تعج رواية “باب الليل” بشخصيات كما هو متوقع مختلفة التوجهات والمشارب، لكنها ليست شخصيات نمطية بقدر ما تعكس ما كانت عليه تونس طوال العقود الأخيرة بعد أن انتقل إليها مقر جامعة الدول العربية بعد اتفاقية كامب ديفيد، وبعد أن تحولت إلى مقر لمنظمة التحرير الفلسطينية بعد طردها من لبنان خلال الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982.
من تلك الشخصيات هناك “أبو جميل” الدبلوماسي اللبناني الثري الذي يعكس نمط التفكير في المجتمع اللبناني فهو يعيش في المقهى على أمل إن تتبدل الأحوال في بلاده وتعلو طائفته كرسي الحكم فيصدر قرار بتعيينه سفيرا في بلد ما ليعيش أحلامه، والى أن تحين تلك اللحظة فهو يتأهب لها بحياة مماثلة وإن كانت أقل فخامة مما يحلم.
وهناك المناضل الذي بقي بعد أن فات زمن النضال أنه “أبو شندي” رمز ما خلفته نضالات الفلسطينيين بعد اتفاقيات اوسلو، لأن من وقعوها قبلوا بشروط ما توقعها عدد كبير من بقايا زمن النضال الفلسطيني، هؤلاء الممنوعون من العودة إلى وطنهم الذي ناضلوا من أجل العودة إليه، إسرائيل أمرت ووثائق اوسلو تضمنت تلك الأوامر، فأصبح المقهى اجترار لزمن فات، “يجلس في المقهى بملامح مكتفية بدون وظيفة ولا عمل ولا نقود تحسب سوى المنحة التي تأتيه من هناك” وحتى طاولته التي يجلس عليها ليست له دائما، يذهب إلى المقهى وحين يجدها مشغولة يجلس بالقرب منها حتى تخلو أو يخرج على أمل العودة ولا يعود تماما كما لم يعد مع العائدين إلى رام الله.
في هذا الإطار لا بد من وجود شخصيات نقية، أو تبدو نقية أو تبدأ نقية ليجبرها الواقع على مغادرة البراءة، تماما مثل “نعيمة” التي احترفت خدمة الزبائن مهنة شريفة لتوفر لنفسها ما تعيش منه بالحلال، ولإعالة شقيقتها التي تدرس وتكفلها حتى تقيها شر عمل مماثل لما تعمل، بعد أن إرهاقها العمل وتاقت إلى الراحة، وجدت ضالتها في إيطالي يمنيها بالزواج في بلاده فتقبله، ولكن سرعان ما تنقلب الأمور فينتهي بها الحال إلى أن يهرب بشقيقتها إلى بلاده، ومع ذلك ورغم كل شيء تغفر لها فهي شقيقتها. وشخصيات كثيرة بعضها “نموذج ممتاز لمناضلي المقاهي الكبار، إن لم يجد مناسبة يخترعها، يهبط على أي ندوة أو مناسبة، ينتهز الفرصة ويقبض كثعلب شبعان على الميكرفون ويشبع النضال نضالاً”، وهناك شخصيات أخرى متلونة على استعداد لتغيير الهوية وحتى الدين، ربما بحثا عن مكسب أو لمجرد لفت الأنظار.
كل هذا يجري تحت نظرها “صاحبة المقهى، مولاته، درة، درة الدرر” تجلس على مقعدها عند طاولتها القابعة في نهاية المقهى، في الزاوية الطويلة منه بحيث تستطيع من مقعدها أمام الجدار أن ترى المقهى كاملا بألعابه ومريديه”.
لكن سيدة المقهى لها أحلامها واحباطاتها أيضا مثل كل البنات المارات بمقهاها، في نهاية “باب الليل” تدخل الحمام أيضا، لكنها “تنسى لماذا جاءت. تقع عيناها على صور السيد الرئيس في مكانها من الحمّام… تركلها بقدمها، تسقط مبعثرة على أرضية الحمّام، تحملها بأطراف أصابعها إلى سلة القمامة”.
الرواية تبدأ بأبواب حمّام المقهى وتنتهي في الحمّام ذاته، نهاية الرواية “رؤية” لشيء كان من المنتظر أن يحدث، وقد حدث، إنها رواية قرأت الواقع وانتهت برؤية ما سوف يحدث وقد حدث، وربما كانت نبوءتها شيء كامن في تركيبة عالمها الذي ابتدعه وحيد الطويلة”
اللافت في هذه الرواية كما في روايته السابقة “أحمر خفيف” أن الكاتب وحيد الطويلة يتميز بين أبناء جيله في الاستخدام اللغوي الخاص جدا، والذي لم أعثر عليه أنا شخصياً سوى في أعمال الروائي محمد ناجي وبشكل خاص “خافية قمر” و”مقامات عربية”، الروائي وحيد الطويلة لا يحكي في “باب الليل”: حكايات كما في معظم ما نطالعه مؤخراً في روايات عربية كثيرة، بل يصف المشهد بلغة ناعمة أحيانا أو حادة في أحيان أخرى، قد تسرع أو تبطئ حسب دواعي المشهد.