عشق وسياسة وغربة وراء “باب الليل”

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 82
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

هويدا طه

أسهل شيء أن تتسلل

في الأرض غير المستوية

طالما أنك تعرفها جيداً، وحرثتها من قبل

في ليالٍ غير مقمرة

من رواية “باب الليل”.. تأليف: وحيد الطويلة

ذات مساء كنت أجلس مع أحد الأصدقاء في مقهى مطل على البحر نرقب حركة الناس.. نتلصص على وجوه رواد المقهى، بينما نتجاذب أطراف الحديث.. أحاديث المقاهي عادة تقتحم كل المواضيع بلا خجل ودون سابق ترتيب وبلا أي أجندة أولويات، السياسة والأدب والاقتصاد وكرة القدم والسينما والشعر.

في ذلك المساء أخذنا الحديث عن الرواية العربية.. وأثناء الحديث عن الروايات والروائيين قال صديقي:

تُعرف الروايات بسطرها الأول.. خذي مثلاً:

كل العائلات السعيدة متشابهة، وكل عائلة تعسة هي عائلة تعسة على طريقتها الخاصة

السطر الأول في رواية “آنا كارنينا”، للكاتب الروسي ليو تولستوي.

من بعد ذلك اللقاء، ظللت كلما قرأت رواية اتوقف قليلاً بعد قراءة سطرها الأول.. ثم أعود إليه مجدداً واقرأه ثانية قبل أن أمضي في قراءة كل الرواية.

في تلك اللحظة الخاطفة التي توقفت فيها أمام السطر الأول.. اكون كمن التقط صورة لشيء ما، بعدها تستقر في وجداني صورة للرواية.. التي لم أقرأها بعدْ!

كل شيء يحدث في الحمام”.. رواية “باب الليل” تبدأ سطرها الأول: “كل شيء يحدث في الحمام”.

استقرت في وجداني إذن ومنذ الوهلة الأولى صورة الرواية.. رواية تروي ما يحدث في الحمام.. كل شيء يحدث في الحمام.. “حمام المقهى بالطبع”، تسعفك الرواية بعد سطرها الأول، فأحداثها كلها تدور في حمام عام.. زاوية منه للرجال وأخرى للنساء، وهناك في الجوار مقهى تديره سيدة خبيرة في كل شيء.. من الجنس إلى السياسة إلى الزواج والأطفال إلى شئون الأمن والهجرة، ورواد الحمام.. بالطبع.. يتبادلون أرقام التليفونات، فكما يحدث كل شيء في الحمام.. أيضا يتوفر كل شيء في الحمام.

بقى أن نقول إن هذا الحمام هو في تونس.. المقهى تونسي، والحمام تونسي، ورواد الحمام تونسيون وعرب وأجانب، وكاتب الرواية مصري.

أبو جميل يسّلم عليكم”.. حين يكون مسرح الأحداث في رواية هو حمام عام ومقهى، فالجنس والشبق وحسرة الحرمان وأوهام الفحولة وعُمر الأنثى والغيرة.. ومعهم الفقر تغازله دنانير الباحثين عن اللذة المأجورة.. كلها قصص تتراقص في ذلك الحمام.. وتتبادل الكراسي في مقهى تديره سيدة خبيرة.. بخبرتها سمته مقهى “لمة الأحباب”.

يكشف كاتب الرواية سبب الاسم الآخر للمقهى “مقهى الأجانب”.. الكاتب نفسه أجنبي!

فهو مصري يعيش ويعمل في تونس.. لكنه أديب، نعرفه في مصر بعشقه للمقاهي.. يرتاد مقاهي مصر من القاهرة إلى أسوان، ويغازل النسوة حول كل تلك المقاهي ليغذي نفسه بزاد الرواية القادمة، يلتقط لنفسه مثلا صورا مع سيدة أسوانية تحمل فوق رأسها مشدة بلاص العسل.. يغازلها فتضحك في الصورة، وقبل أن يختزن صورتها مع البلاص يكون قد اختزن روحها ليكتبها ربما في رواية قادمة.

يصف مقهى الأجانب، ففيه فلسطيني ضمر حلمه بفلسطين، وسوري جاء للتجارة، ولبناني هارب من رصاص حروب أهلية صارت في لبنان حدثاً شبه يومي.. وعادي، وليبي يأتي بدنانيره سائحاً إلى تونس الجميلة.. ماذا تظنه فاعل بها؟! ومع بضع مصريين وخليجيين.. تعرف لماذا هو مقهى الأجانب.

أبو جميل يسلم عليكم”.. عبارة يقولها أحد رواد المقهى كبار السن.. مشيراً إلى عدته الذكورية وغامزا بعينيه لفتاة من فتيات المقهى.. تخرج معه إلى بيته.. لرد التحية.

لحم ولاّ فلوس؟

كل مومس لها قصة إنسان، وكل ذكرتمزقه الوحدة له قصة إنسان.. وحتى كل قوادة لها حكاية إنسان، رواية “باب الليل” لا تصدر أحكاماً على رواد المقهى.. تصفهم فقط.. تصف عوالمهم.. كل حكاية ربما تكون حكاية وطن كامل، أو نصف وطن، أو لعلها حكاية أسرة وربما حكاية إنسان واحد.. تصرعه الوحدة أو الحسرة.. وتتلصص عليه الرواية من وراء باب الليل.

بعضهم خان أو تعرض للخيانة.. بعضهم باع وقد يكون هو نفسه موضوع صفقة لآخرين.. بعضهم فشل أو خسر.. لكنهم جميعا يتألمون، هكذا تكون الروايات.. مشرطا يصنع جرحاً صغيرا في نفوس أبطال الرواية.. يمس عجزهم وضعفهم وخوفهم وألمهم.. فيسيل على الورق أدباً رقراقا.ً

واحدة منهن ركبت السيارة مع زبون:

تستقر في مقعدها بجانبه، تكاد تتذكر كل الكوابيس التي وقفت لها على حافة سريرها وحياتها، كيف باعت ولم تشترِ، تسأله:

لحم؟

نعم؟!

لحم ولاّ فلوس؟!”

كل شيء يحتاج لبنات الهوى

السطر الأول في فصل باب الهوى، لكاتبٍ مصري عاشقٍ للمقاهي ويجلس في مقهىً تونسي أغلب رواده أجانب، ماذا تتوقع من هذا الكاتب؟! فلأنه مصري لديه خبرة آلاف السنين في تمييز رعشة الناس من السلطة! ولأنه عاشق مقاهٍ، فهو قادر على ملاحظة كل حركة تدور حوله وكل كلمة وكل نظرة وكل إشارة، ولأنه أديب عرف كيف يربط بين فعل السلطة وفعل الهوى!

في المقهى رجال أمن ورجال سياسة ولا جئون ونشطاء ومناضلون وجواسيس أيضاً.. أديبنا لديه مشرطه، وبهدوء راح يغرزه في الحبل السري الرابط بين السلطة والهوى.. وقد كان!

سالت على أوراق الرواية حكايات رجال السلطة والنفوذ والمال مع فتيات الليل والهوى.. بمشرطه فتح كل الأبواب وسمى بها فصول روايته.. باب الليل.. باب الفتح.. باب الهوى.. باب الأقواس.

ووراء كل تلك الأبواب.. عشق، عشق الأنثى أو عشق البندقية، عشق الدينار أو عشق الذكورة.. تسلل الكاتب وراء تلك الأبواب ورأى العشق ثم عاد ليرويه لنا:

لا أتذكرحتى الآن إن كنت قد سلمت عليها أم لا، إن كنت مددت يدي، كلي ممدود منطلق في اتجاهها كموجة أطلقها البحر ولم يستردها

واحد من رواد المقهى يحكي لآخر.. حلمه بأنثى عشقها:

يؤانسان بعضهما طوال الوقت، يتعاركان حول أمريكا ثم يتصالحان ويحلمان بالسفر إلى العراق

حين توشك على إنهاء الرواية ذات الثلاثمئة صفحة تقريبا، وتشعر أنك مع مؤلفها فتحت كل تلك الأبواب، ورأيت في الحمام كل تلك الآلام، ورأيت الناس تنتشي وتفرح وتتألم وتبكي وتغدر وتساوم وتبلغ الأمن وتهرب من الأمن وتزوّر أوراقاً وتسرق أموالاً وترسل رسائل في أظرفٍ عليها طوابع وتبكي وتضحك وترقص، وتتذكر أن صورة السيد الرئيس – اعتبره أي رئيس – كانت معلقة في الحمام في بدء الرواية، لكن لست وحدك من يتذكر ذلك.. تلك المرأة أيضاً والتي بشكل أو بآخر تريد أن تتحرر من آلامها ومخاوفها، تتذكر كذلك صورة السيد الرئيس.. فالرواية توشك على الانتهاء.

كان صديقي يحدثني عن سحر السطر الأول في أي رواية.. وفي رواية “باب الليل” سرى في روحي ذلك السحر.. سحر السطر الأول، لكن رواية “باب الليل” أضافت إلى السحر سحراً، فكانت الأسطر الأخيرة ساحرة.

تقع عيناها على صور السيد الرئيس في مكانها من الحمام، لبرهة تنظر إليها، تستدير لتخرج، تغير اتجاهها نحوها ثانية، فجأة تركلها بقدمها، تتساقط مبعثرة على أرضية الحمام، تحملها بأطراف أصابعها إلى سلة القمامة.. كل شيء يحدث في الحمام

باب الليل” رواية كتبها أديب يعشق المقاهي ويهوى التسكع في الحمامات.. كي يعود ليروي لنا عن كل شيء يحدث في الحمام.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم