غير أن جذوة هذا الجدل ظلت مستعرة وقيد العطاء الدائب بعد انتقاله لمزاولة رحابة حرفة الرواية. فباكورته السردية ” ﺃلعاب الهوى ” كانت عبارة عن ملحمة شعرية شعبية أعادت إنتاج اللغة المصرية الدارجة والموروث الشفاهي على نحو حداثي يتوسل بالكثير من التقنيات الكتابية والتجريبية التي نلفيها شائعة ضمن متن الرواية العالمية في نماذجها العليا، خاصة في جوانب تهم جماليات التفكك والتشظي ، التهجين ،التراسل اﻷجناسي، والأبعاد ” الحوارية ” و” الكرنفالية ” التي تمزج الواقع بالخيال ضمن نسيج تشعبي يصعب فيه تحديد الحواف الفاصلة بين ” المرئي” و” اللامرئي “، أو بين ” المصطنع ” و” اللامصطنع ” إذا ماشئنا استعارة بعض التحديدات من الجهاز المفاهيمي لجان بودريار.
أما عمله الروائي الثاني الصادر مؤخرا عن منشورات “الدار” بالقاهرة، والموسوم ب ” ﺃحمر خفيف ” فيؤكد من جهة أولى على علو كعب صاحبه وقدرته على بصم أسلوبه الخاص ، الذي يتميز بهدوء الأناقة ودقة الرياضيات دونما أدنى كلمة ناقصة أو أخرى فائضة كمن يكتب ليصقل المرايا أو ليشحذ الحجر الكريم على ظهر المسن، أما من جهة ثانية فيؤكد على سعيه لتجديد نفسه من الانخراط في مثالب التكرار والنمطية دون أن يتنافى هذا السعي النبيل لإعادة شحن القناديل بزيت نظيف كل مرة مع مبدأ أن الأعمال التالية للروائي مثل المدن التي تشيد على أنقاض السابقة.
ثمة مداخل ومقتربات كثيرة ومغرية للتسلل إلى الطبقات الرسوبية لرواية مربكة وجريئة في طرحها الفني من طراز ” ﺃحمر خفيف” مثل: المفارقة والعجائبية والسخرية واﻹيروتيك وﺃنطولوجيا الموت والحياة واﻹشتغال الشعري على اللغة ، غير أن الذي أثارنا بصدد هذه الرواية
ومايشكل في اعتقادنا أهميتها كواحدة من أفضل الروايات العربية خلال العقد الأخير، هو اشتغالها الذكي والواعي على منطقة ” بلاغة الإيقاع الروائي “. هذه المنطقة غير المأهولة التي غالبا مانجدها أرضا جرداء ومحروقة في الكثير من النصوص الروائية العربية المحدثة ،التي تهمل جانب ” الجبرية الإيقاعية ” كما ﺃسماها ميلان كونديرا في مؤلفه النظري ” الوصايا المغدورة “. جبرية تحضر في رواية ” ﺃحمر خفيف ” عبر ثلاثة أنماط للتشكل :
1/ إيقاع شخصي :
تستمده الروح الشريدة والمصغية إلى الأقاصي البعيدة لمبدع بوهيمي ومرتحل مثل وحيد الطويلة من المقاهي والفضاءات التي شهدت تخلق
وولادة هذا العمل. فإيقاع البشر والحواس والمشاهد والروائح والألوان والنميمة والأصوات والصموتات واللهجات وهندسة الأمكنة والنبض الساري بين أوصالها ، له حضور لافت ويشكل طرسا أو صورة خلفية مستترة ، غير مرئية ،ولاواعية داخل لوحة الأحداث التي تحوكها هذه الرواية. وتكفي العودة إلى( الصفحة266) من المؤلف للاطلاع على جغرافية المقاهي الغزيرة بين كل من تونس وقطر ، أو بين كل من القاهرة وكازابلانكا ، حيث استقر الكاتب مثل ” الملاك الصامت ” عند ريلكه ليخزن بذاكرته النوعية كل هذه الموتيفات ، قبل أن يدوزنها وفق مشيئة إيقاعه الذاتي أثناء عملية الكتابة.
2/ إيقاع الأسلوب :
ويتم تفعيله كدينامية داخل الرواية عبر آليات شتى ومدروسة مسبقا من قبل المؤلف لتحقيق سرعة السرد وتعدديته ، بطئه أو اتساقيته بغاية إنتاج الدلالات والكشف عن احتمالات المعنى الغائب ، يكفي أن نسوق منها : الحذف والتكرار والاستبدال والحشو والتوقف والوصل والفصل وحجم الخطوط وأدوات الربط وعلامات الترقيم والتقطيع التناسبي للمكتوب على البياض والالتفات عبر الضمائر وتكسير أنظمة التلفظ عند إنتاج المجاز والكناية والتشبيه والاستعارة. لكأنما وحيد الطويلة مثل ذلك الساحر الذي لايكل من حشر يده في قبعته ليخرج كل مرة ما لن تتوقعه بالمرة.
3/ إيقاع الشكل :
وهو الذي ينظم بنية المعمار داخل الرواية ، عن طريق التنضيد الذي اختاره وحيد الطويلة للفصول الثمانية عشر لمؤلفه. وهو تنضيد يرتهن في تشكيل هذا النمط من الإيقاع لوحدات قياسية تتحكم في قصر أو طول كل فصل ، عدد المقاطع والفقرات المشكلة له، تناوبات الموضوعات والوقائع والتيمات المبثوثة بين ثنايا كل فصل ، والمنظورات البوليفونية أو الواقعية أو الحلمية أو الاستطرادية التي تحكم كل مرحلة حدثية.
ومن خلال هذه الأنماط الثلاثة ، يتبدى بشكل شاخص أن رواية ” ﺃحمر خفيف ” اقتراح هارموني راق في بلاغة الإيقاع الروائي ، وصياغة بارعة لمآلات واقتصاديات نصية جديدة في أفق خلق” عروض روائي ” ينشط مخيلة الموسيقى داخل القاعات الفسيحة لجنس الرواية.
” الممر إلى عش العناكب ” : عنوان جميل وشائك لإحدى أعمال ﺇيطالو كالفينو الخالدة ، وهو ينطبق تماما على عملية تداول رواية مثيرة ، تجديدية ، واستثنائية من عيار ” ﺃحمر خفيف ” للمبدع وحيد الطويلة. الكثير من الجمال الأخاذ ، لكن بالمقابل يوجد في الممر المفضي إلى هذا الجمال الكثير من العناكب – بالمعنى العميق واﻹيجابي للتوصيف – التي تحتاج إلى قارئ نبيه يتقن تماما رشاقة” بيرسيوس ” كي يطير بنعلين مجنحين دون أن يسقط عموديا في ما ترسخ لديه من إقرارات التلقي ونماذجه الشائعة التي غالبا ما تخمد أنفاس المواهب القادمة من المستقبل.
إن وحيد الطويلة كاتب حقيقي قادم بجدارة من هذا الأفق تحديدا ، وعمله يستحق فعلا أن ننصت إليه بأذن القلب.