروت، ط02، 1999، ص139.

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم