وحيد الطويلة: باب الليل رواية الانكسارات والهزائم

وحيد الطويلة: نحن الكُتّاب غلابة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حاوره :أحمد عبد اللطيف

تدور رواية باب الليل في داخل أحد المقاهي التي تستخدم لاصطياد الرجال، حيث العاهرات يبعن المتعة للنفوس المحبطة، وحيث يصير المكان المحدد أرضاً خصبة لكشف المجتمع التونسي  والعوار العربي. ينطلق العمل من الحب العابر ليصل إلى القضايا الكبرى، قضية معروضة على لسان الشخصيات، ويشغل الواقع العربي المكان البارز بين الصفحات، وبين هذا وذاك، يقع الإنسان، المهزوم على الدوام من أنظمة لتحافظ علي بقائها اختارت كسر كل ما يمكن كسره.

صاحب "باب الليل" الذي يكتب علي المقاهي، ويلقبه أصدقاؤه برئيس رابطة المقاهي العربية، يحدثنا عن عمله الجديد في هذا الحوار.

حاوره :أحمد عبد اللطيف

تدور رواية باب الليل في داخل أحد المقاهي التي تستخدم لاصطياد الرجال، حيث العاهرات يبعن المتعة للنفوس المحبطة، وحيث يصير المكان المحدد أرضاً خصبة لكشف المجتمع التونسي  والعوار العربي. ينطلق العمل من الحب العابر ليصل إلى القضايا الكبرى، قضية معروضة على لسان الشخصيات، ويشغل الواقع العربي المكان البارز بين الصفحات، وبين هذا وذاك، يقع الإنسان، المهزوم على الدوام من أنظمة لتحافظ علي بقائها اختارت كسر كل ما يمكن كسره.

صاحب “باب الليل” الذي يكتب علي المقاهي، ويلقبه أصدقاؤه برئيس رابطة المقاهي العربية، يحدثنا عن عمله الجديد في هذا الحوار.

أول ما يلفت الانتباه في الرواية أنها تدورفي تونس رغم أنك كاتب مصري.. لماذا اخترت تونس تحديداً لتكون عالماً لروايتك؟

ذهبت إلى تونس قسراً ، لم أذهب طواعية ، أخذت شلوتاً متيناً من أحد أعضاء فريق مبارك القومي للفساد والاستبداد، خرجت من بلد يخر الفساد من أنفه إلي بلد يسيل الفساد من عينه. الفارق ربما أن الفساد عندنا طبقات بسبب طبيعة الدولة المصرية وبيروقراطيتها علي مدي أزمنة طويلة، لكن الفساد في تونس  مع عدم التبسيط  كان في طبقة واحدة .

دعني أحدثك كصغار الفنانات حين تقول إحداهن إنها لم تختر الفن لكن الفن هو الذي اختارها, أقول إنني لم اختر تونس لكنها هي التي اختارتني وكانت رحيمة وفاتنة، هدهدت جروحي بطيبة أهلها وغنائهم، ففي تونس  غناء جميل، كل الذين تم نفيهم من بلادهم ذهبوا الي بلاد ترسم وتغني، وأنا ذهبت إلي بلد يغني غناء فاتناً، “من لا يغني لا يقاتل“.

لعلك تعرف أكثر مني الشكوى المريرة للمغرب الغربي من انهم يحفظون أغانينا وأفلامنا وأسماء أبطالنا وكتبنا وكتابنا عن ظهر قلب، بينما نحن لا نعرف من كتبهم سوى عبد الفتاح كليطو والجابري، وبعضنا لم يسمع بالمسعدي أو آدم فتحي. دعك من جميلة الماجري. أعرف أننا ربما كنا معذورين في زمن ما كانت فيه مصر حضناً كبيراً للدنيا وللموهوبين في العالم العربي، لكن لا عذر لنا الآن. هل تصدق أننا في مصر لا نعرف السيمفونية الفاتنة في الكون التي يغنيها عبد الوهاب الدوكالي أو نعيمة سميح، إذا سألت مصرياً عن دولة موريتانيا فلن يتذكر إلا اسم مختار ولد داده الذي كان صديقاً لنا أو يعرف جملة واحدة قالها عبد المنعم ابراهيم في أحد أفلامه ” يالك من شنقيط!” .

سأسر لك بسر، أنني تركت خلفي راتباً مهولاً في بلد خليجي كان أطفالي يعيشون فيه، وذهبت لأقتفي أثر كل تفصيلة، لتتسلل روح  في روحي، ركبت الف تاكسي أو طاكسي كما ينطقها ويكتبها أبناء المغرب العربي لأسال عن تفصيلة جوهرية في قلب روايتي، عندما حكيت ذلك للناقد الكبير د. جابر عصفور قال وهو يضحك: “هو كل واحد عاوز يكتب رواية يروح له”. خرجت إلي تونس بركلة ماضية، لكنني أحببت البلد ووقعت في غرامه وغرام أهله وأظنني أستطعت أن أغني من هناك.

الكتاب الذين نفيوا في الماضي كانوا في الغالب يكتبون عن بلادهم، يكتبون بالحنين، بعضهم كتب بالمصير الإنساني، وأنا مسكون بهذا المصير الذي يرصد امرأة في تونس   تجهز آلة الغزل لتعمل عليها، فتحيك لها في نفس اللحظة امرأة في مصر سجادة يرقدان معاً عليها، ينتصران بها علي عسف الدنيا واستبداد السلطة في البلدين.

في تونس  كانوا يسألونني دوماً بصوت خفيض جداً عن المظاهرات في مصر عن حركة كفاية، عن مقاومة السلطة، ثم صعدوا فوق حكاياتنا وأطلقوا ثورتهم قبلنا، مصير إنساني مشترك محمل بكل تفاصيل الثقافي.

تدور الرواية داخل مقهى أو كازينو تتجمّع فيه العاهرات، ومن خلال هذا المكان تُطرح كل الأسئلة الممكنة لتكشف من خلالها المجتمع التونسي   بشكل خاص والعربي بشكل عام..

 لماذا اخترت مجمّع العاهرات ليكون مسرحاً للأحداث؟

بائعات الحب يمتلكن وقاحة وشجاعة أن يقلن ويفعلن ما نقوله أحياناً لأنفسنا في الخفاء خلف أقنعتنا، العاهرات الطيبات أو قل بائعات الحب هن اللواتي نقلن وحولن المقهى من مقهى إلي كازينو كما تقول، إنها عملية جبارة و” تحول تاريخي” لا يقدر عليها إلا صاحبات خيال وإرادة، هن يرين مستقبلهن أمامهن مفعماً وشاقاً ببعض الأمل، لكن بواقي المناضلين شاهدوا نضالهم يحترق أمامهم لكنهم لم يستطيعوا حتي أن يروا دخان احتراقهم ليغمضوا عيونهم حزناً أو رضا. في المراقص والنوادي الليلية كما في المظاهرات تكتشف وتنكشف نفسك علي حقيقتها، تبوح بكل ما حاولت أن تخفيه كما قد تضعك واحداً في قطيع تفعل ما يفعلون مسلوب الارادة .

نظام زين العابدين بن علي كان أحد النماذح الفادحة للدولة البوليسية المصفحة كما قال حسنين هيكل، لا أحد يتحدث في السياسة إطلاقاً، كل المعارضين في المهجر أو السجون أو القبور، الناس تدور كثيران عمياء في فلك لقمة العيش مكبلين بقروض الدولة التي تجعلهم صنفا استهلاكياً ينامون قلقاً وكمداً خوفاً من تداعياتها وسوط نظام أغرقهم فيها، لم يبق لهم إلا كرة القدم، ناضلوا فيها نضالاً فاجعاً، لا تصدق أن الشعب المصري مهووس بكرة القدم، فالشعب التونسي أكثر هوساً، ولم يبق لنا جميعاً بعد الأهداف الضائعة والملغاة في كرة القدم إلا الأهداف الباقية في الجسد فجعلنا منه معركتنا الوحيدة لننتصر في شيء ما.

الأنظمة العربية كلها علي امتداد ثلاثين سنة أو يزيد كانت عاهرة بما يكفي لأن نحتقر حتي أجسادنا، كان لا بد من عاهرات طيبات يخففن جروحنا ويناضلن نضالاً حقيقياً نيابة عنا جمعاً ويحققن الانتصارات التي فشلت أنظمتنا فيها ما عدا الانتصار علينا، كان لا بد أن ننتصر أو ننهزم بصيغة أخرى.

هل تعرف أن معسكرات تدريبات الفدائيين الفلسطينيين  على القتال ضد اسرائيل كانت تتم في بلدان عربية شقيقة وغربية شقيقة أيضاً، أحد المعسكرات كان في الجزائرالشقيقة البلدالذي أحبه وبعد الانتهاء من فترة التدريبات العنيفة كان المقاتلون يذهبون الي حارات البغاء ليقضوا وطرهم لمرة أخيرة قبل أن يذهبوا في مهام قد لا يعودون منها. احدهم عندما دخل الي غرفة بائعة الحب وجدها تعلق صورة ياسر عرفات  رمز الثورة والنجم الساطع وقتها، بعد أن أخذته الدهشة لا أشك انه ناضل نضالاً عنيفاَ ومجيداً. الغرام وقود الجنود في المعارك يا سيدي وبائعات الحب الحقيقيات يصنعن غراماً حريفاً بمذاق يضمد جراح المذاق المر لنكساتنا المتتالية علي مر أعمارنا، وهذا مختلف بالطبع عن جهاد النكاح.

المشهد الذي لا يمكن أن يغادر ذاكرتي كان ليلة الانتخابات البرلمانية الأولي بعد خلع بن علي، قالت بائعة الحب لزميلتيها: اسهرا كما تحبان لكن يجب أن تكونا جاهزتين لنكون في أول الصف عند السادسة صباحاً، ساشدكن من شعريكما لتستيقظا. أنظمتنا قهرتنا جميعا ًرجالاً ونساء يا سيدي.

باب الليل” اذن، ليست رواية عن بائعات الحب ، هي حيلة الروائي كما أحسب وأتمنيذ لكشف عورات مجتمع تحصل فيه عاهرات مغبونات علي بعض الفتات، بينما من ناضل وزرع لم يحصد شيئاً، البعض فقط استطاع أن يربي الأمل كبذرة لثورات هدرت فيما بعد.

نجيب محفوظ لخّص العالم في حارة، بينما تلخصه أنت في مقهى.. كيف ترى فكرة تلخيص العالم في مكان؟ وما الجديد الذي قدمته الأجيال الجديدة لفن السرد بعد محفوظ، من وجهة نظرك؟

القضية أن تعبر عن حركة الصراع وعن الإنساني بأحلامه وكوابيسه في آن معاً، وهل تستطيع المفردات والرغبات التي تسير في فضائه أن تعبر عن الأشواق والهموم؟ مقهي لعابرين من أمتنا يكشف انكسارات مشاريعهم، ربما يتماهي أو يكشف عن انكساراتنا علي المستوي الجمعي وتظل أسئلة شخصياته هي بالضبط أسئلتنا. انظر إلي طريقة تخطيط منطقة جاردن سيتي وكيف أن الشوارع كلها دائرية! هل يعبر ذلك عن خوف السلطة آنذاك من جمهورها دون إخلال بمعيار البناء الحضاري؟ ليس هنالك شارع مستقيم، صبري حافظ في دراسة فاتنة عن جيل التسعينات كان يقارن بين عشوائية لغة الروايات التي صدرت في تلك الحقبة وبين ظهور العشوائيات في القاهرة، لغة منهارة في موازاة واضحة لانهيار المجتمع في تلك اللحظة، دون بنية محكمة أو حبكة موحدة .

نجيب محفوظ كان شارعاً مستقيماً، أما نحن فلا، ندور في عوالم وجمل دائرية تتشظي منا في منتصف الطريق، هو كقصيدة منتظمة من جميع نواحيها ونحن نعاكس قصيدة النثر بسرد تجريدي غالبا لا يخلو من بعض الضوء، هو حكيم ونحن اطفال شوارع.

تحطم العالم بعد نجيب محفوظ وتحطمت العوالم السردية حيث لا تختلف الكلمات عن العوالم نفسها وظهرت كتابة تستخدم شظايا ومتراكبات سردية ترفض أي إطار جامع- كما أن هناك صفة أخري أساسية لهذه الكتابة حسب حافظ نفسه- هي طريقة التعامل مع الحبكة حيث يتم التخلص من المواضيع المركزية والوسطية في الرواية التقليدية، محطمة أي تطور معياري في الحبكة ما يخلق اضطراباً جديدا داخل عالم السرد.

تشغل القضية الفلسطينية في “باب الليل” مساحة محورية، ومفردة “نضال” تتكرر بشكل ملفت.. كيف تنظر من مكانك كروائي لفكرة القومية العربية؟ وإلي أي حد تشغلك القضية الفلسطينية

نعود إلي الجملة الأثيرة بأن الإنسان حيوان سياسي، اسمع .. شاهدت أمي وأنا صغير وهي تخلع غوايشها وأقراطها للتبرع بها لمناصرة قضية فلسطين والمساهمة في المجهود العربي بعد هزيمة 67، قضية فلسطين كانت تجري مجري الدم، هل اقول كانت؟ لن أشنف سمعك بمأثورات عن المآسي العربية والصراعات الحقيرة التي أكلت من خبز القضية وتقوتت سنين طويلة عليها من أجل أن تمسك بعصا الحكم في عالمنا العربي، الذي يوجعني في قضية فلسطين أنه تم استخدامها لقمعنا طوال أعمارنا، المثال الأبرز في سوريا، التبجح بالنضال من أجل فلسطين لقمع الشعوب، هل تعرف أن طقوس عبادة الشخصية وصلت في سوريا إلي الحد الذي يقول فيه مثقف كبير لك: سأنتظرك في ساحة السيد الرئيس، ولا يجرؤ أن يقول لك في الهاتف ساحة الرئيس غير مسبوق بلفظ السيد، سوريا حافظ الأسد كانت المثال الأبرز، لعبت بكل الأوراق خارجها من لبنانإلى فلسطين من اجل ان تحكم البشر بالعصا والنار دون ان تقدم شيئاً حقيقياً، ما حدث في بيروت82 وما فعلته القوات السورية بعد ذلك سيندي له جبين البشرية طوال عمرها، الجيش العربي السوري قتل من الفلسطينيين أضعاف ما قتل الاسرائيليون للأسف، انظر إلي الصراع الفاجر حالياً فيما تبقي من فلسطين لتعرف مآل القضية، أحد أبطال رواية” باب الليل” يقول : في الماضي كانت المشكلة في عدد الأرواح التي استشهدت في سبيل القضية، الآن الهزيمة تعشش في الروح، بالطبع ليس ذنب الفلسطينيين وحدهم، التوانسة يتباهون دوماً بما جادت به قريحة بورقيبة من ضرورة أن نقبل التقسيم لنقف علي أرض كبيرة، ثم بعد ذلك نعمل بالمبدأ الذي طبقه مع الاستعمار الفرنسي لبلاده: خذ وطالب، حتي هيكل كتب ذلك وأن بورقيبة عرضه علي عبد الناصر الذي شاركه في وجهة نظره لكنه أضاف: أنا لا أستطيع أن أقول ذلك للجماهير العربية، اذهب أنت وقلها، وعندما قالها كان البيض والطماطم والاستهزاء نصيبه.

القومية العربية أجمل الأفكار لكنها ربما اصطدمت ذات يوم بأنظمة ثكلي رفضتها تحت الطاولة وعملت ضدها حتي ولو لم تستطع أن تقول ذلك علناً، ربما أحلم بتغيير الاسم ليقبل به البعض وأن تكون هناك قومية عربية حقيقية، لكن ذلك بعيد المنال وسط دول أصبحت قطريتها قوقعتها وحلمها، مصر أولاً، الأردن أولاً وغيره وغيره .

تم ابتذال مفردة نضال بما يكفي ولعلها حين ترد في سياق عمل بائعات الهوي تكشف سخرية الواقع منا، كل تنظيم يلعب علي فكرة ضيقة أو علي فكرة دينية ماضوية أو ضد الحداثة يقول لك أنه يناضل! ناضلنا بالأغاني الوطنية كثيراً في محبة الوطن، لكن الأغاني حتي الأغاني خرجت من القضية  الفلسطينية ، القضية الفلسطينية الآن في الحمام كما قالت رواية باب الليل.

يري بعض النقاد أن روايتك رواية جسد.. كيف ترى أدب الجسد؟ وكيف ترصد مدى حضوره أو غيابه في الأدب العربي؟

د. شيرين أبو النجا قالت بالحرف الواحد: إنها كتابة الجسد لا كتابة عن الجسد وامتدحت هذا الجانب بما يكفي، عندما ظهرت هوجة الكتابة عن الجسد كان البساطي رحمه الله يتعجب ويقول من يخاطبون بالضبط؟ هل يخاطبون الغرب؟ الغرب حل مشكلته مع الجسد إلا من تجليات جديدة حقيقية، هل تعرف أنني فكرت ملياً في عنونة الرواية ب: الجسد، لكنني خشيت التأويلات الصفراء، لم أكن شجاعاً بما يكفي، أعترف، إنها ايروتيكا البهجة، الايروتيكا التي تمتنع بل تتأبي ببهجتها ودقة حساسيتها علي البورنو، الذين لا يملكون الخيط الرفيع بين الإيروتيكا والبورنو عليهم ألا يتصدوا لكتابة الجسد، هل قرأت فريد أبو سعده حين قال: إنها حين تخلع سوتيانها في ظلام غرفتها كانت قططاً في مكان آخر تلحس خطامها وتموء.

روايتي رواية الانكسارات والهزائم، كل الشخصيات تقريباً مهزومة مثل مشاريعنا بالضبط، ربما أنا أحكي في لحظة إضاءة عن الجسد: الشيء الوحيد الذي نملكه وكيف انعكست عليه كل هذه الانكسارات والهزائم، وكيف يتجلي كفعل مقاومة وتشبث بحياة جديدة أو هكذا أردته، لكنه لم يستطع ان يغادر تلك المصائر المرسومة التي فرضتها عليها هزائمنا التاريخية.

كتابة الجسد في تاريخنا ربما كانت واقعة بين النفزاوي وأشباهه وابن حزم من جهة أخري كما قال محمد عيد ابراهيم، لعلي حاولت طريقاً آخر أو فتحت سكة أخري كما قال فريد أبو سعده، نظرتنا إلي الجسد في غاية الرداءة رغم كل ما يذخر به تاريخنا، علينا أن نتصالح مع أجسادنا أن نحبها بشكل حقيقي لنعرف معني الحياة .

تتميز لغتك في “باب الليل” بالعبارات القصيرة ذات الإيقاع، المحمّلة بشعرية تقترب للغنائية.. لماذا العبارات القصيرة؟ ولماذا هذه الشعرية بنفس الدرجة علي طول الرواية؟

إنها جملة القصة القصيرة أو الجملة قصيرة التيلة كما قال د. صلاح فضل، لعلك لا تعرف أنني عملت كثيراً علي جملة القصة القصيدة التي ابتدعها تورجنيف، وامتطاها الحبر الأعظم إدوار الخراط في وقت كانت عبارة عن صندوق مغلق، لكن لم تظهر نصوص تنقل المصطلح من استاتيكيته إلي مجري النهر القصصي لكنها سقطت في حجري آنذاك، هي جملة متوترة تمتح من الشعر من التكثيف من التوتر من نهايتها “ضربة المرزبة احيانا ” أنا ابن حكاءين في الحياة لكنني ابن شعراء داخل النص، لكن لا غنائية إطلاقاً، أكاد أجزم، انا أرقب منذ زمن غنائية محمود درويش وغنائية حلمي سالم احياناً دعك من غنائية التعساء أرقب غنائية آخرين، انظر أيضاً كيف يصنع وديع سعادة وعبد المنعم رمضان قصيدتيهما، أظنني أعرف كيف أخفي هذه الغنائية، ربما في فترة ما كنت ألعب علي إيقاع ما للجملة وألعب أيضاً علي كسر هذا الإيقاع، إنها طرائقي تجاه اللغة ، لكن في المجمل لغتي ليست بيضاء خالية من أي حمولات، ولست مشغولاً ألبتة بتحميلها بأي حمولات أيضاً، لكنني لا يمكن في رواية تمرح فيها كل هؤلاء النسوة المترعات بالشبق وبعض الغرام أن تكون لغتي بيضاء، اللغة البيضاء لا تجلب لك سر النساء.

الشعرية في الرواية يمكن النظر اليها بأسباب كثيرة ولا أريد ان أغلق باب التأويل علي ما أعرفه فقط، لكنك في رواية كل أبطالها الرجال وحكاياتهم مغلقة، حكاياتهم خلفهم يجرونها بتعب شديد، الرواية في بعضها تحكي حكايات رجال تمت وانتهت تقريباً إلا من مصير لن يخرج في النهاية عن كابوس من اثنين: كابوس أبيض أو كابوس رمادي، إنها تحكي عما مضي، لعل الشعر كذلك في أبرز وجوهه، ربما من هنا تجلت الشعرية دون غنائية ألبتة.

لا تعتمد “باب الليل” علي التطور الدرامي للحدث، بل إنها ربما لا تتقدم للأمام فيما يسمي بالبنية الأفقية.. حدثني عن رؤيتك للتقنية والبنية الروائية؟

أحد الروائيين الفرنسيين كتب ذات مرة رواية قال في مقدمتها مخاطباً القاريء: إنك تستطيع أن تقرأ الرواية من أي فصل وبدون ترتيب ولن تخسر شيئاً، طبعا أنا لا أملك هذه الشجاعة ولا أنت، هناك أبواب في الرواية يمكن أن تقرأها وحدها، لكنك لا تستطيع أن تغير بداية الرواية ولا مشهدها الأخير، لا تستطيع أن تتجاوز حمام الثورة الفلسطينية  المقهي ولا حمام الثورة  التونسية الذي ينفتح عليك من البداية لتجده متجسداَ أمامك في نهاية العمل.

فريد أبوسعدة قال إنه ليس هناك حدث يصَّعد رأسياً، بل مجموعة من الموتيلات بمسافة محسوبة بينها لتكون لك في النهاية المشهد النهائي. هل كل الانكسارات الشخصية والقومية كانت تستلزم بناء متكسراً متشظياً بهذه الطريقة؟ ربما كان ليكون أسهل لو أنني حكيت الحكاية بلسان ابو شندي الذي حمل ماضيه علي كتفه إلي المقهي ولم يبق له سوي حلم واحد بالخروج والعودة إلي وطنه، حلم حاضر مهما بدت استحالة تحقيقه، لكنه كتب بشكل أو بآخر.

هل كان من الممكن أن يصَّعد العمل عبر أحلام درة التي لا تنتهي، أو حتي بأحلامها التي لا تعرفها؟

لا أعرف الإجابة علي الأسئلة النقدية الكبيرة، البعض يتوسل بمرايا نجيب محفوظ ورواية أخري له، ليصنع رواية علي شاكلتها، سيحدثك البعض بتعال عن رواية أو بناء اللا بناء، ربما حاولت أن أطبخ طبخة مختلفة علي مقاس رؤيتي للانكسارت الشخصية والقومية، ولعلي لم أخفق.

في بعض مناطق الرواية، ذكرت أسماء حقيقية مثل الشاعر عبد المنعم رمضان، ونسبت له عبارة.. إلي أي مدي، في رأيك، يمكن للكاتب أن يكسر الإيهام بذكر تفصيلة غاية في الواقعية؟ وكيف تري الحدود بين الواقع والوهم في الرواية؟

نسبت له عبارتين، لو عدت إلي الجملة ستجدها علي النحو التالي ” كما يقول شاعر مصري اسمه عبد المنعم رمضان ” لو فكرت قليلاً في تقديري لشاعر ومثقف كبير أو محبتي الشخصية له لقلت الشاعر المصري وأكملت، لكنني حذفت الألف واللام إمعاناً في استمرار الايهام، ثم انني نظرت للنص كأن الدنيا كلها ستقرؤه، وكأنني أشير بطرف إلي مكان بعيد عال يقبع فيه هذا الشاعر، فعلت ذلك حتي يستمر ويستقر الايهام، الطريف أن بعض ضعاف النفوس قد يفهم الأمر علي عكس ما قلته أنت وأنني بعدم وضع الألف واللام لم امنح منعم ما يستحق، لكنهم لن يجدوا في شباك وقيعتهم سوي الأشواك. في متاهة الاسكافي درس كبير لناثر فذ في كيف تسرد ماهو ذاتي وما يختلط منك بالماء العام، عبد المنعم أحد منابعي الشخصية هو وجيله كاملاً بكل اخفاقاتهم ونجاحاتهم، لكنهم كلهم يشتركون في سبك النثر الفاتن.

كان حلمي سالم مولعاً بذكر أسماء أصحابه وحبيباته داخل النص وأماكنه، ولم يك يكسر هذا الايهام علي الاطلاق. أنا أكتب بالوهم وحتي لو قاربت واقعاً فإنني أنتظرحصاد فانتازيا الواقع دائماً، الحكاية كلها وهم لذيذ.

رغم جرأة موضوع الرواية، إلا أنها احترمت التابوهات الثلاث.. كيف تنظر لفكرة الرقابة الذاتية؟ أم هي رقابة المجتمع؟

لا هذا ولا ذاك، لو تركت للرقابة الذاتية كو ما كتبت بهذا الشكل، الرقابة كانت حاضرة بعد أن انتهيت من العمل، فكرت أن أسمي العمل “بنات الأحد ” خشيت من مدارس الأحد لكنني خشيت بحق أن يستغل التيار الديني الإسلامي الرواية ضد المسيحيين الذين أحبهم كشركاء حقيقيين في هذا الوطن، لم تخش الرواية حسب ظني – من الجنس لكنها كانت واعية لأن تتأبي علي البورنو، اقتربت حتي حافة الكأس ومن كل الأبواب التي تدار، غرقت السلطة في قعر درة باترونة الجنس دون خشية، بل وارتد قضيبها لحظة انكسارها. تراقب نفسك لئلا تسقط في الخفة، أو المجانية، أو حتي إعادة تكرار جملة، أزعم أنني أقول أزعم- حاولت ألا أكرر لفظاً أو حرفاً إلا بقصد, اظن ان هذا عمل في الرواية وليس رقابة.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم